"ألف ليلة وليلة" هي العمل الأدبي العربي الأشهر في العالم. تمت ترجمة هذا العمل ودراسته كثيراً وفي لغات مختلفة منذ القرن الثامن عشر الميلادي. لم تقتصر الدراسات على الجوانب الأدبية والفنية والتاريخية المرتبطة به أو المستخرجة منه، بل وصلت أخيراً إلى مجال جديد من مجالات "ألف ليلة وليلة" القديمة وهو علاقتها بالسريالية. وكنت لفتُّ النظر في كتابي "راية الخيال" دار الشروق - القاهرة - 1993 الى الرؤى السريالية في قصص "ألف ليلة وليلة"، والى تشكيلها ما يمكن الاعتماد على أنه اتجاه سريالي عربي سبق بقرون بداية السريالية الأوروبية التي تم التنظير لها منذ العام 1924 في باريس مع أندريه بريتون وصحبه. وكان جمال الدين بن شيخ الكاتب والأكاديمي الجزائري الأصل في جامعة السوربون الفرنسية بحث في مقدمة دراسة له عن "ألف ليلة وليلة" تحت عنوان "لذة الموت" عن أوجه التشابه بينها وبين الأعمال السريالية في ما يخص العاطفة. العلاقة بين السريالية و"ألف ليلة وليلة" لا تقتصر فقط على الخيال السريالي الموجود في العمل العربي، ولكنها أوسع من ذلك، حتى لتشمل العلاقة مع الشرق كله. وفي "راية الخيال" شرح مفصل عن علاقة السرياليين الأوروبيين بالشرق وانبهارهم به واستلهامهم كثيراً من أعمالهم من عبق الشرق المثير والساحر وفنونه الأصيلة. وغدا الاهتمام ب"ألف ليلة وليلة" جزءاً من الاهتمام بالشرق عموماً. لم يكن السرياليون بالطبع هم مكتشفو "ألف ليلة وليلة". كان هذا العمل من أوائل الأعمال العربية التي ترجمت الى اللغات الأوربية، إن لم يكن أولها. وعندما تكونت الحركة السريالية وأصدرت بيانها الأول عام 1924 في باريس كان روادها قرأوا ترجمة "أنطوان غالان" ل"ألف ليلة وليلة" وهي أسهمت في إثراء الغرب بانفتاحه غير المسبوق على الحضارات الشرقية وجعلته يستقبل هذا الخيال الخصب. وكانوا قرأوا كذلك الترجمة التي اهتمت بالإثارة الحسية التي قام بها جوزيف ماردروس في بداية القرن العشرين. وقد هوجم المترجم على ترجمته، إلا أن انصار التجديد والسرياليين دافعوا عنه. ووجدت هذه الترجمة رواجاً كبيراً تجاوز حدود فرنسا. مثل هذه الترجمات شجعت كذلك فنانين وكتاباً غربيين على السفر الى الدول العربية والشرق بعامة، بل وأقام بعضهم فترات متفاوتة فيه. نذكر من الفرنسيين اندريه جيد وأندريه لوتي وبيير لويس ورينييه على سبيل المثال. إلا أن السرياليين كانوا الأكثر إعجاباً بالشرق ودفاعاً عنه، لا كما ينبغي له أن يكون، ولكن كما هو كائن بالفعل، بل بكل متناقضاته ومشاكله المختلفة، وبكل ما فيه من أحلام وحقائق. فصار الشرق مصدراً للإلهام في الموضة والموسيقى ومعارض الفنون والأعمال الأدبية. سعدت أيما سعادة عندما وجدت في زيارتي الأخيرة الى باريس كتاباً جديداً صدر في هذا الموضوع لباحثة شابة اسمها نرجس دوترليني - سعيدي، تونسية الأصل ومن الواضح أنها متزوجة من فرنسي تحمل اسمه "دوترليني". ولدت عام 1966، وظلت في تونس الى أن انتهت من دراستها الثانوية، ثم وصلت الى فرنسا للدراسة الجامعية وتخصصت في الأدب الفرنسي. وحصلت على الدكتوراه عام 1998. ويبدو أن كتابها هذا هو نص رسالتها للدكتوراه. الكتاب هو "من شرق "ألف ليلة وليلة" الى السحر السريالي". وأهدته الى: كريستيان عاشور، جمال الدين بن شيخ، والأخضر سوامي. تقول الكاتبة بوضوح أن دافعها للبحث في هذا الموضوع هو إرضاء فضولها الأدبي ليس أكثر. لا ضرورة تاريخية ولا موقف أدبي. انطلاقاً من هذا الفضول قدمت نرجس دراسة جديدة جادة ومفيدة في 300 صفحة من الحجم المتوسط عن أوجه التشابه والمقارنة بين "ألف ليلة وليلة" والانتاج الأدبي والفني السريالي. وهذا أمر من الصعوبة بمكان بسبب صعوبة تجميع كل نقاط الالتقاء المحددة لهذه المقارنة، وعدم وجود قائمة جاهزة بالمراجع والمصادر. ولكن يبدو أن جاذبية الطرفين الشديدة، "ألف ليلة" والسريالية، والدم العربي الساخن في جسد نرجس كانا أقوى من صعوبات الدراسة الشيقة وغير العادية. لذلك بدأت الباحثة بتجميع كل النصوص السريالية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالشرق و"ألف ليلة وليلة" ونشرت الكثير منها في كتابها. أثبتت الباحثة في دراستها بالفعل أن السريالية تأثرت بالشرق وبحكايات "ألف ليلة وليلة"، وأن السرياليين انجذبوا نحو هذه الثقافة الشرقية وشعروا بالتضامن مع شعوبها. وربما تطرفت في رأيها عندما كتبت أن "أكثر الفترات إشراقاً لذيوع هذا الاتجاه نحو الشرق بدأت مع السرياليين الذين دافعوا عنه قلباً وقالباً". فهناك فنانون وكتاب وأدباء ولعوا بالشرق من غير السرياليين، أذكر منهم ديلا كروا وماتيس وهما من أكبر الفنانيين غير السرياليين. وجدت الباحثة "نرجس" - وهو اسم جميل - عنصرين للتقارب بين "ألف ليلة وليلة" والأعمال السريالية: أولهما: هو تلك القيمة التي يقدرها السرياليون حق قدرها، وهي قيمة الحب الذي عليه انقاذ البشرية. وقدمت لهم حكايات "ألف ليلة وليلة" الكثير من الأمثلة لعلاقات الحب والعواطف التي يتألق فيها المحبون للوصول الى السعادة المنشودة: شهرزاد تقود الرجل نحو النور لأنها تساعده على بلوغ غايته، فيما يعرض اندريه بريتون - "بابا" السريالية - وزملاؤه نماذج مشابهة للمرأة التي تتخذ الحب وسيلة لتحقيق خلودها. راجع رواية "نادجا" لاندريه بريتون على سبيل المثال. ثانيهما: السحر الذي بفضله، وبفضل قرينيه: الحلم والخيال، استطاع الشرقيون الحفاظ على حافزهم الأول من دون مساس، وهو السيطرة على الزمان والمكان وتسخيرهما لخدمتهم. والسحر أحد عناصر الإبداع الأساسية للسرياليين. وتذكر نرجس أنها تأثرت في بحثها القيم هذا بدراستين رئيسيتين هما: دراسة المستشرق الفرنسي المعروف اندريه ميكيل "ألف حكاية وحكاية من حكايات المساء"، ودراسة جمال الدين بن شيخ ""ألف ليلة وليلة" أو الحديث السجين". وفي الدراستين تحليل حكيم للحكايات العربية في إطارها التاريخي والثقافي. يربط اندريه ميكيل الأحداث التاريخية العربية بدراسة "ألف ليلة وليلة"، ويؤكد من خلال ذلك دور مصر أثناء حكم المماليك في استعادة المسلمين مكانتهم مرة أخرى. وقد أحصى كل الأصول والتواريخ الممكنة لحكايات "ألف ليلة وليلة". لكن عمله في هذه النقطة ليس دقيقاً بالطبع بسبب عجز النقاد والمؤرخين عن تحديد تاريخ لإسناد هذا العمل الرائع. ترى نرجس أن النقد الأدبي لم يهتم الا أخيراً باكتشاف نطاق هذا الخيال العالمي، وأن "ألف ليلة وليلة" لم تخضع للنقد والدراسة الجدية في العالم العربي. وعلى رغم ذلك تأتي على ذكر عدد من الكتابات المتعلقة ب"ألف ليلة وليلة" - وتحديداً شخصية شهرزاد - التي نشرت في مصر منذ عشرينات القرن العشرين للعقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين وزكي طليمات وحفني محمود وأحمد خميس وحسن مظهر. ويبدو أن نرجس توقفت عند خمسينات القرن العشرين، ولم تواصل ذكر أمثلة لكتابات المصريين المتوالية عن "ألف ليلة" ومن أهمها العمل العمدة للكاتبة الراحلة سهير القلماوي "ألف ليلة وليلة" دار المعارف، القاهرة، 1966 ، وأحدثها كتاب زميلنا الباحث مصطفى عبدالغني. ولا يمكن استبعاد دراسة مهمة أخرى للباحثة فريال غزول بعنوان "الليالي العربية: تحليل بنيوي" لمجرد أنها كتبت باللغة الانكليزية وصدرت عن الجامعة الأميركية في القاهرة 1980. تحلل نرجس رأيها السابق في عجز الكتابات النقدية العربية إزاء "ألف ليلة وليلة" بامتناع الكتاب العرب عن المغامرة بدلاً من اقتحام مجالات تمس السياسة والسلطة وهما موضوعان تناولتهما باستفاضة "ألف ليلة وليلة". إضافة الى أن الحب والمرأة والشذوذ الجنسي تعتبر من المواضيع المحرمة التي تمس المقدسات فلا يتطرق إليها أي شخص من دون التعرض لمضايقات خطيرة. وإن وجد الشخص الجريء الذي يتحدى النظم القائمة بالمجاهرة بما يقوله الآخرون سراً فلن يجد الناشر الذي يعرض له فكره. هكذا كتبت نرجس متهمة بالنص الواقع العربي المعروف حيال إبداع عربي أشهر. وهو رأي لا يخلو من صحة ويفضح - باللغة الفرنسية لقراء أجانب - جانباً مهماً من جوانب تخلفنا. ومع ذلك فهذا الرأي لا يخلو من مبالغة. فتحت يدي دراسة مهمة عنوانها "مجتمع "ألف ليلة وليلة" للباحث محسن جاسم الموسوي مركز النشر الجامعي، تونس، 2000 تتعرض لما تصفه نرجس بالمحرمات في "ألف ليلة وليلة"، وهناك دراسة أخرى لأحمد محمد الشحاذ بعنوان "الملامح السياسية في حكايات ألف ليلة وليلة" إدارة الشؤون الثقافية، بغداد، 1986. إلا أن أوروبا شهدت بلا شك اهتماماً أكبر ب"ألف ليلة وليلة" وانفتاحاً على دراستها لا تقيدها قيود العرب البالية، لم يتمثل فقط في وضع عدد كبير من الأبحاث والدراسات النقدية، بل تعداها إلى الأفلام والمسرحيات والأعمال التشكيلية بل والموسيقى. ولا يمكن هنا حصر الكتب والدراسات التي صدرت في أوروبا. وأشير الى دراسة ميا جيرهارد: "فن حكاية القصة - دراسة في ألف ليلة وليلة". ودراسة ستانلي لين - بوول: "المجتمع العربي في العصور الوسطى - دراسات من ألف ليلة وليلة". إذاً، كان على الباحثة نرجس استيعاب موضوعين كبيرين في الوقت ذاته: العمل الفني الأدبي "ألف ليلة وليلة" من جهة، وتاريخ أو ابداعات الحركة السريالية المتعددة من جهة أخرى. واستبعدت من الأعمال السريالية ما لا يخص العلاقة بين الموضوعين. كان أمام نرجس هنا معضلة شاقة تمثلت في ندرة استشهاد السرياليين ب"ألف ليلة وليلة" في شكل مباشر، إلا أنها من خلال بحثها الدؤوب استشعرت وجود العلاقة، وركزت على اهتمام السرياليين بالشرق، مستشهدة بفقرة كتبها بريتون عام 1924 في "كراسات الشهر" يقول فيها: "أيها الشرق. أيها الشرق المنتصر. أنت يا من لا تملك إلا قيمة رمزية. احكمني يا شرق الغضب والدرر! هبني معرفة وسائلك في الثورات المقبلة بتكوين جملة أو عبر الرياح الغامضة لموسيقى الجاز. أنت يا من تمثل الصورة المشرقة للاستحواذ. أيها الطائر الجميل الكاسر البريء، أناشدك من قلب مملكة الأشباح! كن مصدراً لإلهامي كي تنقشع عني الظلمات". وهكذا فعلت نرجس في دراستها: اختارت النصوص بعناية، محاولة كشف نقاط التماثل والمقارنة بين النصوص السريالية وحكايات "ألف ليلة وليلة". وبدأت بخلفية عامة تناولت الاقتباسات ونقل الحكايات العربية إلى فرنسا منذ القرن الثامن عشر، ومعرفة مدى تأثيرها على الفنون والحياة الثقافية. وكذلك تأثير ترجمات "ألف ليلة" على الساحة الأدبية الفرنسية، كأن ترى أنه كان لها أثر إيجابي تمثل في ذيوع أدب استلهم أفكاره من هذا العمل، منذ شاتو بريان وحتى "بروست". ثم انخرطت في العلاقة مع السريالية في شكل خاص. فتحدثت عن الأسباب السياسية لهذه العلاقة، وعن السرياليين العرب الذين تعاونوا مع السرياليين الفرنسيين. واستعرضت في عجالة تأثير الشرق و"ألف ليلة وليلة" في فرنسا على فنون الموسيقى والباليه والمسرح والرسم والتصوير وقد ظهر تيار شرقي في الفنين الأخيرين. في الجزء الثاني من كتابها دخلت أكثر في التخصيص. فتناولت مفهوم الحب لدى السرياليين وفي حكايات "ألف ليلة" ونقاط التقارب والاختلاف بينهما، مركزة على وضع المرأة. وبعد المرأة يأتي السحر. وهو ظاهر جلي. ولم يتردد السرياليون في الإعلان عن اهتمامهم بالأعمال الأدبية الشرقية ذات الطابع السحري، واعتبروها مصدراً لإلهامهم. وعلاقة السحر بالحب والمرأة علاقة أصيلة في "ألف ليلة" والأعمال السريالية. أخيراً، وبلا شك تعتبر دراسة نرجس دوترليني - سعيدي إضافة مهمة وضوءاً مسلّطاً على جانب من جوانب العلاقات بين الشرق والغرب المتشعبة والمتشابكة، وشهادة أخرى على ثراء الإبداع الأدبي العربي. * كاتب مصري.