- 1 - لا حاجةَ لكي أضيعَ الآن في مدينةٍ تُوَشِّيها أحلامٌ صاخبة إن كنت لا أريدُ أن يتحوّل جسميَ الطِّينيّ الى نارٍ لا تنام. لستُ ماءً ميّتاً ولا رماداً حارّاً ولا حاجةَ لكي أُخفيَ اسمي إن كنتُ لا أريدُ أَن أتعمَّد في مائيَ الخاصّ وأن أُعلن نفسي خليفةً بلاَ أحد. إذن، ماذا أفعل هنا، أنا المشرّد الآخر دونَ مالٍ، محروماً يُضرَبُ به المَثَلُ، إن كان عليَّ أن أَبْقى أَخاً بالتّحالف دونَ حظٍّ في روايةٍ مؤسِّسة؟ ... تَحوّل جزئيَ الأوّل إلى بَحْرٍ في أَطْلس العالم، وتحوّل جزئيَ الثّاني إلى أَرْضٍ لليلٍ لا ينام ولا بابَ له، أَمّا جزئيَ الثالث فيجلسُ خاشِعاً الى جانبِ النّار. ... - 2 - ... عليَّ أَنْ أفهمَ أَنّ الصُّعودَ والهبوطَ على الطّريقِ ليسا إلاّ شيئاً واحداً، إن أردتُ جبلاً أولمبيّاً جديداً مِن أجلي،. داخلَ نفسي. عليَّ أن أفهمَ أَنّ السّفرَ والعودة على الطريقِ ليسا إلا شيئاً واحداً إن أردتُ في داخلي عَدْناً قديمة عليَّ أن أرحلَ من نفسي الآن إن كنت أبحث عن اسكندريّةٍ مُوَشّاةٍ من أجلي وعن هيكلٍ من أجلي. - 3 - يَشيعُ أَنّني فَرَسُ ناعورةٍ، ويبدو أَنّني كمثل الرُّسُلِ أَضربُ الأمثال. ... قَدّم لي أحدهم تاجاً من الذّهَب. قَدّمَ لي آخَرُ سَعَف نَخْلةٍ مثمرة، قبل أن تتحوّل روحي الى ماء. هكذا، من الآن فصاعداً، عليّ أن أتذكّر أَنّ عليّ أن أنسى إن كان على مملكتي أن تأتي. ... - 4 - أرى كوكباً مهجوراً، أو لعلّه نجمةٌ لم تُُكتشف بعد في الجزء الوراثيّ من جسميَ اللاّجئ. رأيتُ عجائبَ العالم بعينيْ روحي وقلبي وقلت في ذات نفسي: سأبسط أمامها كلامي بجميع درجاته التي تشارك حياتي في تأليف الأساطير. تغلّبَ أَرَقي على نومي إِذَّاكَ تحوّلت الأرقامُ والأعدادُ الى حكايات. قلت مودِّعاً تلاميذي الذين لا وجودَ لهم: الخطوط التي رأيتها في كلّ واحةٍ اتّخذتها مقاماً كانت حجارة منقوشة، نقشاً بلا كتابة. أنَا كذلك حجَرٌ أهمله البنّاؤون... ... - 5 - السّراب الذي يحلم: وجه الصّحراء وقفَاها. الأشياء كلّها موجودة، وهي غارقةٌ في الحلم. اللاّمعنى آخذٌ في أن يكتسب لحماً وعظماً. ... الرّحيلُ يبدأ من النّبع نحو الأسفل عندما يتشهَّى الجمر أن يصل الى شبيهه. ... هكذا سيصبح الزّمنُ مادّةً. ... القافلة والصّحراء تتكلّمان اللّغةَ نَفْسها. - 6 - ألمحُ مَجْرَى نَهْرٍ جافّ وكنتُ رأيتُ في الأفق هيكلَ نَهْرٍ وسوف أرَى كوناً مصفّراً في السّراب عندما سأنظر الى الرّيح من أعلى رابية: كآبة الأرض الموعودة! عندما يَنْحسِرُ البحر، يُخَلِّفُ لنا عالماً كاملاً هديّةَ عيدٍ كنتَ تركتُها تسقط في طفولتك وكنتَ تقدر أن تعثرَ عليها في الإناء الظّامئ. هكذا وجد العالم نفسه فوق رُكَبِنا في كلماتٍ من قَصص الجِنّ. ... لا تكفّ مشاغل العالم عن ارهاق الجسد والرّوح في السّفر الذي تقوم به نحو "الأرض الخراب". نعم، الولادةُ هي الانتصار الأوّل للموت. - 7 - ... جسدي يُعاشر الصّحراء في ذاكرةٍ كيميائية، صانِعاً من نفسي شاهداً على عالم ناقصٍ، وَضَافياً له. على السَّهم أن يهجر القوس، عليَّ أن أتحرّر من نفسي، مهما كلّف الأمر، عليَّ أن أرحل، أن أتخيّلَ أَنّني ذاهِبٌ الى جهةٍ ما. آنذاكَ، فَلْيُصفِّقْ أبطال الشاهنامَه - أينبغي أن أوقّع مع نفسي عَقْداً جديداً؟ ... - 8 - آثار مَطرٍ عَنْبريٍّ في الصّحراء إذن، تلك العين التي ترى كلّ شيء ترَى نفسَها وتُرَى الآن. إذن، حَطّ أخيراً غبار الطّلع الطوفانيّ على أجنحة النّحلة. ... العالم يقشعرُّ فريسةً لِلحُمَّى كما لو أنّه ازدردَ الشّهوةَ حفنةً حفنةً. في اللّحظة نفسها، في طرفَيْ السَّماء الشمس والقمر كميزانٍ يدَويّ. الآن عليَّ أن أرحل العناقيد نَضجت، وها هو فصل القطاف * الاسكندرية 4 كانون الأول 1994 اسطنبول 18 أيار 1997 * نقل هذه القصيدة الى الفرنسية عصمت بيركان. ووضعها أدونيس في اللغة العربيّة بالتّعاون مع الشاعر نفسه. للشاعر كتب شعرية ونقديّة كثيرة، وهو بين أهمّ الكتّاب الأتراك الذي ترجموا الشعر الفرنسي الى التركيّة. يعيش في اسطنبول، ويكتب في جريدة "جمهوريت"، في الشؤون الثقافيّة والسياسيّة. وننشر هنا مقاطع من قصيدة طويلة في اثني عشر نشيداً حول مدينة الاسكندرية.