إن ما أقدمت عليه اسرائيل في الفترة الاخيرة فاق كل تصور، وبلغ ما لم يكن متوقعاً في أسوأ السيناريوات، إذ أن اجتياح المدن الفلسطينية والمذابح التي قام بها الجيش الاسرائيلي تتقدمه الدبابات والجرافات في اكبر عملية عسكرية ضد الارض الفلسطينية فضلاً عن الممارسات التي تجاوزت كل الحدود وفاقت كل التصورات، إن هذا الذي فعلته اسرائيل وضع المنطقة أمام موقف غير مسبوق تبدأ فيه الاحتمالات من إنهاء القيادة الفلسطينية وصولاً إلى القضاء على سلطة الحكم الذاتي مروراً بالتخلص من اتفاق اوسلو ونتائجه على الأرض. وفي ظني أن ما حدث قد لا يكون شراً كله، إذ أن الأمور تبدو الآن واضحة بحيث يمكن تسميتها بمسمياتها الحقيقية ووضعها في اطارها الصحيح. لقد اظهرت الأيام الأخيرة بأحداثها المأسوية ووقائعها المروعة عدداً من النتائج التي يجب أن ندرسها جيداً وأن نتأمل ما فيها لأنها تحمل في طياتها صورة المستقبل، وسأحاول أن أوجز ذلك في الملاحظات الآتية: أولا: اننا يجب أن لا نقف فقط أمام الأحداث وقلوبنا تنزف، وعواطفنا تطفو، وحماسنا يشتعل، بل لا بد من قراءة ما وراء الأحداث ودرسها في اطار المتغيرات الدولية والاقليمية لأننا نشعر حالياً بأن هناك رغبة في التحرش بالدول العربية، بل إننا نذهب الى ما هو أبعد من ذلك لنقول إن الأمر يصل الى محاولة تغيير المناخ الفكري والثقافي في المنطقة كلها. ولعلنا نشير في ذلك الى كلمة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في الجلسة الافتتاحية لقمة بيروت العربية، وهنا نضيف كذلك أن الولاياتالمتحدة أظهرت في مراحل معينة من حملتها ضد الارهاب رغبتها في ضرورة مراجعة برامج التعليم في بعض الدول العربية والاسلامية، بل إنها وجهت مطالب محددة حول التعليم الديني في عدد من الدول الاسلامية نذكر منها الجمهورية اليمنية كمثال، فالأمر يتجاوز إذاً مشاهد الأحداث رغم قسوتها لكي يصبح مقدمة لتغييرات يجري الإعداد لها قد تؤدي الى تحولات ضخمة في الانظمة والسياسات بل ربما ايضاً في الأفكار والثقافات. ثانياً: إن العلاقة بين اسرائيل والولاياتالمتحدة ليست فقط علاقة انحياز كامل أو ارتباط استراتيجي مقنن ولكنها تتجاوز ذلك الى نوع من الارتباط العضوي الذي يحمل أعلى درجات الالتزام المطلق بأمن اسرائيل عسكرياً ودعمها اقتصادياً وضمان تفوقها اقليمياً، وهي مسألة - رغم وضوحها - تحتاج الى تأمل يكشف عن حدود التعامل مع هذه الدولة، فالقضية ليست هي ان اسرائيل تحمي المصالح الاميركية في المنطقة أو انها تمثل الشرطي الاميركي في الشرق الاوسط ولكنها تذهب بعيداً ربما لتصل الى العامل الروحي والديني المتمثل في التفسير "التوراتي" للعهد الجديد الذي تجسده في الولاياتالمتحدة تلك المجموعات التي يطلق عليها "البروتستانتية اليهودية"، فالذي نريد نقوله تحديداً في هذه النقطة هو ان اسرائيل نجحت في أن تصبح جزءاً غالياً من الكيان الاميركي وأقنعت دوائر صنع السياسة في واشنطن بأنها صمام الأمان في منطقة تموج بتيارات معادية للفكر الغربي وللوجود الاميركي ونجحت في تصوير الدولة العبرية بأنها واحة الديموقراطية وسط صحراء تخرج منها قوافل الارهاب لأن المنطقة بتركيبتها السكانية وأنظمتها السياسية تمثل البيئة التي تفرخ الارهاب وتصدر العنف وتدفع بثقافة الكراهية للآخر! ثالثا: إن "الأجندة" الاميركية في الشرق الاوسط هي "أجندة" شاملة تتوحد عناصرها الثلاثة، ففيها الحملة ضد الارهاب بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، ثم المسألة العراقية بكل حجمها في العقل الاميركي والأمن الاسرائيلي، ثم تأتي قضية الصراع العربي - الاسرائيلي لتشكل الاطار العام الذي تتحدد به حركة العاملين السابقين، وتقوم الولاياتالمتحدة عند نسج خيوط سياساتها الشرق أوسطية بعملية ربط مباشر بين هذه الابعاد الثلاثة، ولعل زيارة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني الاخيرة كانت تعبر عن شيء من ذلك لأنها كانت تمثل جولة استطلاعية أراد منها أن يستكشف إمكان الحصول على موافقة بضرب العراق في مقابل تحسينات وقتية في الموقف الاميركي تجاه القضية الفلسطينية، وأظن أن مشروع المقايضة ذلك لم يكتب له النجاح، بل انني أميل ايضاً الى أن الضوء الأخضر الذي حصلت عليه اسرائيل من الولاياتالمتحدة للقيام بعمليتها الاخيرة كان يحمل بين أسبابه شيئاً من نتائج زيارة تشيني فضلاً عن روح المصالحة التي سادت قمة بيروت وانعكست على الحالة بين العراق والكويت خصوصاً أن ملف العراق له طابع دولي اكثر منه اقليمي. ولا أظن ان تحسن علاقة العراق بجيرانه العرب سيعفيه من الغضبة الاميركية المتصلة والتي وجدت في اعلان العراق عن مكافأة مالية لكل أسرة استشهادي فلسطيني وإعلانه ايضاً ايقاف ضخ بتروله لمدة شهر مبرراً لاتهامات جديدة ضده فضلاً عن انه عضو في "محور الشر" الذي يتحدث عنه الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، كما ان الادارة الاميركية الحالية مصممة على تناول المقاومة الفلسطينية في اطار الظاهرة الارهابية وهذا هو أخطر ما في الأمر كله. رابعاً: إن تعددية المعايير اصبحت حقيقة يجب الوعي بها والتعامل على أساسها، فلم تعد المسألة قاصرة على مفهوم الازدواج وحده ولكنها تجاوزته الى مفهوم التعددية، فالكثير مما نسمعه من شعارات انسانية وتعبيرات قانونية هي كلها امور نسبية تخضع لظروف الزمان والمكان وليست بالضرورة مؤشراً حقيقياً لواقع العلاقات الدولية المعاصرة، ويجب أن نعي هذه النقطة جيدا لأن الاعتراف بوجودها يعفينا من الخلط الفكري ويضعنا امام الحقيقة في جلاء ووضوح، كما أنه يقدم المبرر لسياسة الكيل بمكيالين في ظل غيبة عدالة مواقف القوى العظمى في الصراعات الدولية وأيضاً في ظل افتقاد ديموقراطية العلاقات الدولية. خامساً: إن "الأجندة" القطرية في الوطن العربي - بحكم ظروف معقدة وارتباطات متشابكة وضغوط متراكمة - تبدو أحياناً أقوى بكثير من الحسابات القومية ذاتها أو اعتبارات المصلحة العربية العليا، ويجب ان نعترف بهذه النقطة بالذات لانها تمثل صورة الواقع العربي الذي نجد نظيره في تجمعات جغرافية أخرى، فلكل قطر أوروبي "أجندته" الخاصة في اطار الاتحاد الأوروبي القائم والأمر يبدو طبيعياً إذا سلمنا بأن لكل دولة أولوياتٍ مختلفةً واهتماماتٍ متباينةً وأدواراً متفاوتة. سادساً: إن المسافة بين الشارع والحاكم تتأرجح في الأنظمة العربية وفقاً لمساحة الديموقراطية في كل قطر عربي، ولكن في وقت الازمات القومية تبدو تلك المسافة محل جدل لأن الجماهير تملك ترف الانفعال المطلق بينما يخضع الحكام لاعتبارات نسبية والتزامات تعاقدية تخلق احياناً هوة موقتة تحتاج الى درجة من الصدقية يجب أن تعززها شفافية سياسية عالية. سابعاً: إن قضية التحديث بما تحتويه من مفردات تتصل بتطوير التعليم، وتصدير الثقافة، وتوطين التكنولوجيا، مع توسيع دائرة المشاركة السياسية، وتعزيز الديموقراطية، هي كلها عناصر الدولة العصرية التي تملك مقومات التفوق لأنني أظن - وأرجو ألا أكون متجنياً - أن الأحداث الاخيرة قد كشفت عن كثير من أوجه النقص وجوانب القصور على الساحة العربية. وأنا لا أشير بذلك الى دولة بعينها او قطر بذاته، ولكنني أشير فقط الى حال العجز التي شعرنا بها في المواجهة الاسرائيلية الاخيرة اذ بدت المنطقة محصورة بين العواطف الملتهبة في جانب والواقع الدولي والاقليمي في جانب آخر. ثامناً: يجب أن نعترف بأن توظيفنا لإمكاناتنا لا يزال دون المتاح بكثير، بل إن مركب القلق وتراكم المخاوف جعل استخدامنا للهامش الممكن تراجعياً هو الآخر. وهنا نقرر أن النظام الاقتصادي الدولي وضعنا في زاوية يبدو الثراء فيها لامعاً ولكن يبقى القرار مقيداً، فكل حديث عن سلاح النفط او المقاطعة الاقتصادية اصبح يرتطم بمجموعة من المحاذير التي تجعله يكاد يكون سلبياً على أصحابه أكثر منه ضرراً للمقصود به. تاسعاً: إن خطابنا السياسي ورسالتنا الاعلامية لا تزالان معنيتين بالداخل ومتجهتين محلياً اكثر من اتجاههما عالمياً، وبالتالي فخطابنا غير قادر على الوصول الى عقلية الآخر فضلاً عن تكرار الاطروحات وروتينية الفكر التي جعلت ذلك الخطاب ذاتياً وهامشياً في ظل تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصال التي صاحبت فكر العولمة وأضحت إحدى نتائجها. عاشراً: انني احسب ان الصراع العربي - الاسرائيلي بلغ مرحلة تقترب من نهايته، فلقد قدمت اسرائيل اسوأ ما فيها وأظهرت للعالم اقبح ما لديها، لذلك فإنني لا أبالغ اذا قلت إننا اصبحنا قريبين من مرحلة "نكون أو لا نكون"، إذ أننا نقترب من الفصل الختامي في المرحلة الحرجة للصراع الطويل، وهي مسألة تستوجب وقفة ندرك معها طبيعة ما يدور حولنا من دون انفصام في الشخصية، أو ازدواجية في الرؤية، او ضبابية في النظرة، فالأمور تبدو الآن واضحة بغير التباس او التواء. إن الخروج من مأزق الاجتياح الاسرائيلي يقتضي التعامل مع النقاط السالف ذكرها بشجاعة ووضوح، ومواجهة الولاياتالمتحدة وقوفاً على ارضية مشتركة مع التركيز على المصالح المتبادلة، واعتماد روح جديدة تغير الصورة السلبية للعرب، وتكشف جرائم اسرائيل التي لن تسقط بالتقادم، مع طرح موضوعي للمستقبل تتبادل فيه الاطراف ضمانات الأمن وترتيبات السلام، مع دعم القوى السياسية في اسرائيل رغم وعينا الكامل بما برع فيه الاسرائيليون من توزيع للأدوار وتوظيف للديموقراطية في خدمة السياسة الخارجية، إننا يجب ان نجعل حديثنا حياً ينبض بالأمل وقوياً يؤثر في الآخر رغم حجم الدماء التي اهدرت والثقة التي ضاعت والامل الذي ابتعد والامن الذي غاب والسلام الذي اختفى. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.