"عودة الجمهورية: من الدويلات الى الدولة" مذكرات الرئىس اللبناني السابق الياس الهراوي، أول رئىس جمهورية ممارس بعد اتفاق الطائف، إذ أن الرئىس رينيه معوض قتل بانفجار في بيروت قبل أن يتسلم مهماته، وكان للرئىس الياس الهراوي ان يقود خطوات السلام الأهلي ويلملم أشلاء دولة ومجتمع مزقهما النزاع الداخلي والتدخلات الخارجية والاحتلال الاسرائىلي، وكان شجاعاً في مرحلة تتطلب الشجاعة، خصوصاً انه اقسم اليمين بعد رئىسين اغتيلا قبل مرور شهر على انتخابهما: بشير الجميل عام 1982 في اليوم الثالث والعشرين لانتخابه ورينيه معوض عام 1989 بعد سبعة عشر يوماً من أدائه اليمين. رئىس تطبيق اتفاق الطائف الذي يرى كثير من اللبنانيين انه لم يطبق بعد، وكان قد تحفظ وهو نائب مشارك في الطائف عن مواد في الاتفاق تقلص صلاحيات رئىس الجمهورية، وأبدى انزعاجه من ذلك في ولايته. في مذكرات الهراوي صراحة تميز بها وايماءات واشارات خفية عرفت عنه إذ يقول بالمزاح ما لا يريد قوله جدياً. ورأى غسان تويني في تقديمه كتاب المذكرات ان "لسان الرئىس الهراوي لم يوفر احداً ولا هو يعف عن احد من الذين خاصمهم او هم خالفوه، حتى في فترات التعايش في الحكم، من حسين الحسيني الى رفيق الحريري الى سليم الحص الى "الجنرال" عون والى "الحكيم" سمير جعجع، والسلسلة تطول الى حد ان ثمة من سيقول عن الكتاب انه سجل تصفية حسابات قبل فوات اوانها". يصدر كتاب المذكرات بعد اسابيع عن دار النهار للنشر في بيروت. وهنا الحلقة الاولى. إعداد: كميل منسّى في الثالث عشر من أيلول سبتمبر 1989 كلَّف وزراء خارجية الدول الثلاث السعودية والمغرب والجزائر، الذين التقوا في جدّة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، الأخضر الإبراهيمي التوجّه إلى بيروت والإشراف على تطبيق التدابير الأمنية، والإعداد لمؤتمر يجمع النوَّاب في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية في نهاية الشهر للبحث في حلٍ سياسيٍ للأزمة. ودعيتُ إلى اجتماع يعقده نواب التجمّع الماروني المستقلّ مع الأخضر الإبراهيمي، الذي كان يطوف بين الفاعليات لإقناعها بضرورة المشاركة في اللقاء في المملكة العربية السعودية، فاعتذرت من دون الإفصاح عن السبب. ووقت كان زملائي يبحثون مع الإبراهيمي في شأن مؤتمر الطائف في مكتب أوغست باخوس في بيروت، كنت أبحث مع عبد الحليم خدام في الموضوع ذاته في مكتبه بدمشق. عرضنا المواضيع المطروحة للمناقشة في السعودية، فأعرب نائب الرئيس عن عدم رضا سورية عن فكرة تمديد ولاية رئيس مجلس النواب لتصبح أربع سنوات، مشدداً على ألا تتعدى سنتين في أحسن الأحوال، وكذلك على ألا يتعدى عدد النواب 128 نائباً. وأضاف إنّ دمشق تعتبر على صعيد آخر أنّ الحدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية ليس في مصلحة البلد، لأنه لا بد من أن يكون للدولة رأس له الكلمة الفصل. وخلال الحديث أخبرني خدّام لأول مرة أنه تمّ منذ فترة تشكيل لجنة خماسية، تضمّ عدداً من كبار معاوني الرئيس الأسد المهتمين بشؤون لبنان، وهو من أعضائها مهمتها رفع تقارير دورية عن الأوضاع فيه وتقديم المقترحات. ثم قال: سأفشي لك سرّا. أجرى أعضاء اللجنة اقتراعاً في ما بينهم حول رئيس الجمهورية المقبل، فنال رينه معوض صوتين، وكان نصيبك ثلاثة أصوات. الرئيس الأسد الذي نقلنا إليه النتيجة اعتبر أنّ الاجواء العامة مؤاتية لرينه معوض إلاّ في حال عدم موافقة الرئيس سليمان فرنجية على تبنّي ترشيحه، وفي هذه الحال تعود الأفضلية إلى الياس الهراوي. عدت إلى بيروت من غير أن أفاتح أحداً بما جرى. بعدها بأيام دعا العماد عون النوّاب المقيمين في المنطقة الشرقية وبينهم أربعة مسلمين، إلى اجتماع في بعبدا للتشاور في جدول أعمال المؤتمر وتزويدهم بما سماه "توصيات". حضر اللقاء أربعة وعشرون نائباً فيما امتنع عدد آخر عن المشاركة فيه، بينهم نصري المعلوف الذي قال إنه في غنى عن آراء عون ليعرف كيف يتصّرف. وافتتح رئيس الحكومة الاجتماع بقوله إنه تجاوب مع الأخضر الإبراهيمي ووافق على لقاء السعودية، لأنه يعتبر أنّ الوقت بات مناسباً للبحث في مخرج سياسي للوضع. وأضاف أنه ارتأى التحدث معنا عشية السفر ليطلب منَّا أن نكون شديدي الحرص على استقلال لبنان وعنفوانه، وألا نضعف أمام الإغراءات والهدايا التي قد تعرض علينا. استرسل في هذا النوع من الحديث دقائق. لم أعد أتحمل فقلت إنّ هذا الكلام يمسّ بكرامة النوّاب ولا نسمح لأحد بأن يشكَّ في وطنيتنا وفي حرصنا على استقلال بلدنا. في اليوم التالي انتقل النوّاب، قسم من طريق مطار بيروت وآخر من طريق قبرص وفريق ثالث من باريس، إلى مدينة الطائف في السعودية. افتتح المؤتمر في الثلاثين من أيلول. كان من المفترض أن ينهي أعماله خلال يومين أو ثلاثة أيام، إلا أنه استمر ثلاثة وعشرين يوماً عشنا خلالها فترات صعبة، وتقلبات في المواقف كادت أحياناً تؤدي إلى فشله. كانت الجلسات صاخبة وخصوصاً عندما تطرّق البحث إلى تعديل بعض مواد الدستور، التي تحدُّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. خلال إحدى المناقشات طلبت الكلام وسألت عن هدف اجتماع الطائف، هل هو وضعُ حدٍّ للحرب وإيجاد صيغة للتعايش بين الطوائف، أم تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي؟ أمام استغراب الرئيس الحسيني حديثي أضفت: "هل من الطبيعي أن يُعطى رئيس الجمهورية مهلة خمسة عشر يوماً للاعتراض على المرسوم، الذي يقرُّه مجلس الوزراء ويصبح في حال إقراره مرة ثانية مرغماً على توقيعه، وإلاًّ يحق نشره من دون توقيع فيما هذا التقييد لا ينطبق لا على رئيس الحكومة ولا على الوزراء؟ لماذا تصّرون على إمكان عقد مجلس الوزراء في غياب رئيس الجمهورية، ومنعه في حال حضوره من حقّ التصويت على المواضيع المطروحة للبحث ؟ إنّ من الخطأ إلغاء حق رئيس الجمهورية في حلِّ مجلس النوّاب، لأنكم بذلك تحولون دون وجودِ رادع إذا أراد المجلس عرقلة الحياة التشريعية. وهل في العالم دولة ديموقراطية لا يحق فيها لرئيس الجمهورية أن يقترح على مجلس الوزراء حلَّ البرلمان"؟ وبعدما لفتتُ إلى أنّ مجلس النوّاب في لبنان حُلَّ مرتين فقط في تاريخه الحديث، الأولى في عهد كميل شمعون والثانية في عهد فؤاد شهاب تابعتُ: "وإذا أضفنا إلى ذلك عزمكم على جعل ولاية رئيسه أربع سنوات بدلاً من سنة، فإنكم ستجعلون رئيس مجلس النوّاب ديكتاتورًا والمجلس الحاكم بأمره في البلاد"، خصوصاً أن المهلة الممنوحة لإعادة درس القانون الذي يردّه إليه رئيس الجمهورية في فترة حدّدت بثلاثين يوماً، تُركت مفتوحة أي أنه يمكنه إعادة درسه بعد فترة طويلة تكون فيها ظروف البلاد تبدّلت، ولم تبق حاجة إليه أو في بعض الحالات يصبح مضراً بالمصلحة الوطنية". بعد الجلسة التي هدّدَ فيها الرئيس الحسيني بالانسحاب في حالِ عدم تثبيت ولاية رئيس المجلس أربع سنوات، ذكّرته على انفراد بالقول الشهير: "لو دامت لغيركَ لما آلت إليك". ويوم اجتمع مجلس النوّاب مباشرة بعد انتخاب الرئيس معوّض، لترجمة اتفاق الطائف إلى تعديلاتٍ دستورية اعترض نبيه بري معتبراً أنه ليس مقيّداً بما اتّفق عليه، وطلب تسجيل اعتراضه على تمديد ولاية رئيس المجلس. لا بدّ أنّ الحسيني ندم على اقتراحه وأنّ بري يتمنّى لو لم يسجِّل اعتراضه. كان من المتفق عليه مع المسؤولين السوريين قبل أن نتوجهَ إلى الطائف، ألا تتعدى فترةُ ولاية رئيس المجلس السنتين وأن يكونَ عدد النوّاب مئة وثمانية وعشرين. إلا أنّ بعض النوّاب رأى أنّ عدد الذين سيعيّنون سيفوق عدد المنتخبين إن اعتمد هذا الرقم، لذلك تمَّ التوافق على أن يكون عدد النوّاب مئة وثمانية موقتاً، على أن يرتفع العدد إلى مئة وثمانية وعشرين في الانتخابات المقبلة، وهذا ما جرى في عهدي في انتخابات 1992. لم يكن رقم المئة والثمانية هو النهائي الذي اعتمد خلافاً لما يقول البعض. شكَّل رئيس المجلس لجنة مصغّرة لوضع المشروع النهائي لوثيقة الوفاق الوطني، استناداً إلى النص الذي كانت أعدّته اللجنة العربية الثلاثية والنصوص التي وضعها عددٌ من الخبراء ومستشاري المجلس. وقبل وضع اللمسات الأخيرة على الوثيقة، آثار عدد من النوّاب موضوع انتشار الجيش السوري في لبنان. رُفعَ الملف إلى اللجنة الثلاثية التي كلَّفت الأمير سعود الفيصل البحث فيه مع المسؤولين السوريين. انتقلَ إلى دمشق يرافقه الشيخ رفيق الحريري وعادا منها بتوضيحاتٍ وردت في اتفاق الطائف، تنص على أنه بعد تحويل الاتفاق دستوراً ينسحب الجيش السوري إلى مشارف الجبل حتى المديرج وضهر البيدر، إلاَّ إذا طلبت الدولة اللبنانية بقاءه في مناطق محدّدة لحفظ الأمن، على أن يبقى في البقاع ريثما يتمُّ التفاوض على الانسحاب الكامل. ويعود انتشار الجيش السوري في مراكز في منطقة جبل لبنان لم يكن فيها من قبل، إلى رفض العماد ميشال عون تسليمَ السلطة إلى الشرعية وإصراره على البقاء في بعبدا، فحملنا على القضاء على التمرُّد بمساعدة الجيش السوري الذي دخلَ المنطقة للمشاركة في العملية. قبيل منتصف يوم الأحد في الثاني والعشرين من تشرين الأول اكتوبر وبعد اثنين وعشرين يوماً من المناقشات، صادق النوّاب بالمناداة بالأسماء ورفع الأيدي على النص النهائي لوثيقة الوفاق الوطني، التي أصبحت دستور البلاد الجديد بغالبية ثمانية وخمسين صوتاً من أصل اثنين وستين بعد انسحاب النائبين زاهر الخطيب وتوفيق عسّاف ممثليّ "الجبهة الوطنية"، احتجاجاً على رفضِ رئيس المجلس تسجيلَ تحفظاتهما على عدد من البنود الواردة في النص لا سيما منها ما يتعلق بعددِ النوّاب إذ أصرّا على أن يكون العدد مئة وثمانية وعشرين بدلاً من مئة وثمانية، ومطالبتهما بوضع جدول زمني محدّد لإلغاء الطائفية السياسية، وتغيُّب إدوار حنين الذي أصابته وعكة صحيّة ونقل إلى المستشفى، وامتنع حسن الرفاعي عن التصويت "لأسبابٍ قانونية" كما قال. بعد انتهاء عملية المصادقة على الاتفاق كان إجماع على دعوة الرئيس سليم الحص والعماد ميشال عون، لحضور اللقاء الختامي الذي ترأسه الملك فهد في جدّة ليباركا ما اتّفقَ عليه، وكنا نحلمُ بالعودةِ معاً إلى البلاد وقد طوينا صفحة الماضي لنبدأ يداً بيد صفحة جديدة. انتقل الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت لتوجيهِ الدعوة إلى "رئيسيّ الحكومتين". رفض عون الدعوة معتبراً اتفاق الطائف "هرطقة"، لأن النوّاب كما قال تجاوزوا صلاحياتهم على حسابِ صلاحيات حكومته الشرعية متهماً البعض منهم بالخيانة. عندها صُرِف النظر عن توجيه الدعوة إلى الرئيس الحص. مع الملك فهد في القصر الملكي استقبلنا خادم الحرمين الشريفين، الذي وقف رئيس مجلس النوّاب إلى جانبه يعّرفه بكل نائب يتقدم لمصافحته. عندما جاء دوري قدّمني الحسيني على الشكل الآتي: "معالي الوزير السابق الشيخ الياس الخازن". قلت للملك فهد: "يا صاحب الجلالة، أُعطيتُ لقب شيخ وأنا لست من المشايخ، وعرّفني باسم عائلة الخازن العريقة في تاريخ لبنان وأنا لا أنتمي إليها. إنني إذ أشكره أقدمُ نفسي. أنا الياس خليل الهراوي". في المساء تلقيت عشرات الاتصالات الهاتفية من اللبنانيين المقيمين في السعودية الذين شاهدوا الاستقبال على التلفزيون، وعددٌ كبيرٌ منهم من أبناء زحلة، يسأل ماذا قال لي الملك لأني ظهرت معه فترة أطول مما ظهر فيها سواي من زملائي وقلت لهم إنه سألني هل أنا الياس الهراوي المرشح لرئاسة الجمهورية؟! خلال الاستقبال ألقى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل كلمة رؤساء دول اللجنة الثلاثية التي رعت المؤتمر، وتحدث فيها عن السعي إلى تأمين بليوني دولار لإعادة بناء البنى التحتية في لبنان، بليون هبة من الدول الخليجية والآخر من الدول الغربية. لكن حرب الخليج حالت دون تنفيذ الوعد. لم أكن موافقاً، ولا أزال، على كل ما أُقرَّ في الطائف، لكن هاجس إعادة الشرعية وانتخاب رئيسٍ للجمهورية، وحلّ الميليشيات ووقف القتال وإعادة المهجّرين وتوحيد البلد، كل ذلك كانت له الأولوية عندي. وأخطاء الطائف التي تحدثتُ عنها في جلسات العمل ظهرت من الممارسة، وحاولت خلال رئاستي طرح بعض التعديلات التي تصوِّب عدداً منها. لم يقتصر البحث في الطائف على الوثيقة الدستورية، بل دار أيضاً في الكواليس ومع العواصم المعنيّة على اسم رئيس الجمهورية المقبل. رينه معوّض كان الأوفر حظاً نظراً إلى تأييد الرئيس حسين الحسيني وعددٍ لا بأس به من النوّاب ترشيحه، وكان لا بدَّ من استمزاج رأي دمشق في الموضوع لأسباب إقليمية والرئيس سليمان فرنجية لأسبابٍ محلية. انتقل الأمير سعود الفيصل يرافقه السيد رفيق الحريري إلى العاصمة السورية، في زيارة خاطفة وعادا منها بموافقة الطرفين إذ لم تعارض دمشق الفكرة والرئيس فرنجية كان أبلغ إلى المسؤولين السوريين أن لا مانع لديه من انتخاب معوّض رئيساً. على رغم يقيني أن رينه معوّض سيكون الرئيس المقبل، أصررتُ على ترشيح نفسي رافضاً محاولات الحريري لإقناعي بالانسحاب حرصاً مني، وخصوصاً إثر الشائعات التي سرت عن هدايا تلقّاها النوّاب، على أن أثبت أنّ قراري الحّر واستقلالية موقفي لا يرتهنان أياً كان الثمن. وقرر جورج سعادة ترشيح نفسه عندما تأكد أنني مستمر في ترشيحي. من الطائف توجَّهنا إلى المغرب والجزائر لشكر الملك الحسن الثاني والشاذلي بن جديد عضويِّ اللجنة الثلاثية على جهودهما التي أدّت إلى وضع وثيقة الوفاق الوطني، ثم عاد قسم من النوّاب إلى لبنان والقسم الآخر لا سيما منهم المقيمون في بيروتالشرقية، إلى باريس تفادياً لردِّ فعل عون ضدهم. نزلنا في فندق "رويال مونسو" في باريس، فيما سكن رينه معوّض وعدد آخر من النوّاب شققاً يملكونها في باريس. غاب رينه يوماً كاملاً ولدى عودته إلينا في اليوم التالي، لم يقل كلمة عن سبب غيابه ولم نطرح عليه أي سؤال. بعد عودتنا إلى بيروت عرفنا أنه توجّه إلى دمشق، حيث أمضى بضع ساعات اجتمع خلالها مع المسؤولين فيها. وتوجه الرئيس الحسيني، الذي كان يصّر على إجراء الانتخابات في أقرب وقت، إلى باريس حيث اجتمعَ والنوّاب للبحثِ في مكانِ إجرائها. فاقترح بعضهم السفارة اللبنانية في العاصمة الفرنسية، فيما نصحَ البعضُ الآخر بإرجائها بضعة أيام لمزيد من التشاور. عون يثور عاد رئيس المجلس إلى بيروت وأعلن في الأول من تشرين الثاني نوفمبر، تعيين موعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد في الرابع من الشهر ذاته في قصر منصور. ثارت ثائرة عون ذلك أنّ النواب الذين كان ناشدهم العودة إلى لبنان للبحث معه في ما جرى في الطائف لم يلبّوا النداء فقرّر حلَّ المجلس، ودعا إلى مؤتمر صحافي بعد ظهر الثالث من تشرين الثاني لإعلان النبأ. قبل موعد المؤتمر بدقائق وصل الصحافي كميل منسَّى إلى بعبدا إثر اجتماع ضمّه والأخضر الإبراهيمي في مكتب غسّان تويني واختلى بالعماد عون الذي كان يهّم بدخول القاعة التي احتشد فيها عشرات الصحافيين والمراسلين الأجانب. تمنّى عليه عدم إعلان حلِّ المجلس لأنها خطوة إذا تمّت لا يمكن الرجوع عنها، وهي ستؤدي إلى زيادة الوضع في البلاد سوءاً. لم يشر منسَّى بوضوح إلى أنّ ما ينقله هو رسالة من الإبراهيمي بناءً على طلبه معتبراً أنّ التصريح بمصدر "النصيحة" قد يؤدي إلى التصرفِ عكسها، لكون علاقته برئيس الحكومة تشهدُ فترة أزمة كبيرة مع توقيع اتفاق الطائف. لم يظهر أي أثر لردِّ فعلٍ على وجه العماد عون. استمع دون من تعليق ثم دخل القاعة وتحدث إلى الصحافيين عن الأوضاع عموماً مهاجماً الطائف من دون الإشارة إلى حلّ المجلس الذي كان ينتظره الصحافيون، وعندما طُرِح عليه سؤال عن الموضوع أجابَ عن سؤالٍ آخر. منتصف الليل زار داني شمعون وجبران تويني قصر بعبدا حيثُ اجتمعا طويلاً ورئيس الحكومة الذي أعلن فجأة الساعة الخامسة فجراً حلَّ مجلس النوّاب، وأمرَ بوقف الاستعدادات والإجراءات الأمنية في محيط قصر منصور لمنع انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية المقرَّرة بعد ساعات. تبع حلّ المجلس إعلان الأخضر الإبراهيمي "إرجاء مكان الانتخاب وموعده إلى آخرين يعلنان في حينهما". عُرضت على عجل مبانٍ حكومية لإجراء العملية الانتخابية فيها، منها مصرف لبنان والأونيسكو ومجلس الخدمة المدنية. واقترح بعضهم المقّر الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان في شمال لبنان إذا تمّ التوافق على إجرائها خارج العاصمة. صباح الرابع من تشرين الثاني أعلن رئيس المجلس أنّ الانتخاب سيجرى في اليوم التالي في مطار القليعات العسكري في منطقة عكّار. كنت مع الرئيس الحسيني ورينه معوّض على متن إحدى الطائرتين اللتين نقلتا النوّاب من باريس. طوال الرحلة كان رينه يتمشّى ذهاباً وإياباً ويلقي نظرة على إدمون رزق المنهمك في الكتابة. سألته عن سبب اهتمامه فأجاب بأن إدمون الذي كلما انتهى من كتابة صفحة يعطيها لنصري المعلوف لقراءتها، يكتب له خطاب القسم. بعد ظهر الخامس من تشرين الثاني انعقد المجلس. فأعاد انتخاب حسين الحسيني رئيساً له والدكتور ألبير مخيبر نائباً للرئيس، كما صادق على وثيقة الوفاق الوطني التي اتفق عليها في الطائف. فور إعلان بدء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية طلبت الكلام، وأعلنت ترشيح نفسي حرصاً منيّ على المحافظة على الديموقراطية. وتبعني في ذلك جورج سعادة ثم رينه معوّض الذي لم يخفِ انزعاجه من تصرّفي. في الدورة الأولى نال رينه معوّض أربعة وثلاثين صوتاً، وجورج سعادة ستة عشر وأنا خمسة أصوات. في مستهل الدورة الثانية أعلنت انسحابي كي أفسح لمن نال أكبر عدد من الأصوات في الفوز بالأكثرية النسبيّة، فطلب جورج سعادة استمهاله خمس دقائق تشاور خلالها مع الذين أيّدوه وأعلن انسحابه بدوره. فاز الرئيس معّوض في الدورة الثانية باثنين وخمسين صوتاً، فيما امتنع ستة نوّاب عن التصويت. وهكذا بعد أربع مئة وتسعة أيام من الفراغ في سدَّة الرئاسة الأولى صار للجمهورية اللبنانية رئيس. كنت بين المهنئين. طلب منّي الرئيس معّوض ألا أتوجَّه فوراً إلى زحلة لأنه يريد أن يتحدث معي بعد الظهر إثر انتهاء حفلة الاستقبال. سألته عن السبب فأجاب: "مضى سبعة عشر يوماً على انتخابي وأودّ تشكيل الحكومة بسرعة. أريد أن أستمزج رأيك في اسم المرشحّ عن تجمع النوّاب الموارنة المستقلِّين". كان الرئيس معوض عضواً في التجمع الذي ضمّ أحد عشر نائباً، قبل أن يستقيل والأب سمعان الدويهي بعد مقتل طوني فرنجية في حادثة إهدن في حزيران 1978. أطلقنا على لقائنا اسم النوّاب الموارنة المستقلين، للدلالة على أننا نحن موارنة المناطق لسنا تابعين للتكتلات أو التجمعات القائمة كالجبهة اللبنانية أو حزب الكتائب أو "القوات اللبنانية" أو الأحرار. قتلوا رئيس الجمهورية كان الرئيس الراحل يريد بكلامه إفهامي أنه لا يريدني وزيراً في الحكومة، ولا يريدني حتى أن أقترح أي زميلٍ لي في التجمّع، وعلمت في ما بعد أنّ عدداً من السياسيين طرح اسمي لحقيبةٍ وزاريّة لكنه رفض، كما رفض ضمَّ ميشال المر إلى الفريق الحكومي المنوي تشكيله. غادرت بيروت إلى زحلة من طريق الشوف - ضهر البيدر. عند نبع الصفا استوقفنا حاجز من أربعة شبّان أخذوا يصرخونَ في وجهي: "إنهم لا يريدون قيام الدولة. لقد قتلوا رئيس الجمهورية". فتحت الراديو وإذ بي أسمع موسيقى كلاسيكية فتأكدت لي صحة النبأ. وصلت إلى منزلي فوجدت زوجتي منى تبكي. استقبلتني بالقول: "الحمد لله على السلامة. خلاص، ما بدنا بقى لا رئاسة ولا سياسة". مَن فجّر السيارة التي كانت تنقل الرئيس معوّض من القصر الحكومي إلى القصر الجمهوري الموقت في بيروت الغربية بعد انتهاء حفلة الاستقبال؟ إنها القضية الأكثر غموضاً بين قضايا الاغتيال التي شهدها لبنان. خلال ولايتي كشف المسؤولون عن مقتل رشيد كرامي وداني شمعون، وطوال الأعوام التسعة التي أمضيتها في الرئاسة لم تتوافر أدلّة، كما لم تتمكّن الأجهزة الأمنية من الإمساكِ بأي خيط يؤدي إلى الاشتباه في الجهة أو الاشخاص الذين اغتالوا رئيس الجمهورية بتفجير عبوة ناسفة. فور وصولي إلى زحلة تلقيت اتصالاً هاتفياً من الشيخ الياس الخازن، يبلغني فيه باسم زملائي في تجمع النوّاب الموارنة المستقلّين المقيمين في فندق "السمرلند" في بيروت الغربية، أنهم سيقومون بزيارتي صباح اليوم التالي إذ قررّوا دعم ترشيحي لرئاسة الجمهورية. سَمِعَت العائلة الحديث واعترضت ولم أقتنع. لم يغمض لي جفنٌ تلك الليلة وأمضيتها أفكِّرُ في الجواب الذي سأعطيه، إن عُرضت الرئاسة عليّ وقراري يتأرجح بين الرغبة في الموافقة والميل إلى الرفض، إذ أنّ الرئيس معوّض ثاني رئيس في فترة سبع سنوات يُغتال بعد أيام من انتخابه. عند الفجر اتخذت قرار القبول. صباح اليوم التالي كان النائب جو حمّود أول الواصلين إلى منزلي، وتبعه أكثر من عشرين نائباً طلبوا مني مرافقتهم إلى بعلبك حيث كان رئيس المجلس حسين الحسيني دعا إلى جلسة تشاور حرصاً على انتخاب رئيس في أقرب وقت كي لا تضيع مكتسبات الطائف. أجبت بأن رئيس المجلس لم يوجه إليَّ الدعوة. أصرَّوا فرافقتهم. لم يكن الرئيس الحسيني يرتاح إلى ترشيحي إذ أنّ تجمع النوّاب الموارنة المستقلين، كان اقترع إلى جانب كامل الأسعد منافسه لرئاسة المجلس على رغم إصرار الرئيس أمين الجميّل على انتخابه، كما حجبت الثقة عام 1984 عن حكومة الرئيس رشيد كرامي. أذكرُ يومذاك أنّ الرئيس كميل شمعون بعد كلمة لي هاجمتُ فيها التشكيلة الحكومية وأعلنت في ختامها حجب الثقة عنها، دعاني إلى خارج القاعة وقال لي: "ولَوْ يا الياس بتصوِّت ضد حكومة أنا عضو فيها يعني عمْ بتصّوت ضدي". فأجبته: "أنا آسف، مش إنت المقصود من حجب الثقة". في محاولة منه لإبعادِي عن الرئاسةِ الأولى كان الرئيس الحسيني توجّهَ ليلة مقتل الرئيس معوّض إلى دمشق، حيث عرض على نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام ورئيس الأركان العماد حكمت الشهابي اسم النائب بيار حلو، فلم يوافقا لأن من الصعب كما قالا أن يؤيدا ترشيح شخص لا يعرفانه. وفيما كان الاجتماع منعقداً في مكتب خدّام، وصل رفيق الحريري قادماً من باريس يرافقه النائب جان عبيد وأبلغ إلى الحاضرين أنّ خادم الحرمين الشريفين، كلّفه نقل تأكيده لضرورة الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية بصرف النظر عمن سينتخب، إذ أنّ المهم أن يملأ المركز في أقرب وقت. والسوريون يعرفون جيداً جان عبيد الذي كان الرئيس الجميّل يكّلفه مهماتٍ في دمشق بصفته المستشار لديه ولا أدري لماذا ابتعد في ما بعد عن العهد. تردَّد في حينه أنّ المسؤولين السوريين سألوا عبيد هل هو على استعداد، في حال انتخابه رئيساً، لاتخاذ قرار فوري بانتشار الجيش السوري في مختلف المناطق اللبنانية بما فيها كسروان وجبيل، فطلب مهلة للتفكير فصُرِفَ النظر عن العرض. البعضُ يقول إنّ المسؤولين في دمشق وضعوا الشرطَ لتلافي الغوص أكثر في الموضوع. توجّه الحسيني بعدها لمقابلة الرئيس حافظ الأسد وعرض عليه اسمَ بيار حلو. اكتفى الرئيس بالقول: "غيرو". سمّى له آخر فقال الأسد: "إذهب واجمع النوّاب وانتخبوا الياس الهراوي". الامتحان لي لم أفاتح المسؤولين السوريين يوماً بترشيح نفسي للرئاسة، ولم أخضع لأي امتحان عند أبو جمال عبد الحليم خدّام أو سواه من المسؤولين في دمشق كما كان يفعل المرشّحون. لعل المقابلة التي أجريت معي في نطاق البرنامج التلفزيوني "أيها اللبنانيون" الذي كانت تقدمهُ مي كحّالة - التي اخترتها بعد انتخابي مستشارةً إعلامية في القصر الجمهوري - نالت استحسان الزعماء السوريين الذين أرسلوا نسخةً عنها إلى الرئيس الأسد للاطّلاع عليها، إلى المواقف الجريئة التي اتّخذتها والتي تعبِّرُ عن اقتناعاتي، في شأنِ الصراعات الداخلية في لبنان والعلاقات مع دمشق. وصلنا إلى فندق "بالميرا" في بعلبك حيثُ التقى أربعونَ نائباً، ذلك أنّ عدداً كبيراً من الزملاء، لا سيما منهم القاطنون في المنطقة الشرقية، كانوا انتقلوا بعد انتخاب الرئيس معوّض إلى باريس ولم يعودوا منها خشية عمليات انتقامية منهم تقومُ بها جماعة عون. خلالَ المشاورات في قاعة الطعام في الفندق، غادر الرئيس الحسيني الاجتماع وانتقل إلى غرفةٍ مجاورة للردِ على مكالمة هاتفية. بعدها بدقائق دخلَ أحدُهم وأبلغني أنّ شخصاً يريدُ التحدثَ معي على الهاتف. دخلتُ الغرفة فوجدتُ الحسيني جالساً وحيداً متجهمَ الوجه. استأذنته وتحدثتُ على الهاتف. قال محدّثي: "يا أخ الياس ألمْ ينته الغداء بعد؟ نطلب منك أن تنتقلَ فوراً إلى "بارك أوتيل" في شتورة لا إلى منزلك في زحلة. نريدُ مقابلتكَ هناك". فور وصولي إلى الفندق جاءني من يطلب مني عدم مغادرة المبنى بعد الآن "لأن الناس ستعرف بعد قليل أنك ستنتخَب رئيساً للجمهورية ونخشى أن يحصل اعتداءٌ عليك. وضعنا حراسة مشدّدة لحمايتك". عاد النوّاب عصراً من بعلبك، كما وصل مساءً القادمون من باريس من طريق دمشق لتعذُّر هبوط الطائرة في مطار رياق. اكتمل النصاب بأكثر من 48 نائباً من أصل النوّاب ال72 الذين لا يزالون يمارسون مهماتهم وبدأت المشاورات. عندما دخلت قاعة الاجتماع كان الجدل قائماً حول المكان الأكثر ملاءمة لإجراء العملية الانتخابية، فيما عددٌ من النوّاب يعلن الترشُّح للرئاسة. شفيق بدر وإدمون رزق أعلنا ترشيحهما، أما بيار حلو فقال لمطالبيه بترشيح نفسه: "أنا ما بدِّي اترشَّح. ما بدِّي أعمل رئيس جمهورية". طلبت الكلام واقترحت ألاّ تتمّ عملية الانتخاب في مطار القليعات كما اقترح البعض، لأن ذلك قد لا يكون لائقاً بالنسبة إلى عائلة الرئيس الراحل، نظراً إلى أنّ مراسم الدفن لن تجرى قبل يوم غد وعرضت ثكنة أبلح أو مطار رياق أو الفندق الذي نحن فيه، خصوصاً لأن الرئيس سركيس الذي لم يتمكن من أداء اليمين الدستورية في بيروت عام 1976 فعل في شتورة. والشرط الأَساسي هو أن تكون الأرض لبنانية. أضفت أنه في ما يتعلّق بالانتخاب أعتبر أنّ الترشّح في الظروف الراهنة هو شهادة وأنا مرشح لأن أكون شهيداً. ساد الصمت القاعة واسوَدَّت وجوه الطامحين. كسَرَ الرئيس الحسيني الصمت بسؤال النوّاب مرَّة أخرى عن رأيهم في مكان انعقاد الجلسة، فتمَّ الاتفاق على أن يكون "بارك أوتيل". عندها حدَّد موعد الانتخاب بعد ظهر اليوم التالي. مذ أصبح واضحاً أنني سأكون الرئيس المنتخب، طلبت من بطرس حرب أن يكتب خطاب القسم استناداً إلى نقاط وأفكار أعطيته إياها. عندما قلت له أن يكتب أنني على استعداد للحسم، إن أراد أحدهُم أن يقف في وجه المسيرة التي سأنتهجها بناء على طلب الشعب، قال: "لا، لا كتير هيك. ألا تعتقد أنّ الكلام عنيف"، فأجبت بأنني أنا المسؤول عن أقوالي وليس هو، وعليه أن يكتب بأسلوبي لا بأسلوبه. فيما كنت أقرأ المسوَدّة وصل شوقي فاخوري، فطلبت منه أن يعيد النظر في الخطاب كي يأتي معبِّراً تماماً عن إرادتي ونفسيَّتي، وأن يؤمّن طبعه على الآلة الكاتبة في زحلة. دعينا بعيد العصر إلى الجلسة، ودخلنا صالون الفندق الذي أقسم فيه الرئيس سركيس اليمين قبل ثلاثة عشر عاماً. جلست في الصف الأخير بين بطرس حرب وحبيب كيروز، وأمامي جلس بيار حلو وعبد اللطيف الزين. بعد إعلان الرئيس الحسيني افتتاح الجلسة بحضور ثلاثة وخمسين نائباً، وقفنا ثلاث دقائق صمت حداداً على الرئيس معوَّض، ثم تليت المواد الدستورية لجلسة الانتخاب. دارت الصندوقة على النوّاب فلم يتمكّن أحد من الحصول على الغالبية المطلوبة في الدورة الأولى إذ نلت ستة وأربعين صوتاً وإدمون رزق صوتاً واحداً، ووُجدت أربع ورقات بيض فيما اعتبرت ورقة واحدة ملغاة. أعيد الاقتراع الذي أشرف عليه أمينا السر نجاح واكيم وصالح الخير، فنلت في الدورة الثانية سبعة وأربعين صوتاً فيما خمسة نوّاب اقترعوا بأوراق بيض. أعلن الرئيس الحسيني أنني فزت قرابة الساعة الثامنة والربع ودعاني لأداء القسم. أدَّيت اليمين وأصبحت الرئيس العاشر للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال، ثم ألقيت خطاب القسم الدستوري وعرضت فيه برنامج العهد من حلِّ الميليشيات، إلى إعادة المهجرين، مروراً بتوحيد الجيش وإعادة بناء المؤسسات.