Michael Darmon & Romain Rosso. Front Contre Front. الجبهة ضد الجبهة . Seuil, Paris. 1999. 128 Pages. منذ ان تأسست في 5 تشرين الأول أكتوبر 1972 "الجبهة الوطنية" بزعامة زعيم اليمين المتطرف الفرنسي جان ماري لوبن وهي تمارس جاذبية سحرية على محازبيها وناخبيها من خلال مداورتها البارعة لاستعارة "برميل البارود". وهذا ما لا مناص من أن ينفجر في يوم وشيك بفرنسا ما لم تتدخل الجبهة نفسها لانقاذه باستقدام الفرنسيين لها الى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع. وقد انتهى برميل البارود الى ان ينفجر بالفعل، ولكن ليس بفرنسا، بل بالجبهة نفسها. ففي يوم الأحد 24 كانون الثاني يناير 1999، وفي قاعة الجمناز في بلدة مارينيان المجاورة لمدينة مرسيليا، أعلن المؤتمرون، المنتدبون عن 2000 شعبة وفرع من الجبهة الوطنية، عن انتخابهم برونو مغريه رئيساً جديداً للحزب. مغريه، الذي كان الرجل الثاني في الجبهة الوطنية، تسنم المنصة ليشكر محازبيه ومنتخبيه وليعدهم بأنه لن يكفّ، وإن صار رئيسهم، عن ان يكون ذلك "المتواضع" الذي كانه على الدوام، وانه لن يكون أبداً "لا قيصراً ولا نابليوناً ولا الله الأب"، أي: لن يكون لوبن آخر. والواقع ان كل الصراع بين الرجلين، الكامنة جذوته تحت الرماد منذ سنوات طوال، كان صراعاً بين قامتين: فلوبن "المظلي السابق"، بجثته الضخمة، كان يحتل كل مساحة الزعامة في الحزب، وما كان يقبل ان ينقطع احد لشغل المحل الثاني حتى ولو كان قليل الخطر وخفيف الوزن مثل مغريه، بقامته القصيرة الضامرة التي ما كان يبدو وكأنها تؤهله الدخول في مواجهة مع عملاق الجبهة. وبالفعل، كلما كان برونو مغريه يثير مسألة حقه، بحكم اقدميته وخدماته، في ان يكون "الرقم الثاني" في الحزب، كان لوبن يجيبه: "برونو، انت لست الرقم الثاني. فليس في الجبهة الوطنية "أرقام". وانما هناك زعيم أول وأوحد هو أنا. فأنا الذي خلقت الجبهة الوطنية، وأنتم كلكم مخلوقاتي!". والواقع ان ما من شيء كان يقضّ مضجع لوبن، الذي تعدى السبعين، كالتفكير بأن هناك "ثانياً" يمكن ان يرثه. وقد تفاقم هاجسه هذا منذ اصدرت محكمة الجنح في 2 نيسان ابريل 1988 حكماً بحرمانه من حق ترشيح نفسه في الانتخاب، عقاباً له على اعتدائه باليد على مرشحة الحزب الاشتراكي في الانتخابات البلدية في بلدة مانت - لا - جولي التي تسكنها غالبية من العمال والمهاجرين المغاربيين. وفسر لوبن الحادثة - ومن بعدها قرار المحكمة - على انها "مؤامرة" تستهدف زعامته - المستمرة منذ اكثر من ربع قرن - للجبهة. ويبدو انه تأوّل هذه "المؤامرة" المزعومة على انها "داخلية" اكثر منها "خارجية". ولهذا سارع يصدر قراراً بتعيين زوجته جاني - وليس مغريه - رئيسة لقائمة مرشحي الجبهة للانتخابات الأوروبية لعام 1999. وقوبل القرار باستغراب، وربما باحتجاج صامت، من كثرة من كوادر الجبهة: أولاً لأنه عزز لديهم الانطباع بأن الجبهة تحولت الى "مزرعة عائلية" للوبن الذي سلم العديد من مناصبها لبناته الثلاث ولأصهاره وأقرباء آخرين. ثانياً لأن جاني لوبن - وهي بالمناسبة زوجته الثانية بعد طلاقه الصاخب من الأولى - لم تكن الى حينه، وباعترافها، سوى "ربة منزل". ولم يكن لها من اهتمام سوى الدفاع عن الحيوانات وتربية الانواع الغريبة منها من سناجب وسلاحف، وإن تكن قدترأست بصورة فخرية "نادي الصداقات البروتستانتية" و"جمعية اغاثة اطفال العراق" الناشطين تحت راية الجبهة. لكن لئن تكن جاني لوبن "فوجئت" بالقرار الذي جعل منها سيدة الجبهة الأولى، كما ذكرت في تصريحها للصحافة، فان برونو مغريه قد صُدم، بل فُجع. فقد ادرك انه لن يكون أبداً "الخليفة" لأن وريث لوبن لا بد ان يحمل اسم عائلة لوبن. وبما ان لوبن ليس له وريث ذكر، فإن قيادة الجبهة ستؤول لا محالة الى امرأة، سواء كانت هي جاني زوجة لوبن الثانية، ام واحدة من بناته الثلاث خريجات العلوم السياسية والقانون. ويظهر انه منذ صدور القرار "التاريخي" بترشيح جاني للانتخابات الأوروبية، عقد برونو مغريه العزم على تجاوز موقعه في الجبهة كمساعد أيمن لرئيسها ليحاول التحليق بجناحيه الخاصين، وراح يهيء الأجواء لتنفيذ "انقلاب قصر" داخل الجبهة ضد الزعامة اللوبنية. وقد وجد حليفاً ممتازاً في شخص ساعده الأيمن فيليب اوليفييه، الزوج "غير الشرعي" لماري - كارولين، كبرى بنات لوبن، التي يبدو انها لم تغفر قط لأبيها تطليقه لأمها، والتي آلمها ان يكون اختياره وقع على "الضرة" لتكون هي السيدة الأولى في الجبهة. ولكن مغريه، المتعجل في أمره قليلاً، ارتكب خطأ تكتيكياً: فقد سارع يعلن عبر الصحافة عن ترشيحه نفسه ليس فقط للانتخابات الأوروبية، بل كذلك للانتخابات الرئاسية عام 2002. ومن ثم بادر لوبن، الذي يعاني اصلاً من حسّ متضخم بالمؤامرة، الى عقد المجلس الوطني للجبهة والى استصدار قرار في 5 كانون الأول ديسمبر 1998 بفصل مغريه و"الاقلية المتطرفة، بل العنصرية" المتآمرة معه. وقد علق لوبن على قرار الفصل الذي اذاعه بنفسه بقوله - على معهود عادته - بعبارة درامية: "ان الفرق بيني وبين قيصر حينما اقترب منه بروتوس والخنجر في يده، انه اكتفى بأن يرفع قلنسوته ليحمي رأسه، على حين انني - أنا - شهرت سيفي وقتلت بروتوس قبل ان يقتلني!". وهكذا، وبعد 26 عاماً من تأسيس الجبهة لتكون الممثلة الوحيدة لقوى اليمين المتطرف، وبعد "صعود لا يقاوم" رفعت فيه رصيدها الانتخابي من 0.76 الى 15 في المئة من جملة اصوات الناخبين، انفجر بها برميل بارود خلافاتها الداخلية على مرحلتين: مرة أولى عندما قطع لوبن بيده "رأس المؤامرة" و"أذنابها" بفصله مغريه وأكثر من نصف اعضاء هيئة اركان الجبهة 62 أمين فرع من أصل 102، و140 رئيس شعبة من 275. ومرة ثانية عندما حشد مغريه بعد شهر ونصف الشهر على فصله اكثر من الفين من الملاك القيادي للجبهة في بلدة مارينيان ليبايعوه رئيساً بديلاً لها. ثم كان تطور ثالث وأخير عندما ترافعت "الجبهتان" امام القضا لتثبيت حق كل منهما في حمل اسم "الجبهة الوطنية"، فصدر قرار المحكمة لصالح اللوبنيين، مما اضطر الآخرين الى اعادة تعميد منظمتهم الانشقاقية باسم "الحركة الوطنية". والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يختفي وراء هذا الصراع عامل ايديولوجي؟ فأغرب مفارقة من هذا المنظور ان لوبن نفسه، الذي انتهج خطاً ثابتاً في المزاودة على اليمين الفرنسي باتجاه يمين اليمين، لم يجد تهمة يلصقها بالأقلية المغروية سوى وصفها، في بيان فصلها كما رأينا، بأنها "متطرفة، بل عنصرية". وقد عاد، في تصاريح صحافية تالية، يدمغ المغرويين بأنهم "يمينيون متطرفون" فيما احتفظ فيه لنفسه بصفة "اليمين الوطني". فمغريه قد يكون، بالمقارنة مع لوبن، اكثر تكنوقراطية وأقل ايديولوجية، ولكنه بكل تأكيد يكافئه في الارثوذكسية كيميني متطرف. فكلاهما شارك على قدم المساواة في صياغة استراتيجية الجبهة الوطنية وتكتيكها معاً، على اساس تغذية واستغلال قلق الهوية لدى الفرنسيين، وردّ "الداء الفرنسي" الى الحضور الطاغي ل "الأغراب"، والتركيز على المطلب الأمني كمطلق قومي للفرنسيين ضد المهاجرين تحت شعار: "ليس كل المهاجرين جانحين، ولكن اكثر الجانحين هم من المهاجرين". ولا شك ان انقسام الجبهة الوطنية على نفسها سيفقد خطابها المبني على ثقافة المقت للأغراب بعضاً من مصداقيته. ولكنه لن يضع حداً للوجود السياسي لليمين المتطرف، ما دام هذا اليمين يلبي حاجة نفسية لدى شطر من الناخبين الفرنسيين غير المطمئنين الى غدهم في سياق بطالة مزمنة يتكافأ معدلها مع معدل الهجرة. من المؤكد اذن ان شمس الجبهة، بعد انقسامها، لن تعاود الشروق. ولكن من المؤكد ايضاً انها لن تغرب. ومن دون ان تختفي الأصوات الانتخابية لليمين المتطرف فانها ستتوزع بين لوبن ومغريه. وربما ايضاً بينهما وبين شارل باسكوا، وزير الداخلية السابق الذي انشق هو الآخر عن الحزب الديغولي ليشكل على يمينه حزباً صغيراً لا برنامج له ولا همّ سوى ان يأكل بدوره من كعكة اليمين المتطرف. ولكن بما ان حجم الكعكة محدود سلفاً، ولا يمكن ان يزيد على 15 في المئة من اصوات الناخبين الفرنسيين، فإن احداً لن يأكل بعد الآن من الكعكة حتى الشبع. ولهذا يمكن ان نختم بتكرار القول: انها ليست نهاية اليمين المتطرف، بل نهاية صعوده.