Patrick Karam. Asie Centrale - Le Nouveau Grand Jeu. آسيا الوسطى - اللعبة الكبرى الجديدة. L'Harmattan, Paris. 2002. 322 Pages. ما كادت الحرب الافغانية تضع أوزارها هل وضعتها فعلاً؟ حتى لاحت في الأفق نذر حرب جديدة بين الجارين العملاقين ديموغرافياً لأفغانستان: الهند بالألف مليون من سكانها، وباكستان بالمئة وستين مليوناً من سكانها. والحال ان حرباً كهذه مرشحة لأن تكون اكثر مأسوية بما لا يقاس في محصلتها من الضحايا: فعدا الكثافة السكانية، فإن الجارين المتعاديين يملكان ترسانة نووية تقدر ب35 رأساً حربياً بالنسبة الى الهند، وب20 رأساً حربياً بالنسبة الى باكستان. وحتى لو تم استخدام هذه الرؤوس النووية استخداماً تكتيكياً يقتصر على جبهات القتال ولا يطال المدن الكثيفة السكان، فإن المحصلة المقدرة للضحايا لن تقل عن ثلاثة ملايين نسمة. والواقع ان الحرب بين الجارين المتعاديين لن تكون - إذا نشبت - إلا استمراراً للحرب الافغانية. فصحيح ان البؤرة الجغرافية والتاريخية لهذه الحرب هي اقليم كشمير الذي كان ولا يزال الموضوع الأول للصراع منذ انفصال باكستان عن الهند عام 1947. لكن مستجدات المسألة الكشميرية - التي قد تفضي الى نشوب حرب جديدة - ترتبط ارتباطاً مباشراً هذه المرة ليس فقط بالثوابت التاريخية للنزاع الهندي - الباكستاني، بل كذلك بمتغيرات الحرب الافغانية. فعلى العكس من الهند، التي لا تملك حدوداً مشتركة مع افغانستان، فإن الحضور الباكستاني في هذه الأخيرة حضور من الدرجة الأولى، وهذا على الأقل منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان في نهاية 1979. فعدا الحدود الجغرافية، فإن باكستان تملك مع افغانستان حدوداً مشتركة اخرى من طبيعة دينية واثنية. فباستثناء اقلية هندوسية ومسيحية لا يعتد بها 3 في المئة من سكان باكستان و1 في المئة من سكان افغانستان، فإن الاسلام هو القاسم المشترك الأكبر بين البلدين: الاسلام السني أولاً 77 في المئة من سكان باكستان و84 في المئة من سكان افغانستان، والاسلام الشيعي في المرتبة الثانية 20 في المئة و15 في المئة من سكان البلدين على التوالي. وعلاوة على الدين، فإن الاثنية تمثل قاسماً مشتركاً أصغر: فالباشتونيون يشكلون 40 في المئة من سكان افغانستان 10 ملايين من أصل 26 مليون نسمة. كما يشكلون الغالبية، العظمى من سكان "الثغر الشمالي الشرقي"، وهو أحد الاقاليم الاربعة - الى جانب البنجاب والسند وكشمير - التي تتألف منها جمهورية باكستان الاسلامية. ومن دون ان تتوافر احصائيات دقيقة حول تعداد الباشتونيين الباكستانيين، فإن المصادر المتاحة تقدره بنحو 15 - 20 مليون نسمة. وقد اتجهت السياسة الباكستانية البعيدة المدى الى تقديم القاسم المشترك الاكبر الديني على القاسم المشترك الأصغر الاثني لاعتبارين اثنين: أولاً، بحكم تجربتها التاريخية الخاصة. فباكستان هي الدولة الوحيدة في العالم، الى جانب اسرائيل، التي تقوم لها الهوية الدينية مقام الهوية القومية. وثانياً، بحكم توجسها الدائم من الانفصال. فالهوية الدينية المشتركة لم تمنع البنغاليين الشرقيين من تأسيس أنفسهم في هوية قومية متميزة وفي الانفصال عن الدولة الباكستانية الأم تحت اسم بنغلادش. والحال ان تجربة باكستانالشرقية الانفصالية، التي قامت على أساس اثني بنغالي، يمكن ان تتكرر في اقليم "الثغر الشمالي الشرقي" الذي تتألف غالبية سكانه من الباشتونيين، والذين وجد على الدوام في صفوفهم من يحلم بإعادة توحيد الاثنية الباشتونية، الافغانية والباكستانية، في أمة واحدة ودولة واحدة تحمل اسم "باشتونكوا" التاريخي، أي "وطن الباشتونيين". وقد جاء الغزو السوفياتي لأفغانستان في نهاية 1979 ليعطي دفعاً جديداً لسياسة "الأسلمة" الباكستانية. فبمباركة ضمنية من الولاياتالمتحدة الاميركية، وبمعاونة شبه رسمية من وكالة الاستخبارات المركزية، وبمشاركة مباشرة من بعض قياديي حركة الاخوان المسلمين - وتحديد منهم عبدالله عزام قائد الفرع الفلسطيني - بادر جهاز الاستخبارات الباكستاني، المعروف باسم ISI، الى تنظيم النواة الأممية الأولى للمقاومة الاسلامية في افغانستان. وهي النواة التي انضم اليها اسامة بن لادن عام 1984، وآلت اليه قيادتها بعد مصرع عبدالله عزام في عملية مدبرة عام 1989. والمفارقة ان الزعيمة الباكستانية "العلمانية"، بنازير بوتو، التي كانت تشغل في حينه منصب رئاسة الوزارة، هي التي اعطت الضوء الاخضر ل"جمعية علماء الاسلام" لتنشئ المدارس الدينية التي منها ستنطلق حركة "طالبان"، والتي بلغ تعدادها في أواسط التسعينات نحواً من 2500 مدرسة تخرج منها ما لا يقل عن 220 ألف طالب ومجاهد. وجهاز الاستخبارات الباكستاني هذا هو الذي وسع نشاطه، بقيادة الجنرال حميد غول، ليشمل مقاطعتي البنجاب وكشمير في الهند حيث تتواجد غالبية الاقلية من مسلمي الهند الذين يقدر تعدادهم ب140 مليوناً من أصل 1000 مليون هندي. والواقع ان الاموال التي وضعتها وكالة الاستخبارات المركزية وجهات اسلامية دولية تحت تصرف الاستخبارات الباكستانية، والتي قدرت بنحو من ستة بلايين دولار مرصودة برسم المقاومة الافغانية، جعلت من هذا الجهاز دولة داخل الدولة الباكستانية، وأتاحت له استقلالية في القرار وفي السلوك حتى ازاء السلطة المركزية الباكستانية. ولئن يكن جهاز الاستخبارات الباكستانية هذا هو الذي صنع حركة طالبان وامدها بالمدرعات والدبابات والطائرات وطواقم قيادتها، بما مكّنها من شن حرب صاعقة والاستيلاء على كابول في 1996، فإنه هو الذي أخذ ايضاً المبادرة الى فتح المعسكرات لتدريب المقاومين الاسلاميين بهدف تحرير القسم الهندي من اقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان منذ 1949. وقد قدّرت المصادر الهندية، في مذكرة شكوى رفعتها الى وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية عام 1998، عدد تلك المعسكرات بأكثر من مئة، منها خمسون في باكستان نفسها، وعشرون في افغانستان، وثلاثون في اقليم كشمير. وقد وجهت الاتهامات في حينه الى الجنرال برويز مشرف الذي كان يشغل آنذاك منصب قائد القوات المسلحة الباكستانية. وبالفعل، وعلى حين ان السلطة المدنية، ممثلة بنواز شريف، رئيس الحكومة الباكستانية السابق، كانت تسعى الى تخفيف التوتر مع الجارة الهندية، فإن السلطة العسكرية كانت تعمل، على العكس، على تصعيد التوتر من خلال "تسريب" النشطاء الاسلاميين الى داخل القطاع الهندي من كشمير. ولعل هذه الازدواجية، المدنية - العسكرية، لم تكن منقطعة الصلة بالمشروع الانقلابي للجنرال مشرف الذي لم يتردد في توظيف الصراع مع العدو الوراثي الهندي لأغراض السياسة الداخلية والصراع على السلطة. لكن اعتداءات 11 ايلول سبتمبر قلبت قواعد اللعبة رأساً على عقب. فقد استغلت الهند الظروف الاستثنائية التي خلقتها تلك الاعتداءات لتحاول عزل الباكستان ونسف الجسور بينها وبين حليفها التقليدي الاميركي. واستطاعت الهند بالفعل ان تقدم الأدلة للاميركان على ان المنظمات الاسلامية الناشطة في كشمير والبنجاب، لا سيما منها "جيش محمد" و"عسكر طيبة"، انما يتم تأهيلها في المدارس الدينية الباكستانية وتتلقى تدريبها في معسكرات طالبان الافغانية. وقد جاءت عملية تفجير السيارة المفخخة امام البرلمان الاقليمي في سريناغار، العاصمة الصيفية لكشمير الهندية، في 1 تشرين الأول اكتوبر 2001، والتي أوقعت 34 قتيلاً في الجانب الهندي، لتؤكد صدق الاتهامات الهندية، وبالتالي عمق الصلة بين المنظمة "الارهابية" المنفذة للعملية جيش محمد وبين الاستخبارات الباكستانية. ويبدو ان الجنرال برويز مشرف - الذي صار رئيساً للدولة منذ نفذ انقلابه العسكري في 12 تشرين الأول 1999 - التقط الإشارة. فقد أدرك ان سلاح الارهاب، الذي طالما داورته اجهزة الاستخبارات السرية الباكستانية، لن يفيد مذاك فصاعداً سوى "العدو الوراثي" الذي سارع بلسان رئيس حكومته، أتال بيهاري فاجبايي، يضع قدراته وخبراته في مقاومة الارهاب في خدمة الاميركا، وهذا بموجب برقية رسمية بعث بها رئيس الوزراء الهندي الى الرئيس بوش في 14 ايلول 2001. وبما للجنرال من خبرة "انقلابية"، سارع يعلن بدوره ان باكستان تعتبر هي الأخرى الارهاب شراً مطلقاً يهدد المجتمع الدولي، وانها تضع كل طاقاتها في خدمة الحرب الاميركية ضد الارهاب الدولي. وقد قرن الجنرال مشرف القول بالعمل، فسارع يقيل الجنرال محمود أحمد، رئيس جهاز الاستخبارات ISI ونائبه لشؤون افغانستان وكشمير محمد عزيز خان، وعدداً آخر من الضباط المعروفين بعدائهم للولايات المتحدة وبتعاطفهم مع طالبان. وفي الوقت الذي وضعت فيه القواعد العسكرية الباكستانية في خدمة القوات الاميركية، جرت حركة اعتقالات واسعة في صفوف القيادات الاسلامية الباكستانية، وفرضت الاقامة الجبرية على سامي الحق، الذي تخرجت من مدرسته الدينية أبرز اطارات حركة طالبان، وعلى فضل الرحمن، رئيس جمعية علماء الاسلام، وعلى عزام طارق، زعيم الحركة الاسلامية المتطرفة "جيش أتباع محمد" التي تدعو الى "باكستان سنية" وتقول بتكفير الشيعة الذين يؤلفون 20 في المئة من سكانها. وكان تتويج ذلك كله القرار الذي اتخذته الحكومة الباكستانية بسحب اعترافها بحكومة طالبان وتسليم سفيرها في اسلام آباد للسلطات الاميركية. وكان تعليق بن لادن على هذا الانقلاب في الموقف الباكستاني قوله: "ان حكومة باكستان قد اختارت ان تنضوي تحت راية الصليب". وبانتهاء الحرب الافغانية، فإن اللعبة الكبرى تدور الآن في الملعب الهندي - الباكستاني. فأتال بيهاري، رئيس حكومة الهند وزعيم "حزب الشعب الهندي" القومي المتطرف، الذي تنتظره استحقاقات انتخابية صعبة يريد، مثله مثل شارون مع عرفات، ان يحشر خصمه الباكستاني في زاوية الارهاب الضيقة. وبرويز مشرف الذي اضطر مكرهاً لأن يقطع جسوره مع الاسلاميين، لا يجد أمامه من مخرج آخر سوى المزاودة القومية في مسألة كشمير. فلو تساهل أمام "العدو الوراثي" لفقد آخر مصدر من مصادر شرعيته، المشكك فيها اصلاً منذ ان اصدرت المحكمة الباكستانية العليا حكمها بوجوب اعادة السلطة الى المدنيين. وازاء هذا المأزق المسدود من كلا الجانبين، الهنديوالباكستاني، فإن الباب الوحيد الذي ىبقى مفتوحاً هو باب الحرب التي تقرع طبولها اليوم اكثر من أي وقت مضى. لكن حرباً اقليمية كهذه هي آخر ما تريده الولاياتالمتحدة المصممة على تعبئة جميع القوى في الحرب ضد الارهاب. وهي ستمارس ضغوطاً بلا حدود على حليفيها معاً لمنع خيار الحرب. لكن المشكل ان الحرب قد لا تبدأ من جانب الجيوش النظامية. فالمتطرفون من كلا الجانبين، القوميون الهندوسيون والاسلاميون الباكستانيون، يملكون ما فيه الكفاية من القوى والوسائل لإشعال الفتيل.