شكلت جولة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في الشرق الأوسط نقطة تحول مهمة في تصوره للمنطقة وبداية متواضعة في كيفية تعاطي ادارة الرئيس جورج بوش مع المعطيات الاستراتيجية الدولية، بما فيها قضيتا الصراع العربي - الاسرائيلي والعلاقات الأميركية - العربية. وعلى رغم ان مهمة تشيني في الشرق الأوسط ركزت على حشد الدعم الاقليمي لتوجيه ضربة عسكرية اميركية محتملة للعراق في نهاية الربيع أو بداية الصيف المقبل، إلا أنه جُبه بخطاب مختلف طالبه حيثما اتجه بإنهاء العنف المتصاعد والخطير بين الاسرائيليين والفلسطينيين الذي أوقع أكثر من ألف ضحية وعشرات الآلاف من الجرحى معظمهم من المدنيين الفلسطينيين. أحد الدروس الرئيسية التي استنتجها وتعلمها نائب الرئيس الأميركي خلال جولته هو ان قضيتي العراقوفلسطين متلازمتان ومتعلقتان ببعضهما في أذهان القيادات العربية والرأي العام العربي أيضاً، ولا يمكن فصلهما، وأي تحرك أميركي ضد نظام الرئيس العراقي صدام حسين يتطلب ليس فقط هدوءاً نسبياً على ساحة الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني بل يتطلب ايضاً تقدماً ملموساً في عملية السلام. فالمطلوب ليس فقط وقف للنار بين الاسرائيليين والفلسطينيين وانما ايجاد إطار سياسي طموح لحمل القيادة الاسرائيلية على الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مع الاعتراف الواضح والقانوني بحق اسرائيل بالوجود وانشاء علاقات طبيعية معها من جانب دولة فلسطين. ويبدو جلياً ان جهود تشيني لفصل قضيتي العراقوفلسطين لم تقنع الزعماء العرب الذين تقلقهم معاناة الشعب الفلسطيني وازدياد الغضب الشعبي العارم بسببها. فصور الأحداث الدامية في الأراضي المحتلة وجثث الفلسطينيين التي تعرض يومياً على شاشات الفضائيات العربية، تجعل مسألة الدعم العربي العلني لضربة أميركية للعراق صعبة جداً وتكاليفها السياسية عالية. فالأنظمة العربية تخشى من أن يؤدي استقطاب الاسلاميين وغيرهم من القوى المعارضة الرأي العام الى ازدياد التشكيك في شرعية حكوماتهم وفضح عجزها عن تقديم المساعدة للشعب الفلسطيني المحاصر واظهار ولائها لأميركا. وفي الواقع، لا تمثل المواجهة بين الاسرائيليين والفلسطينيين مصدراً لعدم الاستقرار السياسي داخل الدول العربية فحسب، بل تعمق أيضاً مشاعر العداء للولايات المتحدة وسياساتها في العالم الاسلامي. وإذا استمر الصراع العربي - الاسرائيلي قائماً ومتأزماً فإنه سيضعف ويقوّض الحرب الأميركية الواسعة على الارهاب، وسيذكي نار التطرف ضد واشنطن وحلفائها في المنطقة العربية. وللأسف، لا يبدو ان الادارة الأميركية استوعبت أهمية هذه العلاقة الوثيقة بين استمرار الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي ومشاعر العداء في العالم الاسلامي ضد سياسات واشنطن. هناك درس آخر يبدو ان نائب الرئيس الأميركي، وكل أركان الادارة، بدأوا بالتعامل معه تدريجاً وجزئياً حتى الآن. يتعلق هذا الدرس بوجود فرص جديدة تحمل وعداً باختراق على ساحة الصراع العربي - الاسرائيلي. فللمرة الأولى في تاريخ النزاع يحصل إجماع نسبي في العالم العربي على متطلبات وشروط السلام مع الدولة اليهودية. يقوم هذا الاجماع على اقامة علاقات كاملة وشاملة مع اسرائيل مقابل انسحاب اسرائيلي كامل وشامل من كل الأراضي العربية المحتلة. فالدول العربية، بما فيها دول المواجهة الرئيسية، تقبل اليوم فكرة تسوية سلمية تعترف بوجود اسرائيل واندماجها في محيطها الاقليمي بعد انسحابها الشامل من الأراضي العربية المحتلة وانشاء دولة فلسطين وعاصمتها القدس. فمعظم الدول العربية الرئيسية أيد مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز من دون صدور أصوات معارضة تذكر. اضافة الى ذلك عبرت المرجعيات المؤثرة في الرأي العام العربي عن موافقتها على هذه الرؤية بخطوطها العريضة مما يشكل اختراقاً وتغييراً واضحاً في الخطاب الايديولوجي السائد سابقاً. على رغم ان نجاح مبادرة الأمير عبدالله ليس مضموناً، إلا أن هذه النقلة النوعية في الموقف العربي تضع القيادة الاسرائيلية اليمينية في موقع دفاعي، وتعطي الادارة الاميركية رصيداً لاستخدامه في دفع عجلة السلام الى أمام، من خلال الضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون للرد على الاجماع الدولي في ما يتعلق بمتطلبات وشروط تحقيق اختراق بين العرب والاسرائيليين. تكمن أهمية الرؤية العربية ايضاً في انها تزود القيادة الفلسطينية بصمام أمان ومظلة حماية تمكنها من توقيع اتفاق سلام مع اسرائيل في المستقبل. وتؤكد المبادرة العربية، ايضاً، للشعب الاسرائيلي وللرأي العام العالمي النيات السلمية للعرب، وتملي على الاسرائيليين تقديم التنازلات اللازمة والضرورية للتوصل الى تسوية تاريخية مع العرب. وحتى اذا لم تتجاوب القيادة الاسرائيلية الحالية وتستفيد من الرؤية العربية الجديدة والزخم الذي ولدته المبادرة السعودية، فإن هذه الرؤية العربية يجب تطويرها لتصبح خطة سلام عربية تغير ديناميات السياسة الداخلية في المجتمعين الاسرائيلي والفلسطيني. لا شك في ان ادارة بوش تحاول الاستفادة من هذا الزخم الجديد ومضاعفة جهودها الديبلوماسية لتحقيق اختراق في الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني يمكنها من السير قدماً في اتجاه ما تسميه استمرار الحرب على الارهاب. صحيح ان الادارة الاميركية اتخذت خطوات مهمة في الأيام الأخيرة وأظهرت قدرة ومرونة ديبلوماسية، إلا ان الخوف يكمن في ان تكون هذه التحركات مجرد مناورات تكتيكية هدفها الرئيسي تحويل الانظار عن حمام الدم في الأراضي الفلسطينية وابقاء الضغط قائماً على الساحة العراقية. ومن المعروف ان الملف العراقي يحظى بالأولوية لدى الادارة الاميركية التي تحاول جاهدة تحضير الرأي العام العالمي، خصوصاً العربي والاسلامي، لتغيير نظام صدام حسين. وستظهر الأيام والأسابيع المقبلة ما اذا كانت جولة تشيني اسفرت عن استيعاب أهمية معالجة الموضوع الاسرائيلي - الفلسطيني جذرياً وليس جزئياً أو تكتيكياً. لعل بعض المشككين في ادارة بوش يعتقد بأن ايجاد حل للصراع العربي - الاسرائيلي متعذر في الوقت الراهن، ويتجنب توظيف واستثمار جهود سياسية كبيرة خشية رفع التوقعات وحدوث خيبة أمل كبيرة تؤدي الى تأجيج النزاع. ويستدل هؤلاء، لتعزيز موقفهم ونظرتهم، بما حصل للادارة الديموقراطية السابقة التي زرعت اليأس في نفوس الفلسطينيين فحصدت أعمال العنف الحالية، على حد زعمهم. بيد ان هؤلاء لا يدركون ان الظروف المحلية والاقليمية والدولية تغيرت الآن بشكل دراماتيكي بفضل الموقف العربي الجديد الذي أخذ المبادرة وأدى الى تضييق الهوة بين واشنطن والعواصم العربية. ولا شك في ان تطوير الموقف العربي بشكل خلاق وشجاع سيضعف موقف المشككين في ادارة بوش ويعطي زخماً للفريق المتفائل والمستعد للاستثمار المكلف في محاولة لتحقيق تسوية تاريخية بين العرب والاسرائيليين. * استاذ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الاميركية في جامعة "سارة لورنس" في نيويورك.