في فترة تزيد على ربع قرن، لم تعرف العلاقات بين المغرب والجزائر غير سنوات انفراج تعد على رؤوس الاصابع، ووصلت الخلافات بينهما الى مستوى المواجهة العسكرية بسبب حرب الحدود عام 1963، واتخذت منحى اخر تواجه فيه البلدان بطريقة غير مباشرة على اثر اندلاع نزاع الصحراء عام 1975. ولا يزالان في الموقع نفسه، مع فارق في مجالات المواجهات الديبلوماسية. واذا كان لتباين الخيارات الايديولوجية في مرحلة الحرب الباردة تأثيره السلبي على مسار العلاقات المغربية - الجزائرية، فإن نزوعهما الى احتواء الخلافات تعرض لهزات عدة على رغم التأكيدات المتبادلة بشأن التزام حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ويعزو محللون لتطور العلاقة بين المغرب والجزائر هذه الحال الى تأثير حواجز نفسية وسياسية غير بعيدة عن المكونات التاريخية وعن رواسب الضغوط التي تمارسها جهات عدة، لها مصلحة في الابقاء على فجوة التباعد بين البلدين الجارين، الى درجة ان مسؤولين في عواصم مغاربية اخرى اتهموا جهات اجنبية بالضلوع في الابقاء على مظاهر التوتر. لكن احداً لم يحدد تلك الجهات، وان كان يرجح ان الموضوع يخص المنافسات القائمة على مركز النفوذ في منطقة الشمال الافريقي بين الاوروبيين والاميركيين. عاصر العاهل المغربي الملك الحسن الثاني كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الجزائر مطلع بداية الستينات. وباستثناء الرئيسين محمد علي كافي وليامين زروال، فإنه تعرف عن قرب على القادة احمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد ومحمد بوضياف، والتقى الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة عندما كان يقود الديبلوماسية الجزائرية، ما يعني ان القناعات التي تكونت لديه في ما يتعلق بالاساليب والمنهجيات التي كانت تدار بها السياسة الجزائرية خضعت في كل فترة الى مواصفات وطموحات القيادة الجزائرية. ويقول العاهل المغربي انه ادرك منذ اللقاء الذي جمعه في القاهرة مع الرئيس بن بلة في الستينات، وكان الراحل هواري بومدين وزيراً للدفاع، ان العلاقة بين بلاده والجزائر سيحكمها مزاج القيادة الجزائرية ازاء التعاطي والجار الاقرب، اي المغرب. ورأى آنذاك ان تجربة حكم بن بلة لن تطول، لكنه يسجل ان غياب بومدين في فترة كان يجري فيها الاعداد لعقد قمة مغربية جزائرية في نهاية السبعينات في بروكسيل اضاع على البلدين فرصة مواتية لانهاء نزاع الصحراء الغربية، بعد ان كانت المواجهة بسبب قضية الصحراء دخلت مرحلة اللاعودة. ولعله بسبب هذا الحرص التقط اول اشارة صدرت عن الرئيس السابق بن جديد لعقد اول قمة في منطقة الحدود المشتركة على اثر وساطة حميدة قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في مطلع الثمانينات، توجت بمعاودة تطبيع العلاقات الديبلوماسية، بعد قطيعة طويلة. من هذا المنطلق بدا ان التفاهم بين القيادتين المغربية والجزائرية هو الفضاء الارحب لتحقيق التقارب والانفراج، لذلك استغرق الحديث عن القمم المغربية - الجزائرية جانباً كبيراً من التحليلات التي أحاطت بهذا المحور. ويعزو ديبلوماسيون مغاربيون الانشداد الى اللقاءات المباشرة بين العاهل المغربي وأي رئيس جزائري، كونها تسمح باتخاذ قرارات والتزام اجراءات تكفل تحسين علاقات البلدين. بيد انه في كل مرة تتعرض فيها السلطة في الجزائر الى نوع من الاهتزاز والتذبذب يصعب احراز تقدم في هذا المجال، الى درجة ان المكونات الشخصية للقيادة الجزائرية اثرت في هذا المسار سلباً وايجاباً، وان كان الامر يتعلق في جوهره بنفض الغبار عن الاتفاقات المبرمة التي تحدد راهن ومستقبل العلاقات بين البلدين. وللدلالة على ذلك كان يكفي عقد قمة بين الملك والرئيس السابق بن جديد لمعاودة التزام العمل باتفاق ترسيم الحدود المبرم عام 1969، على عهد الرئيس الراحل بومدين بعد مضي عشرين عاماً على ابرامه. وشكل ذلك التطور اهم انجاز على صعيد احتواء خلافات البلدين، بالنظر لما كان يطرحه ملف ترسيم الحدود من تعقيدات، كونه من مخلفات مرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر. ويقول المغاربة في هذا السياق انهم كانوا يفضلون محاورة الجزائريين بعد استقلال بلادهم في هذه القضية، وانهم رفضوا عروضا من السلطات الفرنسية لدرسها قبل استقلال الجزائر. لكن ذهاب الرئيس بن جديد اثر بصورة ملحوظة في مسار العلاقات المغربية - الجزائرية، ولم تلتئم بعده اي قمة رفيعة بين البلدين، علماً ان مساعي بذلت على عهد الرئيس زروال، لجهة عقد قمة مغربية، جزائرية، لولا تعرض علاقات الرباطوالجزائر الى هزات عنيفة بلغت ذروتها عبر اغلاق الحدود البرية في صيف 1994، إثر تورط شبكة يتحدر المنتسبون اليها من اصول جزائرية وفرنسية ومغربية في هجمات على منشئات مدنية، ولاحقاً عبر طلب المغرب تجميد العمل بمؤسسات الاتحاد المغاربي احتجاجاً على موقف الجزائر ازاء قضية الصحراء الغربية. اللافت انه على رغم ان الرئيس بوتفليقة كان من اشد المناوئين للمغرب في ملف الصحراء، قوبل انتخابه بترحيب واسع، شمل المراجع الرسمية والفاعليات السياسية. ويبرر مسؤولون في الرباط هذا التوجه بالقول ان "إلمامه بخلفيات نزاع الصحراء وتداعياته يساعد في امكان بناء علاقات الثقة بين البلدين". ويضعون في افق هذا التطور سيناريوهات الحل، ان على صعيد دعم خطة الاممالمتحدة لاجراء الاستفتاء، بما يجنب الجزائر الابقاء على تعاطيها وقضية الصحراء كما في السابق، او على صعيد العودة بالملف الى نقطة الصفر، لكنهم يحبذون المنحى الاول لجهة اقرار حل دولي تلتزمه كل الاطراف، وفي مقدمها المغرب والجزائر على حد سواء. ويضيفون ان تحييد ملف الصحراء عن محور العلاقات الثنائية يساعد في تسريع وتيرة الانفراج، ويستدلون على ذلك بأن تأسيس الاتحاد المغاربي، على اثر تفاهم مغربي - جزائري، تم في وقت كانت فيه قضية الصحراء قائمة، وبالتالي فإن المضي قدماً في تنفيذ الالتزامات المغاربية يعني فصل ملف الصحراء عن المسار المغاربي، سيما وانه بات من اختصاص الاممالمتحدة. ويقولون: "لا نطلب من الجزائر غير دعم خطة التسوية التي ترعاها الاممالمتحدة، لا اقل ولا اكثر". الى ذلك ينظر الى استضافة الجزائر القمة المرتقبة لمنظمة الوحدة الافريقية في تموز يوليو المقبل، انه سيقدم الدليل ازاء حدوث تطور في الموقف الجزائري، اقله تحقيق انسجام بين دعم خطة الاستفتاء والموقف الافريقي الذي نشأ في ظروف مغايرة، خصوصاً وان عواصم افريقية عدة دعت الى معاودة النظر في الاعتراف ب"الجمهورية الصحراوية"، كونه سابقاً لنتيجة الاستفتاء. ويبدو ان الجزائريين والمغاربة، نقلوا مواجهتهم على القضية الى الساحة الافريقية، في ضوء الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء المغربي عبدالرحمن اليوسفي الى عواصم افريقية قبل انعقاد قمة الجزائر. ويسود اعتقاد ان البحث عن مخرج سياسي قبل التئام القمة يحد من اي توتر محتمل، ما دام ان الاجتهاد القانوني لتعليق عضوية "الجمهورية الصحراوية" لا توجد له سوابق في تجربة المنظمة القارية. ويذهب متفائلون الى حد ان جبهة بوليساريو يمكن ان تقدم على مبادرة من هذا النوع لتجنيب الجزائر حرجاً جديداً، لكنه احتمال ضعيف، بالنظر الى المكاسب السياسية التي حققتها الجبهة. ويبدو من الصعب اقناعها بالتراجع عنها. ويبدو ان القيادة الجزائرية في حاجة الى مزيد من الوقت لترتيب الوضع الداخلي، في وقت تراهن فيه على معاودة احياء دورها افريقيا. وبالتالي يصعب ان يتم في العاصمة الجزائرية "التنكر" لجهود بذلت في وقت سابق لفرض امر الاعتراف ب"الجمهورية الصحراوية" في منظمة الوحدة الافريقية. لكن الاشارات الصادرة من الجزائر نحو التطلع الى المستقبل تفسح في المجال امام امكان ترتيب حل للقضية، يستند الى تزايد مطالب دول افريقية عدة بالتزام الحياد في مسار النزاع، كون منظمة الوحدة الافريقية تساهم الى جانب الاممالمتحدة في رعاية الاستفتاء، من موقع اقل تأثيراً، بسبب حساسيات المغاربة ازاء موقفها المسبق من نتيجة الاستفتاء. في ملف اغلاق الحدود ترتدي الاشكالية طابعاً آخر، ويكتفي المسؤولون المغاربة بالقول ان حلاً ديبلوماسياً للقضية، لا يتطلب اكثر من اتخاذ قرار العودة عن الاجراء، ويشرحون ذلك بأن الجزائر هي التي بادرت باغلاق الحدود، في وقت ركزت فيه الاجراءات التي التزمتها الحكومة المغربية اثر حادث اطلس - اسني على فرض التأشيرة على الرعايا المتحدرين من اصول جزائرية، لكنهم يتوقعون حلاً تدريجياً للمسألة يستجيب لتطلعات البلدين، وفي الدرجة الاولى لمصالح رعايا الشريط الحدودي التي تضررت. ويفهم من الاشارات الصادرة من الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة على صعيد الانفتاح على بلدان الاتحاد الاوروبي انه يميل الى اغلاق هذا الملف، من منطلق ان الحديث عن الاندماج في المحيط الاقتصادي اوروبياً ودولياً يعني دعم حرية تنقل الاشخاص والممتلكات، ولا يعقل امام هذا الاصرار ان تظل المنطقة المغاربية، خصوصاً المغرب والجزائر، أسرى الخلافات السابقة التي آلت الى اغلاق الحدود. بيد ان مراقبين يرهنون هذا التطور باستتباب الامن والاستقرار في الجزائر، بهدف الحؤول دون استخدام فتح الحدود لتسلل الجماعات المسلحة، والتزام خطة لمحاربة التهريب والهجرة غير المشروعة التي تتجه نحو مدينة "مليلية" التي تحتلها اسبانيا شرق شمالي البلاد. وتوافرت معطيات تفيد ان فتح الحدود يشكل مبادرة مشترك للدلالة على ارادة تحسين علاقات البلدين، كون الرباط بادرت بطلب ذلك مرات عدة، ما يفسح في المجال امام اتخاذ اجراءات جزائرية للرد على الطلب المغربي، وبالتالي تجاوز حساسيات سابقة كانت ترهن ذلك بتقديم اعتذار مغربي. ولا يبدو برأي المراقبين ان الاتجاه الجديد الذي تنحوه العلاقات بين الرباطوالجزائر سيتوقف عند هذه الشكليات، ما دام الاقتناع بمعاودة فتح الحدود اصبح مشتركاً. في الازمة الاخيرة التي كادت تعصف بآمال الانفراج بين المغرب والجزائر، بسبب تأويل برقية بعث بها الرئيس الجزائري بوتفليقة الى زعيم جبهة بوليساريو محمد عبدالعزيز، بدا واضحاً ان ثمة الغاماً توضع في مساحة العلاقات تهدد بالانفجار. لكن الطريقة التي أدار بها المغاربة والجزائريون على حد سواء حالات الغموض في علاقاتهما، مكنت من تجاوز الازمة، وابانت حسب ديبلوماسيين ان ضبط النفس وعدم اتخاذ مواقف متسرعة والتزام الحذر يساعد في الابقاء على جسور الحوار بين البلدين. ولعل في تركيز الرئيس بوتفليقة على التزامات بلاده المغاربية في خطاب السبت الماضي، الذي اعتبر بمثابة برنامج عمل سياسي واقتصادي يحدد الأولويات الداخلية والخارجية، ما يفيد ان الخلافات بين المغرب والجزائر اقرب الى الذوبان في المحيط الاقليمي، سيما وان حديثه عن ترتيب الاوضاع الداخلية اقترن بعرض المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، وهي تكاد تلتقي في جانب كبير منها مع مشاكل المغرب، مع فارق في استثمار الزمن. واذا اهتدى البلدان لمواجهة هذه المشاكل، على حساب صراعاتهما القديمة، فإن ذلك يشكل المدخل الطبيعي لاقامة علاقات يطبعها فعلاً حسن الجوار وارادة الانفتاح "لتدارك التأخير الحاصل" مغاربياً وثنائياً.