"أعطني عمراً وارمني في البحر" ... مثل ينطبق تماماً على اشهر لاعبي كرة القدم في تاريخ الكرة الانكليزية بوبي تشارلتون، فهو كان على متن الطائرة التي كانت تقل فريق مانشستر يونايتد الى مدينته في طريق عودته من ميونيخ بعدما خاض مباراته امام بايرن ميونيخ ضمن كأس الاندية الاوروبية في 6 شباط فبراير عام 1958... سقطت الطائرة فمات من مات، لكن العناية الالهية منحته فرصة ثانية ليعيش حياة مديدة لا تزال مستمرة الى الآن. بوبي تشارلتون هو من دون ادنى شك أحد فرسان الامبراطورية البريطانية، وواحد من اخلص لاعبيها. خاض أكثر من مئة مباراة وحصل على كأس العالم عام 1966، وانعمت عليه ملكة بريطانيا بلقب "سير" بفضل سيرته الرياضية العطرة التي اتسمت دوماً بالروح الرياضية القويمة والأداء "النظيف". ربما كانت اكثر نقاط القوة في هذا اللاعب الفذ هي علاقاته المتميزة جداً بزملائه واصدقائه داخل وخارج المستطيل الأخضر، اما على الصعيد الفني فقد كان من افضل صانعي اللعب وموزعي الكرات في عصره. اتسمت تمريراته بالدقة المتناهية، وتسديداته و"التحاماته" بالقوة على رغم بنيته الجسمانية المعتدلة 173 سم. ولا تزال اهدافه الدولية ال49 التي سجلها مع المنتخب في 106 مباريات تحمل الرقم القياسي بين اللاعبين الانكليز، وبفارق هدف واحد عن النجم السابق غاري لينكر. وقد يكون مايكل أوين مهاجم ليفربول وقائد المنتخب الانكليزي الحالي في ظل غياب ديفيد بيكهام المصاب، هو الاقرب الى تحطيم الرقم لو ابتعدت عنه الأصابة لأنه يمكنه ان يلعب دولياً لعشر سنوات مقبلة على الأقل. ولد روبرت تشارلتون، وهذا هو اسمه الحقيقي، في 11 تشرين الأول أكتوبر عام 1937 في اشينغتون، وظهرت مواهبه الباكرة من خلال فريق مدرسة "ايست نورتمبرلاند" ثم انضم الى مانشستر يونايتد وعمره 15 عاماً. وبعد ان شق طريقه عبر فريق الشباب ثم فريق الهواة، شارك اساسياً مع الصف الأول للمرة الأولى امام تشارلتون اتلتيك 4-2 في تشرين عام 1956. حصل مانشستر يونايتد على اللقب في ذلك الموسم، وادى بوبي تشارلتون واجبه معه من خلال تسجيله 10 اهداف في 14 مباراة. وفي وقت كان هذا اللاعب الفذ يشق طريقه نحو الشهرة والنجومية، تعرض لكارثة ولا اسوأ... سقطت الطائرة التي كان يستقلها وزملاؤه في طريق عودتهم من ميونيخ، ولقي 8 لاعبين من رفاقه حتفهم. نجا تشارلتون الذي كان يبلغ العشرين عاماً حينذاك من الكارثة، لكنها تركت اثاراً نفسية لا حصر لها في داخله. اعيد تكوين الفريق مجدداً، وصار تشارلتون حجر الزاوية له. وبعد بضعة سنوات عادت الانجازات والألقاب الى ملعب "اولد ترافورد" الشهير في مدينة مانشستر. وحصل "الشياطين الحمر" على كأس انكلترا عام 1963، وبطولة الدوري عامي 1965 و1967. وبعد مرور عشر سنوات بالتمام والكمال حصل على لقب بطل اوروبا للأندية الابطال بتغلبه على بنفيكا البرتغالي 4-1 في استاد ويمبلي الشهير. وعلى رغم ان تشارلتون تألق في مركز الجناح الأيسر، فانه خاض اولى مبارياته الدولية من الاتجاه المعاكس: الجناح الأيمن. كانت مناسبة لن تنسى ابداً عند هذا النجم الكبير، فالفوز كان كبيراً 4-صفر... وعلى من: منتخب اسكتلندا "الصديق اللدود". وهو لن ينسى ايضاً انه سجل هدفاً في اول مباراة دولية لعبها في 19 نيسان ابريل عام 1958 "لا ازال حتى الان اسمع صوت الكرة وهي ترتطم بالشباك الاسكتلندية... لقد كان هذا الهدف كافياً لدعوتي الى مشاركة منتخب بلادي للمرة الاولى في نهائيات كأس العالم في السويد. لم نوفق هناك وخرجنا من الدور الأول بالخسارة امام الاتحاد السوفياتي السابق، ولم يشركني المدرب والتر وينتربوتوم اعتقاداً منه انني لا ازال متأثراً بواقعة سقوط الطائرة". وفي المونديال التالي عام 1962 في شيلي، عرف تشارلتون طريقه الى التشكيلة الأساسية وسجل هدف التأهل للدور الثاني في مرمى الارجنتين... بيد ان المشوار انتهى سريعاً بعد الخسارة امام البرازيل التي نالت اللقب في ما بعد. لكن مونديال عام 1966 الذي اقيم في انكلترا تحديداً شهد تفجر مواهب هذا اللاعب الفذ، وساعد هو وشقيقه جاكي الذي صار ابرز اعمدة الدفاع في حصول بلاده على اول وآخر لقب لها... ولعل خير دليل على ذلك ما قاله اللاعب الألماني الشهير: "لقد خسرنا المباراة النهائية امام انكلترا، لأن منتخبها كان يضم بوبي تشارلتون". وعندما توجه المنتخب الانكليزي عام 1970 الى المكسيك للدفاع عن لقبه كان بوبي من بين افراده، ولعب في مركز مساعد الهجوم الأيمن... بيد ان غلطة واحدة ارتكبها المدرب الف رامسي باخراجه من الملعب وهو متقدم على المانيا لإراحته لمباراة الدور نصف النهائي كانت كفيلة بخروج الانكليز من ربع النهائي، بعد ان قلب الألمان الطاولة على رأس رامسي وفازوا بالمباراة. ولا تقل شهرة بوبي تشارلتون حالياً عما كانت عليه لاعباً، لأنه يعمل دوماً من اجل مصلحة اللعبة من خلال ترحاله المستمر لنشر كرة القدم الحقيقة في كل ارجاء المعمورة... ولا يسع المرء وصفه سوى بأنه خير سفير لجيل عرف المعنى الحقيقي لتجاوز الأزمات والصعاب، وهل هناك اصعب من ان يرى الانسان الموت يقترب منه ويغتال اعز اصدقائه... وبالجملة؟!