منتصف آذار (مارس) في مدينة الرياض، كان الجو مغبراً فالعواصف الترابية غمرتنا ووصلت حتى الكويت... في الكويت يتصورها البعضُ قادمة من العراق، في العراق نتصورها قادمة من السعودية، في السعودية ربما يتصورها الناس قادمة من الربع الخالي. هكذا كان الخيال الشعبي ينتظر وصول أسراب الجراد الزاحفة حتى يطرز لنا خيالنا آنذاك، وها نحن اليوم نجلس هنا، في هذه المدينة، نمنّي أنفسنا بالماضي، برؤيته من جديد، باستعادته وكأنه حاضر. صديقي ابن قرناس الذي عوّدني على رحلات قصيرة في البريّة، أكدّ لي هذه المرّة أن الأمطار تقريباً لم تسقط وبالتالي لا شجيرات عوسج مزهرة يمكن أن نراها والتراب يهطل ودرجة الحرارة منخفضة ووقتنا ضيق أصلاً... فكما تعللنا بالمطر ها نحن نتعلل بقلة المطر. كنتُ أذكّر نفسي بالأيام الخوالي حينما كنا ننتظر هذه العواصف الترابية ذات الألوان المغرية بالنسبة لنا، ننتظرها لكي نشقّ طريقنا فرسانا صغاراً حفاة وكأننا نخوض معركة من صنع خيالنا... لكن خيالات الحاضر تطلب الدعة والابتعاد قدر الإمكان عن الغبار الذي جعل أيامي القليلة في الرياض أيام احتقان وكسل ونفور من النشاط... كنتُ أستنجد بالماضي. لكن هذا الماضي لا يسعفني. فأخذت أداري مزاجي بتأمّل الداخل الروحي بعدما أصبح تأمل الطبيعة أمراً غير ممكن إلا من خلال شباك مُسدل الستائر... كنت أتجرّد من مشقة الحاضر وأجلس مقلّباً في زوايا خيالي وأحلامي التي تجرّدها يقظتي لي وتضعها وكأنها علامة طريق جديدة. لم أفقد هذا الشعور حتى وأنا أنتقل إلى المنامة بعد أيام، أخذت أفكر وكأن الأشياء فقدت مذاقها، حتى النوم صار صعباً، الأطعمة والأشربة وكأنها قد فسدت، روحي التائهة تتشبث بكل إشارة، بكل كلمة يمكن أن أجلس عندها وكأنها بيتاً من شعر الماعز أسود اللون، بمافصله المختلفة والتي رُتّب بيتُ الشِعر في ما بعد عليها... أتأمل الأسى الذي لديّ، مغروفاً بطاسٍ من قعر الذكريات، من قعر الماضي، من تلك الإشارات التي كأنها تأتي ولا تأتي، من تلك الوجوه التي لم أعد أراها، فأبدو مثل شخص يودع عالمه، يسير ويتوكأ على عصا خيالية ويتمتم مع نفسه ولنفسه كلاماً مع أشخاص غير منظورين. لكني الآن وقد عدت قبل يوم من العراق من النجف. وكنت قبلها في أربيل وفي السماوة. أجلس إلى ظلي وكأني مطارد من عالمٍ عشت فيه، أتخيّله وكأنه كان لي، ولكنه ليس كذلك، أشدّ الحبال وكأنها تنثال مقطعة بين يدي، وكأني في حلمٍ وقد سقطتُ من علٍ فأطيرُ إلى أعلى فأعلى والذئاب والأفاعي تحتي تريدني... فأبعدُ وأبعدُ أعلى في الفضاء ولا أنجو إلا على صوت التلفون وهو يرنّ ... على رقمي الإماراتي وكان المتصل من الهند، كما يشير الرقم... فأردّ ولكن لا أحد يتكلّم، مجرد همهمة تأتي من هناك. في القرية، التي كنتُ أقطنها، أخذت أتأمل العالم الماضي، العالم الآفل، العالم الذي كان لي كما أعتقدتُ، لكن هذا العالم يتوالد ولا يأفل أبداً، لا يأفل إلا في خيالاتنا الأنانية، فهو يتوالد مثل أشجار في غابة، ففي هذه البيداء التي كنتُ أحتاج لساعات لكي أقطعها على قدميّ مشياً إلى المدرسة أو المدينة... والتي تبدو آنذاك أشجارها أو شجيراتها البرية من بعيد وكأنها وحوش راكضة يحولها السراب إلى قطعان من قوم يهاجمون بعضهم بعضاً... أو يجعل من كلابها السائبة الهزيلة أسراباً من جاموس لا وجود له إلا بفضل السراب... هذه البيداء هي الآن مدينة قيد الإنجاز. والبيوت تجاور بعضها وطرقها آخذة في التكوّن. هنا فكّرت أن أذهب إلى الصحراء لكي أتزوّد بالأمل، هناك أحاول أن أضيّع نفسي من جديد، لكي أجد نفسي، نفسي تلك التي كانت، كنت أريد أن أجد ذلك المذاق، تلك البهجة، الندى في الصباح، الأغنام تثغو، الصوت في الصباح يُسمع من بعيد، الشمس وهي تصعد وكأنها بيضة نارية تنبع من أرض بعيدة، رائحة الشاي بالهيل والأم تقف عند التنور وأقراص الخبز الطازجة... ثم ربما ثمة حليب يُسمح لنا بتناوله وإلا فالشاي الخفيف بالسكر... لكن هناك في الصحراء، تغيّب نفسك قليلاً لتعود إلى عالم جديد، الصحراء وقد مُشّطت تماماً... وعُلّمت بعلامات وفقدت عذريتها... لكن شجيرات الشفلح المزهرة، الطرثوث وقد بدا لك من بعيد وكأنه أفاعي كوبرا وقد نصبت أفخاخاً لطرائد مجهولة، تجعلك وكأنك تعيد اكتشاف عالم تخيلته قد ضاعَ، فالعالم لا يضيع ولكنه قد يغيّر لباسه، ويبدو لك من جديد وكأنك تمسك بالعالم الخيالي الذي فقدته. وقبل أن تعود إلى القرية، تهبُّ العاصفة لكن أتربتها بقيت تهبط حتى يوم سفرك... لكنك زرت نقرة السلمان بسجنها القديم والأقل قدماً... السجن أو السجنان وكأنهما أضحيا مجرد ذكرى من الماضي، ذكرى تُوشك أن تندثر مثل كل الآلام التي عاناها الذين مرّوا هنا، الذين أبيدوا أو أكلتهم الوحوش أو ماتوا عطشاً أو ألماً أو جنّوا من التيه والضياع والفقدان. في طريق العودة إلى القرية، تقودك ذاكرتك، خطاك في الخيال، إلى البحيرة الغريبة: ساوة، الأسطورة الأكثر غرابة في عالمك الماضي والحاضر... الآن وقد تراجعت أمواجها قليلاً ولم تعد ترى أسماكاً فضية صغيرة تسبحُ فيها، وكأن البحيرة تنسحب من الأسطورة إلى الواقع، لكي تكون بحيرة تفتّتْ مياهُها ما حجّرته مويجاتها في السابق، وبدت تلك التماثيل الحجرية التي كانت المياه تغطيها وهي تنثال اليوم شيئاً لا هو حجر ولا هو تراب... وبدت بعض جهات البحيرة وكأنها ساحة تماثيل مغرقة في القدم. في مدينة أوروك وقفت عند معبد آنو... كانت عشتار تنادي ملتاعة: «يا أبي أخلق لي ثوراً يهلك كلكامش، اخلق لي ناراً تأكل كلكامش... إن أنت أبيت أحطّم باب الجحيم، أكسر المزلاج، تتدفق جموع الموتى، تطغى على الأحياء...» مكان العالم السفلي أشبه بمتاهة، هي سجن ليس إلا... ألقيت نظري إلى العالم السفلي. ثم هبطت أمتاراً عدة حتى كنتُ هناك. معبد آنو فوق، يبدو من فوق. وكأنه مكان لا تنوشه الأيدي ولا الأرواح الحائرة هنا وقتذاك. هنا كان كلكامش ينهر عشتار: «كباب البيت المكسور أنتِ، لا يصدّ ريحاً، لا يمنع عاصفةً، كقربة ماءٍ أنت، تبلل من يحملها...» في النجف لأول مرة منذ العام 1978، حينما نشرت ديواني الشعري الأول عن طريق مطبعة الغري، مكانها لم يعد موجوداً، لكن صاحبها: رشيد المطبعي مازال حياً، لم أفلح باللقاء به، قيل لي: حركته أصبحت صعبة. هنا يختلط كلُّ شيء، الحياة بالموت. لا فاصل بينهما. عربات صغيرة من أجل حمل الزوار الذين ثقلت حركتهم... تسمعُ الحزنَ وكأنه مهيمن على المشهد. تسير وكأنك في أتون معركة لا تعرفها. العالم وكأنه أضحى جنازة وكلنا نسيرُ فيها... زرت المقبرة بحثاً عن قبور أقربائي. هناك مكاتب الدفن وترتيب أمور الجنازات، وقد اتخذت شارعاً صغيراً، لكل عشيرة أو عائلة دفّانها، وقد ذكروا لي اسمه، ووجدته، لكن ذاكرته ضاجة بأسماء الموتى... كنت أردد عليه الأسماء التي قد يعرف مكانها وهو كان يحاول طيلة الطريق برمجة الخريطة في رأسه، أن يتذكّر مواضع القبور والأسماء، فكنت أمرّ بقبور أقرباء لي أتذكّر وجودهم الآن بعد كل هذا الوقت، حينما رأيت شواهد قبورهم، كانت دموعي تتدفق وكنت أخفيها... فزخم أخبار الموتى كثيف حتى وجدت قبر العمة «حرّة»، والتي أصابتها نبوة أو هكذا اعتقدت ولم يصدقها أحد. وهناك عمتنا «درة»... لكني لم أفلح بالوصول إلى قبر العمة الثالثة «مرّة»، وجدت أبي يرقد بين شقيقته «درّة» وشقيقه «ردّام». ويبدو أنهم تسامحوا فتركوا أم أولاد «ردّام» ترقد بقربهم. كانت فروقات الوفاة بينهم قليلة. كانت أياماً أو أشهراً، وكأنهم تواعدوا على الرحيل عن هذه الفانية. ما زالت الأتربةُ تهبطُ حينما حلّ الظلام وأنا أترك المكان مع الدليل.