يبدو جميل عطية ابراهيم، في مجمل أعماله، كاتباً مشغولاً بالتاريخ الذي يمثل عادة خلفية للحدث الروائي عنده. لكن التفاصيل الفنية داخل أعماله، تبدو وكأنها إسقاطات للزمن. وفي روايته الجديدة "نخلة على الحافة" الصادرة عن "روايات الهلال" هذا الشهر، تتجسد النتيحة السابقة لتكشف لنا عن أن الحاضر لا يزال واقفاً على حافة الماضي، حيث تنزلق الذاكرة الجمعية إلى الوراء، بدلاً من الاندفاع إلى الأمام. ولعل العكس صحيح بدوره، إذ أن قيم الماضي التي شكلتها، تقف بدورها على حافة الحاضر الذي يشوش تلك الذاكرة. ولذلك، فإن الرواية حين تنتهي بجريمة قتل أو انتحار جماعية، يتم وصفها بأنها: "جريمة ارتكبت في عصر مضى، وتم دفن قتلاها في زماننا"، وهذا التعبير يلخص الرؤية الفنية للرواية. ونظراً إلى أن حركة التاريخ هي التي تحكم الأحداث في العالم الداخلي للرواية، كان من الطبيعي ان تتحول الشخصيات إلى "كائنات زمانية"، حيث التاريخ هو الإنسان مضافاً إلى الزمن. وبالتالي، اصبحت كل شخصية بمثابة نقطة إشارية، دالة على لحظة بعينها داخل تيار الزمن. وهنا، فإن حركة الجدل والصراع بين الشخصيات إنما تعبر عن حركة جدل زماني، بين الوحدات الثلاث: الماضي - الحاضر - المستقبل. وطبقاً لهذا التصور، فإن الماضي يبتدئ داخل الرواية، عبر رؤية رباعية الأبعاد: - متولي عجّورة: طالب ثوري من منتصف القرن الماضي، وهو في شيخوخته "تنازل عن الكلام والفعل - بملء إرادته - لمصلحة الكتابة". إنه يقوم بدور الذاكرة الجمعية من خلال محاولات التاريخ الشعبي لأحداث الماضي والحاضر، لكنه في النهاية رجل قضى عمره في الكتابة، وخانته أوراقه. - كمال مسيحة: صديقه اللدود، زعيم طلابي في حقبة الاربعينات، تخلص فجأة من دوره القيادي، ليصبح نصف مجنون، يحاول متولي أن يقتله حتى يحافظ على ماضيه كرمز وطني، لكنه يفشل، وكمال بسبب الإحباطات الكثيرة التي يزخر بها الواقع، فقد القدرة على الحلم: "لم أعد أحلم في نومي... بسبب ضيق الوقت"! - الجنرال أبو طرطور: نصفه إنسان ونصفه الآخر خيش وأعلام وخيوط طائرة وورق ملون وشخاليل، إنه نصف عاقل، أطاحت هزيمة حزيران يونيو 1967 بنصف عقله، وما أعقبها قام بتشويش نصفه الآخر، أو لنقل، أنه وجد أفضل سبيل لمواجهة الواقع "المهوش"، هو الالتجاء إلى عقل مشوش، ربما يتمكن من فهمه. - المعلم عبدالجبار: الغائب الحاضر، الذي يمثل فكرة "دهاء التاريخ" حيث يقوم بإحداث حركة انحراف للأحداث، لم تكن تستهدفها الشخصيات. وبذلك، فإنه - بعد موته - يظل مهيمناً على حركة الواقع. كما أنه يمثل البنية العميقة للذاكرة التاريخية داخل الرواية. رؤية عبثية وعبر ما يمكن أن نسميه "الرؤية السيزيفية" التي تعتمد على الثبات والتكرار، نجد أن الشخصيات التي تمثل رموزاً للماضي، تتحرك داخل دورة محددة: النضال، ثم الجنون أو الانسحاب من الواقع، وصولاً إلى الموت الجسدي أو المعنوي. وهذا ما أدى بالشخصية المحورية إلى تعليق بضعة أسطر شعرية تقول: "تشبث بموتك أيها المغفل/ دافع عنه بالحجارة والأسنان/ والمخالب/ فما الذي تريد أن تراه؟". وفي المقابل، فإن الماضي يرتطم بقيمه التي تنسب من الحاضر، لتصبح شخصيات الحاضر نماذج "شائعة"، تقبع خارج حركة الزمن، وتستمرئ غيبة الوعي وخيبة الأمل، ومن الطبيعي ألا تنشغل شخوص الحاضر سوى بظاهر اللحظة الراهنة، متجاهلة حوارها مع اللحظات السابقة عليها واللاحقة لها. ينسحب هذا التصور على الدكتور سليم وزوجته، وناعسة بائعة الخضار التي تطمح في امتلاك سوبر ماركت، وهي قادرة على ذلك لأنها امرأة تفكر وتعمل بجسدها، لا بعقلها، ويتبقى زوجها عتريس، جامع القمامة السابق، والذي احترف بيع الخضار بعد موت حماره، وكان فارساً يرقص بالحصان. لكن الواقع يهدر تلك القيمة، ليظل حلمه رهناً بجمع القمامة مرة أخرى. أما المستقبل، فكان من الطبيعي ان يرمز له بالطفل الوحيد داخل الرواية، فتحي الحفيد الروحي لمتولي عجّورة. إنه وهو في العاشرة يتحدث لغة المستقبل: الكومبيوتر والانترنت، وبالتالي، فإنه يغدو الأمل المتبقي لعبور الهوة الحضارية مع الآخر/ الضد. إنه "يجلس إلى الكومبيوتر الكبير، يعمل أعاجيب لا يدركها الأستاذ متولي، ولا يسعى لفهمها". إلا أن هذا الأمل يبدو غائماً، لأن الولد لا ينتمي إلى وطن، بل إلى أسلوب حياة، ولا يعتد بثقافته بقدر ما تبهره أنظمة المعلومات: "لماذا لا نتقابل في النادي بدلاً من هذا المقهى البلدي؟... ما رأيك في اسم زيزو وميشو؟ اسم فتحي لا يناسبني". وهكذا، تصبح أي محاولة للتنبؤ بالمستقبل، هي محض رهان تاريخي غير قابل للتأكيد. وطبقاً لتقسيم الشخصيات السابق، فإننا نلحظ أن الرواية تبدو وكأنها تقدم رؤية سوداوية عن الواقع. ولكن حين ندرك أن زمن الرواية يمتد من العام 1946، حيث تظاهرات الطلبة فوق كوبري جسر عباس، مروراً بهزيمة حزيران يونيو في العام 1967، وصولاً إلى اللحظة الراهنة والتي يمثلها الاجتياح الإسرائيلي لرام الله في العام 2002، سندرك أن الواقع أكثر سوداوية من الرؤية الروائية. وطبقاً لتلك "الرؤية السوداء"، والتي تأكدت عبر اخفاقات الماضي وهزائم الحاضر، جاءت النهاية فاجعة، في مزيج من القتل الخطأ والانتحار الإرادي، لكل من المستقبل والماضي، وكأن هذه المذبحة تأتي لتؤكد على استمرار الحاضر وحده. فكمال مسيحة أحد رموز الماضي، يقتل من طريق الخطأ الطفل فتحي رمز المستقبل، وهنا ينتحر متولي عجّورة الذي كان يراهن على المستقبل، ويعقبه انتحار كمال مسيحة الذي خدعه المعلم عبدالجبار، حين أوهمه أن المسدس "فشنك". هنا، يغلق وكيل النيابة التحقيق في تلك الجريمة، التي ارتكبت على حد تعبيره - في "لحظة صفو". وكأن لحظة الصفو الوحيدة في واقعنا المعاصر، تكمن في أن "نتشبث بموتنا". ولا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة أخيرة، وهي أن هذه الرواية ربما تكون الأسرع في التعبير عن أزمة الواقع العربي، خصوصاً بعد أحداث رام الله وجنين الأخيرة. لكنها - بالتأكيد - الأعمق في تقديم رؤية فنية تتميز بالشفافية. فمحاولات متولي الدائبة لقتل صديقه كمال مسيحة زعيم الطلبة، بعد أن تنازل عن دوره في شكل عبثي، لم تكن تمثل جريمة، بقدر ما كانت محاولة للحفاظ على بريق الرمز، الذي لم يعد ملكاً لنفسه، بل لتاريخ الوطن. وبذلك، فإن الرواية استبقت - على مستوى الواقع - تضحية بعض الرموز النضالية بماضيها، في مقابل الحفاظ على حياتها، أو حرية الحركة في سجن أكبر. وهنا يكمن سر الفن وسحره في آن، ليس في حدسه التنبؤي، ولكن في رؤيته الأشمل والأكثر عمقاً، فهل نقتل رموزنا حفاظاً على ماضيها؟ انه مجرد سؤال عبثي، تطرحه رواية جادة.