صراع المغرب والجزائر لا يهدأ حتى يشتعل من جديد. لقد برز هذه الأيام على السطح اشتباك جديد بين وسائل الإعلام الجزائرية من جهة والسلطات المغربية من جهة أخرى. هذه الحملة الجديدة جاءت في وقت غير مناسب، حيث تعمل تونس على تنشيط آليات عمل المغرب العربي. يخفي الصراع الجزائري - المغربي رهانات إستراتيجية للبلدين. فالجزائر تبحث عن منفذ بحري نحو المحيط الأطلسي وساعدت في سبيل هذه الغاية إنشاء جبهة البوليساريو. أما المغرب فقد يكون حاول استخدام ورقة الأصوليين ضد الجزائر كما تؤكد هذه الأخيرة. وزاد الطين بلة تدخل القوى الكبرى والإقليمية في هذا النزاع. ففرنسا اختارت صف المغرب في حين أن إسبانيا اختارت صف الجزائر ولعبت الولاياتالمتحدة الأميركية بين الدولتين للحصول على أقصى ما يمكن من الامتيازات والتنازلات منهما. أما تونس وليبيا فالتزما نوعاً من الحياد بعد أن كانت لهما مواقف أخرى في السبعينات، حين كانت تونس أقرب إلى المغرب وليبيا كانت أقرب إلى الجزائر. وآخر صراع عاشه البلدان كان إثر وفاة الملك الراحل الحسن الثاني. فبعد أن اعتقد المراقبون ان الدولتين تعيشان تقارباً كبيراً وصل أوجه بعد زيارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى المغرب مشاركاً في جنازة الملك الراحل وتبادل برقيات الشكر والدعم والتضامن مع الملك الجديد، سرعان ما توترت العلاقات من جديد. والسبب هو نفي الناطق باسم الحكومة المغربية أي تسلل لعناصر الجماعة المسلحة الإسلامية إلى بلاده أو أن يكون المغرب اعتقل أفرادها كما ورد في برقية لوكالة الأنباء الفرنسية روجها بشكل واسع الإعلام الجزائري. الناطق الرسمي المغربي قال في بيان صريح: "أكذب تكذيباً قاطعاً كل المعلومات عن تسلل عناصر مسلحة جزائرية عبر الحدود الجزائرية - المغربية وكل ما قيل عن توقيف تلك العناصر". وأضاف "الحدود الجزائرية - المغربية أكيدة ومؤمنة ولا يمكن أن يتم عبرها أي تسلل". ردت الصحف الجزائرية بعنف على البيان ورفضت وجهة النظر المغربية مؤكدة وجود عناصر "الجيا" في المغرب. والموقف المغربي من أحداث الجزائر اليوم لا بد أن يرتكز على صراع قديم مع الجزائر يعود إلى 1963 حينما اندلعت بين البلدين حرب "صغيرة" عرفت ب"حرب الرمال". وزادت العداوة منذ تبنى الجزائر بقيادة الرئيس هواري بومدين جبهة البوليساريو ودعمها عسكرياً وديبلوماسياً. واستمرت هذه العداوة الإستراتيجية على رغم فترات انفراج قصيرة. لا بد من التسليم أن المغرب يعد أكبر إشكال يواجه الجزائر تاريخياً في مجال علاقاتها الخارجية الديبلوماسية والعسكرية. فالعلاقة بين البلدين متوترة من أيام الثورة إلى اليوم. ويعتقد المغرب أن أية عملية عسكرية تقوم بها جبهة البوليساريو ضده هي في نهاية الأمر عملية نظمتها أجهزة الأمن العسكري الجزائري... ولم ينس أبداً أن الجمهورية الصحراوية الديموقراطية من صنيع الرئيس الراحل هواري بومدين... وربما اعتقد ويعتقد أن الفرصة أصبحت سانحة له للانتقام من "عدوه" التاريخي الجزائر. أما الجزائر فاتهمت المغرب بمساعدة وإيواء الإسلاميين المسلحين. وجاء ذلك لأول مرة وعلناً على لسان اللواء خالد نزار وزير الدفاع السابق الذي اتهم صراحة المملكة المغربية بوقوفها إلى جانب الجماعات الإسلامية الجزائرية المسلحة ودعمها الخفي لها. فمقاله "الشهير" الذي سبق أن نشره في جريدة "الوطن" الجزائرية لا يعبر عن موقفه الشخصي فقط وإنما أيضاً عن موقف كتلة نافذة داخل الجيش. والإشاعات أنذاك ذهبت بعيداً حينما قالت أن الجزائر تريد حرباً مع المغرب لتصدر قلاقلها الأمنية إلى جيرانها، وبالتالي تضع كل المنطقة في المستوى نفسه من اللااستقرار. ويتردد أن من بين الأسباب التي دفعت بالملك الراحل الحسن الثاني إلى تكليف عبدالرحمن اليوسفي تشكيل حكومة اشتراكية لأول مرة في تاريخ المملكة هو وجود علاقة جيدة بين اليوسفي والقيادات الجزائرية المنحدرة من حزب جبهة التحرير الوطني، ما يساعده على نزع فتيل أي تدهور كبير في العلاقات بين البلدين. عبد الرحمن اليوسفي نفسه وفي لقاء مع الصحافة اثناء زيارته إلى تونس قال أن بعض الجنرالات الجزائريين هم الذين يوترون الوضع بين البلدين عبر حواراتهم وتصريحاتهم الصحافية. والحقيقة ان الأوساط الأمنية الجزائري تمنت أكثر من مرة أن ينتقل الصراع المسلح مع الجماعات المسلحة إلى الأراضي المغربية. بل تحدثت الصحافة الجزائرية، المرتبطة بأجهزة الأمن في بلدها، في أكثر من مناسبة عن "جماعات إسلامية مسلحة مغربية" وعن عمليات تقوم بها في المغرب. لم تعلن الجزائر رسمياً وبوضوح أن المغرب يقف وراء العمليات المسلحة التي تقوم بها الجماعات الإسلامية. لكنها أشارت اكثر من مرة، من خلال اتهامات صريحة لكنها غير رسمية، الى دور المغرب في ما يحدث على ترابها من عنف أصولي. أحد أهم هذه الاتهامات، من حيث صراحته وحدته، جاء في صحيفة "الوطن" الجزائرية باللغة الفرنسية 2/2/1998 حينما نشرت في صفحتها الأولى مقالاً في عنوان "حقائق جديدة يكشفها خالد نزار عن تسليم المغرب للعيادة"، وبخط أكبر نقرأ "مساومة ملك". يقول خالد نزار في مقاله هذا "...يجب على الجزائريين ان يعرفوا أنه في سنة 1992، تمكنت أجهزة الاستخبارات الجزائرية من تحديد دقيق لمقر إقامة قائد الجماعة الإسلامية المسلحة، في ذلك الوقت، المدعو عبد الحق العيادة في فندق في مدينة وجدة المغربية الواقعة على الحدود مع الجزائر. وتمكنت الأجهزة نفسها من تحديد أماكن خزنت فيها أسلحة من نوع الرشاش الإسرائيلي عوزي وكذلك ذخائر ومتفجرات وشبكة كبيرة من الناشطين الجزائريين والمغاربة والتونسيين. عندما علمت بهذه الوقائع قمت مع زملائي باختيار أسلوب الاتصال بنظرائنا المغاربة. إذ اعتقدنا أن القضية تتعلق بمشكلة أمنية خطيرة تمس بلدينا. وهكذا أرسلنا مسؤولاً أمنياً حمل معه ما حصلنا عليه من معلومات عناوين، صور وأشياء أخرى. في البداية استقبل المغاربة معلوماتنا باحتراز شديد. ولكن بعد كثير من الشرح والتثبت، تأكدوا منها... لكني فوجئت بوزير الداخلية المغربي يقول لي أن السلطة العليا في المغرب ترغب بشدة في لقائي. وبعد تفكير ونقاش مع رفاقي توصلنا إلى ضرورة تلبية الدعوة لتسلّم أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، على رغم ما يمكن أن تخفيه هذه الدعوة/ اللقاء من حسابات أخرى. إن ذهابي يجب أن يتم حتى وإن أراد المغاربة التفاوض على تسليم أمير الجماعة. قررت السفر إلى الرباط. تواصلت المحادثات لمدة ساعتين. ولم أفاجأ أبداً حينما حدثتني السلطة المعنية عن قضية الصحراء الغربية. وشرحوا لي أن الأمن "مسألة شاملة" و"أن القضيتين مرتبطتان". وبعد كثير من الشرح ورفضي ربط القضيتين، أجابني من دون أي إقناع، أنه عليّ التوجه إلى وزير الداخلية ودراسة مسألة تسليم العيادة. وبعد حواري مع وزير الداخلية، عدت في اليوم نفسه إلى الجزائر. وكان ضرورياً أن يزور المغرب مسؤولون أمنيون مرات عدة حتى تمكنا أخيراً وبعد ثلاثة أشهر من تسلم العيادة. بعد أن قام المغاربة باعتصاره إلى الحد الأقصى من أجل مصالحهم. وفي أثناء هذه الشهور الثلاثة لم تصلنا منهم أية معلومة، في حين كان الإرهابيون يتمتعون بحرية الحركة وتنظيم الصفوف. في الوقت نفسه كان رجال الثقافة والعلم والصحافة الجزائريين يسقطون اغتيالاً. كل هذا بسبب غياب معلومات كان من الممكن أن يعطيها لنا هذا الإرهابي". وفي شهر نيسان أبريل 1998 أوردت الصحف الجزائرية، خصوصاً "الوطن"، "ليبيرتيه"، "الخبر"، مقالات وأخباراً من نوع جديد مفادها أن جماعات إسلامية مسلحة مغربية تقوم بعمليات عسكرية في منطقة وجدة. إن مجموع هذه المقالات يمثل مؤشراً نستدل من خلاله على طبيعة العلاقات السياسية التي تربط بين البلدين. فالجزائر تعتقد أن المغرب يساعد الجماعات المسلحة في الجزائر من خلال تهريب الأسلحة، وفي إطار شبكة ضخمة تمتد من أوروبا وتمر عبر المملكة حتى تصل إلى الغرب الجزائري ومنه إلى الوسط عبر جبال الأطلسي. وتميز رد الفعل المغربي بنفيه الكلي لهذه الاتهامات غير المباشرة وغير الرسمية. واتهم بدوره الأمن العسكري الجزائري بتنفيذ عملية تفجير فندق مراكش ونسبها للإسلاميين. وأغلق منذ سنة 1995 حدوده المشتركة مع الجزائر وفرض تأشيرة الدخول لمواطنيها. أمام هذه الاتهامات المتبادلة، يبدو واضحاً أن المملكة المغربية افادت من الأزمة الجزائرية، حيث خدم العنف القائم فيها مصالحها كعامل ضغط على النظام الجزائري حتى يتخلى عن دعمه لجبهة البوليساريو. ولكن في الآن نفسه لا يعتقد أي مراقب أن المملكة ترغب في وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى السلطة في الجزائر، بل على العكس، سيهددها هذا الوصول مباشرة لأنه توجد على أرضها حركة إسلامية كامنة مستعدة للانفلات في أية فرصة سياسية مناسبة. ولا يبدو أن المملكة المغربية مهددة جدياً من انفلات الحركات الإسلامية على أراضيها وتحولها من حركات سياسية إلى حركات عسكرية مسلحة. إن عودة الصراع الإعلامي بهذه الحدة سيزيد في تعقيد الخريطة الجيوسياسية بين البلدين وسيزيد في عرقلة إمكانية نهضة المغرب العربي. * كاتب تونسي مقيم في جنيف