منذ ان أعلنت دول الاتحاد الاوروبي أنها مفتوحة الحدود، تعيش ايطاليا زوبعة إعلامية حول مصير الموروث الفني، ويطلقون على هذه المشكلة اسم الكراك اي التصدع. الصحافة وأجهزة الاعلام الاخرى، مع جوقة المؤسسات الفنية، صعّدوا الصوت كأنهم اكتشفوا بعد أميركا والمعكرونة أن تراثهم الفني الذي يملأ شبه الجزيرة بدأ يتصدع ويتعرّض للسرقة بعد اعلان الخطوات القادمة في التوحيد الاوروبي ورفع القيود الجمركية. الكل يصرخ أن أغنى بلاد العالم بالموروث الفني سيصبح قلعة للمزاد العلني والسري. لا أحد يقف في وجه هذا الجنون الذي يجلب الثراء السهل. مجموعات من الشبيبة تتفق في ما بينها لتحمل الفؤوس والمعاول والاجهزة التكنولوجية الحديثة، في رحلات سرية ليلية نحو المعابد والكنائس المهجورة وفي المواقع الأثرية المعروفة ليجدوا ضالتهم بقطعة اثرية أو تمثال أو قناع من اجل الحصول على قطعة سيراميك أو جدارية أو قطعة من تمثال. تزايدت التجمعات الشبابية يوماً بعد آخر، والكل ينبش ويحفر في هذه الارض الممتلئة بالكنوز، الكل ينظّم نفسه ويتقمص شخصية علي بابا ليفتح له سمسم الايطالي احدى محطات الحظ. دولة رجل المال وملك التلفزيونات الخاصة والعامة سيلفيو بيرلوسكوني، تتفرج على مشاريع "الحظوظ" و"علي بابا الايطالي" الذي اصبح شركات وعصابات لها وادواتها وتقاليدها ومواعيدها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، اضافة الى شبكاتها على الانترنت. ويقف فوق الجميع عصابات الاجرام المنظم وهي المافيا والكومورا التي تصدعت ايطاليا بسياساتها ونظمها الاجتماعية على أيديهم الماهرة منذ زمن طويل. بعض من هذه التجمعات الشبابية هي عصابات، لحركة ينظمها "بزنس" كبير، ترتبط برجال الاعمال من عصابات المافيا تعزز مواقعها ومعاقلها في جزيرة صقلية، وعصابات الكومورا التي تنتشر في مقاطعة كمبانا وعاصمتها الاقليمية نابولي، وتجر الى مهاويها ألوفاً من الشباب الباحث عن حل لأزماته، ولأنها مرتبطة بنوع خاص من رجال الاعمال الذين يتاجرون بكل شيء بما في ذلك أرواح البشر وأعضائهم، والاسلحة والمخدرات والآداب وصناعة الأذواق فهم يمتلكون إضافة الى الخبرة التقصي ومعرفة مواقع الكنوز، الا أنهم ايضاً يمتلكون موارد مادية هائلة ونفوذاً في أوساط المؤسسات الرسمية تمكنهم من تعاطي الرشوة وشراء الذمم. كنائس تقلع جدارياتها وأبوابها وشبابيكها. أي قطعة حجر أو مرمر أو معدن، من جرار وعملات نقدية، وأوان نحاسية وفضية، وحلى ذهبية، وتماثيل من الحجر والحديد والبرونز... قبور تنبش للعثور على عظام وجماجم الأباطرة والملوك والشخصيات المعروفة التي صنعت التاريخ، وقبب ينزع عنها سيراميكها وفسيفسائها وتيجان أعمدتها، ومتاحف تسرق في وضح النهار، واخرى تغلق أبوابها بعد ان سحب العديد من اصحاب الموروثات واللوحات الفنية القديمة ممتلكاتهم خوفاً من تعرضها لمسلسل السرقات. ايطاليا أبرز دولة في العالم تتعرض آثارها للسرقة ولل"الكراك" فقد سجلت السرقات منذ بداية اعلان الوحدة النقدية بين دول الاتحاد الاوروبي أرقاماً قياسية اربكت الجميع على المستويات الأمنية والفنية. أبرز المسروقات تنتمي الى العهدين الاتروسكي والروماني، اضافة الى عصر النهضة. تتفق المجموعات الشبابية من 3 الى 5 أشخاص على النزول الى ساحة التنبيش لأخذ حصة من الذي تطلق عليه الدولة الايطالية بالثروة الضائعة فتتم الغارات الليلية في الأماكن التاريخية المعروفة مثل المناطق التي شهدت تواجد التجمعات الاتروسكية تشيرفيتري القريبة من روما والتي لا تزال الى يومنا هذا تمثل "كنوز" الارض التي تتطلع اليها جميع العيون. فيتم تحديد المكان المناسب لتتم عملية الحفر في الارض حتى الوصول الى عمق بضعة أمتار، واذا تعثر الحظ فان المجموعة تجرب مكاناً آخر في يوم آخر وهكذا. ولهذا السبب يشاهد السائح وهو يتجوّل في المناطق الاتروسكية أو الرومانية في المناطق التي تحيط بالعاصمة الايطالية روما وفي مناطق توسكانا، آلاف الحفر المهجورة. وعندما تفلح مجموعة من المجموعات الشبابية بالعثور على بعض القطع الأثرية فانها تجد أسواق التصريف مفتوحة أمامها، وهو ما يمكنها من شراء معدات حديثة للحفر والتنقيب متخصصة يؤهلها أولاً لخوض تجارب أكثر خطورة. يتم تهريب هذه الكنوز عبر احد الوسطاء الذي غالباً ما يكون عميلاً لعصابات المافيا، عن طريق البحر أو البر، حيث سويسرا ودول الاتحاد اليوغوسلافي السابق، ومن هناك الى أوروبا الغربية والولاياتالمتحدة. اللوحات الفنية منها تطوي وتضغط على هيئة قطع صغيرة وتوضع في محافظ المظلات الشمسية أو تحت أغطية المناضد ومقاعد السيارات المسافرة، أو تحشر في زوايا حقائب السفر، أو في الفراغات الخفية لسيارات الحمولة الكبيرة أو في أقفاص وصناديق مسطحة تضاف بطرق فنية محكمة تحت مقاعد السيارات أو في سقوفها. تحتل السرقات وقصص المضاربة التجارية مواقع بارزة في تحقيقات الصحافة الاوروبية، وتعكس روح المغامرة واعمال الجنس واللصوصية التي اصبحت تمثل قصص الخيال الفنتازي التي يتداولها الناس. الشابة ليزا بيرتونتي 32 سنة من روما، تدير حالياً محل لبيع الملابس. لها باع طويل في عمليات "النبش" في بعض مناطق مدينة تشير فيتري المشهورة بتواجد الآثار الاتروسكية، وقبل سنوات قليلة عثرت على تمثالين لرأسي طفلين اتروسكيين بالحجم الطبيعي وبحال سليمة جداً في حفرة عميقة داخل الحديقة الصغيرة للبيت الذي كانت تسكن فيه، حيث كانت تريد زرع شجرة نخيل، فضرب الفأس الذي كانت تحمله صديقته ليزا صخرة، فأوقفت الحفر لتنزل الى الحفرة ولتكتشف هذا الكنز. باعت أحد التمثالين لوسيط بثمن مكنها من شراء البيت نفسه الذي كانت تستأجره في احدى ضواحي "تشير فيتري" اضافة الى شرائها أدوات حديثة للحفر لتكون دليلها للعمل الذي قررت القيام به، وتخرج مع اصحابها بين الحين والآخر لممارسته بمحبة كبيرة مصحوبة بخوف. وتقول ليزا: "اصبحت لنا خبرة عملية بالأماكن التي نحددها في النهار ونتدارسها ثم ننزح اليها مشياً على الاقدام في ساعات الليل المتأخرة، بعد ان نكون قد طمأننا الحارس الموجود من خلال دفع الرشوة التي اعتدنا دفعها له، ويكون عادة برفقة أحد اعضائنا لمراقبة الدوريات المحتملة، واخبارنا من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة في مجالات عملنا لم تكن متوافرة عند من سبقونا. لدينا حالياً أجهزة حفر سريعة للغاية ولا تحدث أصواتاً عالية، كما تتوافر لدينا أجهزة فاحصة نمدها في الحفر التي نقوم بحفرها لمعرفة ان كان ثمة مواد آثارية صلبة، لتتيح لنا عملية توسيع الحفر والنزول الى قاعات القبور بعد ان نكون قد اسندناها بقوة لضمان عدم سقوطها على رؤوسنا. توافرت لدينا اضافة الى المواد التقنية الحديثة، مواد لحفظ السلامة والنزول والصعود والحمل بسرعة وأمان. وتضيف: "حالفنا الحظ أكثر من خمس مرات خلال السنوات الثلاث الاخيرة، وقد عثرنا في المرة الاولى على جرار وأواني اضافة الى بعض المصوغات الذهبية، وللأسف تكسرت بعض الجرار التي كانت في حالة سليمة لعدم خبرتنا الدقيقة آنذاك في كيفية التعامل معها وحملها ورفعها الى الخارج اذ كنا نتعامل معها بشكل بدائي، كما كان للخوف أثره الكبير في ارتباكنا، لأنك تعلم ان مثل هذه التنقيبات يمنعها القانون ويحاكم عليها بأحكام ثقيلة للغاية، الا اننا كنا سعداء وخرجنا من حفرة القبر بعد وقت قصير وتركنا بعض الجرار والأواني ولوح القبر الثمين الذي يحمل كتابات اتروسكية، لانه كان ثقيلاً للغاية، وكنا خائفين وكان ذلك خطأ لن نغفره لأنفسنا، الا ان النتيجة كانت فوق ما كنا نتصوره، وتعطلنا بعد تلك الحادثة السعيدة تضحك بزهو عن العمل اكثر من ستة اشهر". وتتابع: "كنا خمسة، ومن نزل الى قاع الحفرة ثلاثة، وظل الرابع يراقب من فوق بعد ان اخفى عدة الحفر واجهزة الفحص والتصوير الدقيقة في مكان قريب، اما الرابع فكان مع حارس المنطقة، وقد تقاسمنا الارباح التي جاءتنا سريعة هي الاخرى، اثنان منا تزوجا، كما اشترى بعضنا بيوتاً ورابع فتح محل لبيع السجائر، والخامس غادرنا الى الولاياتالمتحدة ليكمل دراسته في الآثار.