يفتعل الاعلام الاميركي الحيادية في تغطيته اخبار الاجتياح الاسرائيلي للضفة الغربية والفظاعات التي يرتكبها جيش الاحتلال، وفي ملاحقته لأنباء المجازر في مخيم جنين، ونابلس، وللجرائم التي يرتكبها رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون. ويبذل بعض الكتّاب الصحافيين المشهورين، ومقدمي البرامج السياسية على شاشات التلفزة الأميركية، جهداً من اجل ان يظهروا بمظهر الموضوعية، المنقوصة طبعاً، في اثارتهم للأسئلة والأنباء عن المجازر وقتل المدنيين الأبرياء من الفلسطينيين، ليتمكنوا من القول، اذا تعرضوا للانتقاد لاحقاً بأنهم اسهموا في التغطية على ما ارتكبه الاسرائيليون: لقد اثرنا قضية قتل المدنيين. وفي معظم الحالات هذا عندما يتوخون الظهور بمظهر الموضوعية تنتهي مقالاتهم، او البرامج المتلفزة التي يبثونها الى نتائج يغلب عليها التشكيك بحصول مجازر، او التقليل من اهميتها، او بردّ اسبابها الى "الارهاب" الذي يمارسه الفلسطينيون عبر العمليات الاستشهادية... فيصبح الفلسطيني الاستشهادي، وليس الاجرام الاسرائيلي، سبب مقتل الفلسطيني المدني. وسبب انقلاب الآية على شاشات التلفزة الاميركية ان مقدمي البرامج، حين يستطلعون آراء خبراء او مسؤولين يأتون بعربي واحد او بمعلّق اميركي يخجل من تعاطفه مع العرب امام حجم ضغط اللوبي الصهيوني في واشنطن وعلى الاعلام الاميركي ثم بإسرائيلي، ثم بمعلق اميركي متعاطف مع اسرائيل. ويصبح العربي او الاميركي المنتقد لاسرائيل في مواجهة ثلاثة محاورين من الخصوم او اكثر، لأن مقدم البرنامج سيضطر الى طرح الاسئلة على العربي من موقع المختلف، كذلك مع الاسرائيلي توخياً للموضوعية. وفي وقت تبث التلفزيونات الاميركية صور الاجتياح والقتلى المدنيين الفلسطينيين، في مرتبة ثانية او ثالثة، احياناً، من اولويات النشرات والأخبار. فإن الوقت المخصص لها هو جزء بسيط من ذلك المخصص لصور القتلى الاسرائيليين الذين يسقطون في اي عملية استشهادية، أكانوا من المدنيين او العسكريين. كل هذا في نشرات التلفزة الموجهة الى آسيا وأوروبا. اما في البرامج المخصصة للداخل الأميركي فإن الامر اسوأ بكثير. اما الصحف الاميركية، فتكاد تغيب عنها صور القتلى المدنيين من الفلسطينيين. ويكتفي الاعلام المرئي والمكتوب بالتركيز على دمار منازل الفلسطينيين، وحاجتهم الى الطعام بعد الحصار والرعاية الصحية... فيصبح الاهتمام بأوضاعهم الانسانية المزرية تغطية لعملية سياسية - اعلامية قوامها تجهيل هوية من ارتكب الجرائم ضد الانسانية، وتجاهل اسباب هذه الاوضاع المزرية. وتولّد صورة "التعاطف الانساني" مع الفلسطينيين في وسائل الاعلام الاميركية انطباعات عند الاميركيين والغربيين بأنهم شعب من اكثر الدول تخلفاً، يحتاج الى "الاعانة"، انهم في وضع شبيه بتعرض منطقتهم الى كارثة طبيعية، فتطمس قضيتهم الوطنية. أليست هذه الصورة التي استخدمتها الادارة والاعلام الاميركيين في الحرب في افغانستان؟ أليست هذه الصورة هي التي تهدف الى تكريس الرئىس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي قال عنه الرئىس جورج بوش انه "خان آمال شعبه"، على انه مثل "طالبان" و"القاعدة"؟ ان ما يعكسه الاعلام الاميركي هو دليل آخر الى الاتفاق الاميركي - الاسرائيلي الكامل، حتى على التفاصيل، في الحرب التي يخوضها شارون في الضفة الغربية. فالإدارة الاميركية جيّرت بالكامل توافقها مع هذا الاعلام على اشتراكه معها في الحرب ضد افغانستان، وعلى اسهامه للترويج لهذه الحرب وتجنبه انتقادها ... باعتبارها حاجة قومية تتعلق بالأمن الوطني للولايات المتحدة. ان هذه الاستنتاجات لا تهدف الى "مقاطعة" الاعلام الاميركي والاقلاع عن قراءته او مشاهدته، ولعل العكس هو المطلوب، بل هي دعوة الى التفكير المتأني بالتأثير فيه. وهذا ليس سهلاً. فمن نافل القول ان هذا التأثير يفترض ان يتزامن مع تأثير عربي سياسي في السياسة الاميركية نفسها والاعلام الذي يشكل الميدان الرئىس للنفوذ الصهيوني في الولاياتالمتحدة، من ضمنها. ومن نافل القول ايضاً، انه لم يعد ممكناً الاعتماد على الجامعة العربية، او على وزراء الاعلام العرب في اي جهد من هذا النوع. ان الغيظ من كمية الخبث المفروض على الاعلام الاميركي، لا يعادله إلا الغيظ من عجز تلك الجامعة ومعظم هؤلاء الوزراء. وإذا كان من امل بجهد ما فهو من الاميركيين العرب، وأصدقائهم من الاميركيين الاميركيين.