اطلاق شارون وأركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية اسم "الجدار الواقي" على عمليات قتل الأطفال والشيوخ والنساء وتدمير المخيمات والمؤسسات والممتلكات، لا يتناقض مع تعريف الفلسطينيين لها: إنها أول حرب فلسطينية - إسرائيلية حقيقية وقعت على الأرض الفلسطينية منذ نكبة عام 1947-1948، ارتكبت فيها المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية جرائم إنسانية، خططت لها جيداً ووفرت مستلزماتها الأساسية، المادية والدعائية. وهي الثانية، بعد الحرب الشهيرة التي وقعت على الأرض اللبنانية في العام 1982، ودامت قرابة 90 يوماً. وليس من قبيل الصدفة وقوع كلا الحربين في عهد شارون: في الأولى كان وزير دفاع، وفي الثانية رئيساً للوزراء. وفي كلا الحربين حصل شارون على مصادقة أميركية قبل وقوعها، الأولى باركها ريغان وسقط وزير خارجيته الكسندر هيغ قبل توقفها، والثانية باركها الرئيس بوش وأركان إدارته واعتبروها دفاعاً عن النفس في وجه "الإرهاب". وأياً تكن ملاحظات بعض القوى الفلسطينية والعربية صحيحة، حول نواقص عملية السلام واتفاق أوسلو وطبيعة السلطة الفلسطينية التي انبثقت عنه، فهي التي وفرت مقومات وقوع هذه الحرب في الزمان والمكان اللذين وقعت فيها. حشدت فيها إسرائيل أربع فرق عسكرية تساندها أحدث الطائرات الأميركية، واستدعت للمرة الأولى منذ عشرين عاماً 30 ألف رجل من قوات الاحتياط، واستخدمت ما يمكن استخدامه من وسائل قتالية هائلة متوافرة للجيش الإسرائيلي، في مواجهة شعب أعزل من السلاح، وضد تنظيمات سياسية بنت لنفسها تشكيلات عسكرية محدودة العدد والعتاد. وتركز الهجوم الإسرائيلي على أجهزة السلطة الفلسطينية التي أفرزتها اوسلو، وظل تسليح أفرادها كميات محدودة من المتفجرات والأسلحة الخفيفة، ولم يجر تدريبها وتجهيزها وإعدادها، معنوياً وعسكرياً لخوض الحرب وقاتل بعضها في صيغة ميليشيا شعبية غير منظمة. والمبررات التي ساقتها القيادة الإسرائيلية لعملية "الجدار الواقي"، لم ولن تفلح في اخفاء أهدافها الحقيقية. وهي الأهداف المركزية ذاتها التي حددها شارون لنفسه قبل فوزه برئاسة الوزراء وظل يرددها طيلة العام الأول من حكمه: أولاً، توفير الأمن العام والشخصي للإسرائيليين بالاعتماد على طاقات إسرائيل فقط، وإلغاء فكرة الاعتماد على الاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية، وفصل أمن إسرائيل عن المفاوضات السياسية ونتائجها المحتملة. ثانياً، تدمير أسس ومرتكزات عملية السلام مع الفلسطينيين، ونسف اتفاق أوسلو وكل الاتفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تم التوصل إليها. ثالثاً، تدمير السلطة الفلسطينية وضمنها أجهزة الأمن وتجريدها من أسلحتها، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية ونسف مقومات قيام دولة فلسطينية مستقلة، والتخلص من عرفات باعتباره "منبع العنف والإرهاب في المنطقة وزعيم عصابة إرهابية"، وتشكيل قيادة بديلة شبيهة بقيادة انطوان لحد وسعد حداد العميلة. رابعاً، فرض تسوية سياسية قوامها "دويلة" فلسطينية في قطاع غزة ونصف أراضي الضفة الغربية، والمضي قدماً في استيطان النصف الآخر تمهيداً لضمه، وجعل القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل. وأضاف في الآونة الأخيرة أهداف حزبية خاصة. والتدقيق في مدى اقتراب شارون من تحقيق هذه الأهداف يؤكد: نجاحه بامتياز في جر المجتمع الإسرائيلي للحرب تماماً كما حصل عام 1982. وورط حزب العمل في ترويج أفكاره المتطرفة في الشارع الإسرائيلي وشغل أركان هذا الحزب في تسويقها في الساحة الدولية، وفي تنفيذ توجهاته المعادية للسلام مع العرب والفلسطينيين الذي ينادي به حزب العمل. وثبت شارون وضع حكومته حتى آخر يوم من مدتها القانونية نهاية عام 2003. وكرس زعامته لليمين وتخلص من شبح منافسه نتانياهو الذي يطارده، وضمن الفوز بزعامة حزب ليكود أربع سنوات إضافية، في المؤتمر الذي سيعقده الحزب بعد أقل من شهرين. وزاد على ثقل اليمين في الشارع الإسرائيلي وعلى احتمال هيمنة المتطرفين العنصريين على السلطة أربع سنوات اضافية، لا سيما ان المواطن الإسرائيلي لم يعد قادراً على تمييز حزب العمل وزعامته عن الأحزاب اليمينية المتطرفة وزعمائها. وشمعون بيريز وبنيامين بن اليعيزر عملا نجارين بارعين في ورشة شارون، ودقا آخر مسمار في نعش حزب العمل الذي أسهموا في تأسيسه، وبات هذا الحزب عاجزاً عن المنافسة في الانتخابات المقبلة ولا مجال لإعادة تأهيله قبل الانتخابات المقبلة، ويتوقع أن يشهد مزيداً من التمزق بعد توقف الحرب. صحيح أن شارون فشل في تحقيق الأمن، وخسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية والسياسية في الحرب ومجمل عهده كبيرة، وأعماله ضد الشعب الفلسطيني ترقى إلى مستوى جرائم حرب، تستدعي محاكمته داخل إسرائيل ومنعه من تبوؤ أي مركز سياسي كما حصل في العام 1982... الخ، إلا أن انجراف المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف وغياب المعارضة الفعالة، كفيل في المدى المباشر، تحويل الفشل إلى انتصار، وتحويل جرائمه إلى أعمال بطولية ضد الإرهاب والإرهابيين، وتواطؤ إدارة الرئيس بوش مع شارون ومباركته جرائمه، تعزز مواقفه في مواجهة صوت أنصار السلام في إسرائيل والعالم، وتحول دون مثوله أمام المحاكم الدولية المتخصصة بمحاكمة مجرمي الحرب، خصوصاً أن التهم الموجهة إليه تطال الرئيس الأميركي بوش وأركان إدارته، واعترافاته أمام هذه المحاكم - إذا اعترف - تضعهم إلى جانبه في قفص الاتهام كشركاء في الجريمة، التي وصفها تييري لارسن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بأنها "فظيعة تفوق التصور". إلى ذلك، يسجل لشارون نجاحه بامتياز بتدمير اتفاق أوسلو وما انبثق عنه من اتفاقات وعلاقات سلام فلسطينية - إسرائيلية، وبما هو أخطر من ذلك. فقد أعاد منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى أجواء خمسينات وستينات القرن الماضي، وكرس سيادة الأفكار المتطرفة على ضفتي الصراع سنوات طويلة. ونشر شارون وأركانه في الشارع الاسرائيلي بذوراً جديدة للكراهية والعداء للعرب والفلسطينيين. وأحيا مكونات الحقد الفلسطيني العربي القديمة على اسرائيل، وأضاف اليها مكونات جديدة أقوى وأعمق. وستبقى مجازر الجيش الاسرائيلي في مخيم جنين ونابلس، والتنكيل بالفلسطينيين في المناطق الأخرى، واهانتهم وإذلالهم وحبسهم في مدنهم وتجويعهم وتدمير ممتلكاتهم.. الخ وصمة عار في جبين عملية السلام، وحواجز عالية تحول دون وصول السلام الحقيقي بين الشعبين في العقد الأول من القرن الحالي الجديد. ودعوة شارون الى مؤتمر دولي للسلام يعقد في واشنطن، حدد سلفاً حق المشاركة فيه، ليس اكثر من لعبة إعلامية عمرها قصير فبركها الثعلب الصهيوني العريق شمعون بيريز. وقنبلة دخانية اطلقها شارون في سماء المنطقة بهدف تغطية الجرائم البشعة التي ارتكبها جيشه ضد الفلسطينيين. ولتمويه موقفه الحقيقي المعادي للسلام مع العرب. والرد على "ادعاءات" الأوروبيين والفلسطينيين والعرب وبعض الاسرائيليين انه لا يملك تصوراً سياسياً لحل النزاع العربي - الاسرائيلي، والظهور أمام الجميع بمظهر من يملك خطة لحل هذا النزاع. والتشويش على مبادرة السلام التي طرحها الأمير عبدالله وتحولت الى مبادرة عربية في قمة بيروت. وبعد الذي جرى على الأرض الفلسطينية، ساذج من ينضم للرئيس بوش ويصدق ان شارون رجل سلام، جاد في الدعوة لعقد مؤتمر اقليمي أو دولي للسلام في الشرق الأوسط، وانه يملك خطة سلام حقيقي يطرحها على المؤتمر. أو أن مؤتمراً للسلام بين العرب واسرائيل يمكن أن يعقد في وقت قريب. خصوصاً ان شارون استثنى مشاركة عرفات وسورية ولبنان والاتحاد الأوروبي وروسيا في المؤتمر. ونزع فكرة السلام بين الشعبين من ذهن جيل من الفلسطينيين والاسرائيليين. وجيشه ماض في تدمير المجتمع الفلسطيني ودفعه نحو التطرف. وصار الحديث عن السلام الفلسطيني - الاسرائيلي لا لون له ولا طعم، ورائحته في المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، تذكر الفلسطينيين بالمجازر التي ارتكبها شارون وشريكه بوش راعي عملية السلام. وترحب وزير الخارجية الأميركي بدعوة شارون لهذا المؤتمر، يشير الى أن ادارة الرئيس بوش مصممة على غسل يدي شارون من الدم الفلسطيني. ويعتقد شارون ان اسرائيل، بالتعاون مع الادارة الأميركية، يمكنها أخذ حصتها من المبادرة السعودية - العربية من دون مقابل. والضربة القوية التي وجهها للفلسطينيين واظهار عضلات اسرائيل العسكرية في الحرب، وانكشاف ضعف النظام الرسمي العربي، يفرض على القيادة الفلسطينية والزعماء العرب الموافقة على المؤتمر والزحف لواشنطن راكعين على ركبهم. واشارة باول الى أن اللقاء يمكن عقده على مستوى وزراء خارجية، فيها استخفاف بعقل الحكام العرب، وتحقير للحركة الشعبية التي طافت شوارع المدن العربية من المحيط الى الخليج. وتتضمن عزم الادارة الأميركية طمس معالم الجريمة التي ارتكبها شارون، ودعم توجهاته وفرض الاستسلام على العرب. وإذا كان لا مجال لمراجعة المواقف من عملية السلام واتفاق أوسلو، فانصاف الحقيقة التاريخية، واكرام الشهداء، الأحياء منهم والأموات، يفرض على من اتهموا عرفات "وزمرة اوسلو" بالخيانة الوطنية، واتهموا القيادة الفلسطينية بالتفريط والتخاذل والاستسلام، واتهموا أجهزة الأمن الفلسطينية بالتحول الى عملاء وأدوات في يد الاحتلال... الخ ان يعترفوا للتاريخ انهم تسرعوا وأخطأوا في تقدير الموقف. ويعتذروا للجمهور الفلسطيني الذي أساءوا توجيهه وتعبئته. ولا يستطيع ألد اعداء عملية السلام انكار انه لو لم يكن هناك اتفاق اسمه اتفاق أوسلو لما وقعت هذه الحرب الفلسطينية - الاسرائيلية الثانية على الأرض الفلسطينية. وان اجهزة الأمن الفلسطيني نالت شرف الدفاع عن شعبها وسقط من أفرادها وكوادرها مئات الشهداء، واعتقل الآلاف منهم. وما تم بناؤه في عهد السلطة كان هدفاً رئيسياً لحرب شارون. وعلى رغم الدمار الهائل الذي لحق بالأجهزة الأمنية والمدنية تبقى عقبة رئيسية تحول دون نجاح شارون في تحقيق اهدافه. والمطالبة الآن بمثل هذا الاعتراف والاعتذار له ضروراته الوطنية، خصوصاً في ما يتعلق منها بإدارة المعركة السياسية بعد انقشاع غبار الحرب واعادة بناء ما دمره شارون. والارتقاء بالفكر السياسي الفلسطيني، والتخلص من إرث الماضي السياسي التنظيمي البغيض، الذي ساهم في وصول شارون الى قمة الهرم السياسي في اسرائيل، وسهل له الاستفراد بالشعب الفلسطيني. وقبل ذلك كله وضع خطة تحرك سياسي قادرة على التعامل مع الدعوة الى مؤتمر اقليمي للسلام ترعاه الادارة الأميركية. * كاتب فلسطيني.