بيروت - "الحياة" - قد ينسى العالم اسم وفاء ادريس وصورتها، لكنه سيتذكر حتماً شجاعتها التي بلغت موقعاً متقدماً في النضال الوطني ارتقى الى الشهادة وبذل الذات، في حرب مقدسة دفاعاً عن التراب والوجود والهوية والتاريخ وحق الاجيال القادمة في الحياة الكريمة. وسيبقى جيل من الشباب العربي والفلسطيني يتذكر تلك الصبيحة في السابع والعشرين من كانون الثاني يناير الماضي، في شارع يافا في القدس الغربية، لحظة تناثر جسدها معجوناً بالركام والأمل. الكلام على وفاء ادريس يفتتح من جديد سجلاً ناصعاً لمشاركة المرأة العربية في النضال الى جانب الرجل ضد انواع الاستعمار والظلم، توقاً الى خبز الحرية والحق في الاستقلال وكرامة الحياة... من جميلة بو حيرد بطلة ثورة المليون شهيد في جزائر الستينات، الى ليلى خالد وجه المرأة في النضال الثوري الفلسطيني مطلع السبعينات، الى سناء محيدلي وسهى بشارة من المقاومة اللبنانية على الحدود الجنوبية... هذه الحالات النموذجية الرائدة في النضالات العربية - حتى حدود الشهادة احياناً - طرحت ولا تزال الى جانب الاعجاب والإكبار، اسئلة حول سر هذه المقدرة الخارقة في اتخاذ قرار إلغاء الذات في سبيل القيم الكبرى وحقوق الشعوب المقدسة... سؤال طرحته الحياة على بعض النساء في المجتمع اللبناني: هل كنت تقدمين على عملية استشهادية لو كنت فلسطينية تعيش على ارض فلسطين. جورجينا عبدالكريم - طالبة جامعية: "لطالما حظيَ منفذو العمليات الانتحارية باحترام الجماهير العربية وبتأييد واسع من قبل الطبقات الاجتماعية كافة. وشهدنا في الآونة الاخيرة تصاعداً ملحوظاً لهذه العمليات "البطولية" التي باتت تُنفَّذ في شكل شبه يومي وعشوائي من دون التمييز بين العسكريين والمدنيين. ومع إقدام اول امرأة فلسطينية على تنفيذ عملية انتحارية، تتخذ المسألة بعداً اضافياً وتجبرنا على التأمل اكثر في هذه الظاهرة. احاطت الديانات والمجتمعات المختلفة شهداءها بهالة من القداسة حيث يستحيل على اي فرد المساس او التشكيك بصوابية عملهم. غير انه يوجد فارق كبير بين الاستشهاد عن حب ودفاعاً عن الآخرين والاستشهاد بدافع الكراهية التي تعمي البصيرة وتفجر الاحقاد وتؤججها في مختلف الشرائح الاجتماعية. الاستشهاد بدافع الحب والولاء للوطن؟ الاوطان بحاجة الى كتّابها ومفكريها ولن تُبنى الا بقوة الكلمة وبالحوار بين مختلف فئات الشعب. كما ان الأسس السليمة التي على اساسها يُبنى الوطن تتمثل باحترام حرية الفرد وبإعطائه فرصة الاختيار من خلال تأمين بيئة سليمة تتلاءم مع تطلعاته. غير ان قرار الاستشهاد في الصراع العربي - الاسرائيلي نابع عن يأس وفقر يتغلغل في بيئة محدودة حيث يستشري الجهل والأفكار المتطرفة. وهذا الواقع المرير لا يبرر الخيار الانتحاري بقدر ما يفسره". زينة صوفان: مخرجة تلفزيونية.: لا نملك الا الانحناء احتراماً وتقديراً امام الشهداء الذين يتساقطون لتحرير الارض والانسان. فالجرأة والشجاعة المتناهيتان تجعلاني مبهورة امام ابطال المقاومة الذين نذروا انفسهم للموت في سبيل الوطن. ولكن ليس صحيحاً ان كل عربي يستطيع ان يحذو حذوهم. فالصحيح الصحيح اننا ضالعون في الجرم المشهود نلملم اشلاء انكساراتنا لنصنع من بقايا البقايا معجزة البقاء. والصحيح الصحيح ان للاعلام دوراً اساسياً لتغيير وجه العالم ولكنه مبلبل مشتت ومعطل. ذلك انه اعلام حائر بين ما يعرف وما يجب ان يُعرف، وبين ما يُطرح وما يجب ان يطرح، وبين ما يجوز ان يقال وقاعدة ليس كل ما يعرف يقال. فماذا عساه يفعل، وكيف يخاطب المواطن وبأي كلام؟ وهل يتسع صدر المسؤول ان لم تسكت شهرزاد عن الكلام غير المباح، وهل يدركها الصباح؟ نعم، الاعلام هو السلاح الاقوى. فأين الاعلام العربي لرص الصفوف ضد العدو الاسرائىلي؟ اين هو الاعلام العربي ليحدد لنا هويتنا ولغتنا ويعكس فكرنا وحضارتنا ويحمي اجساد شبابنا ومستقبل اطفالنا. المطلوب اعلام يقول كل الحقيقة للمسؤول كما للمواطن، يسلط الضوء على الحقيقة، ويحدد دور المواطن فيها من اجل انسان يستحق الحياة. وفي النهاية اعود فأؤكد بأنني لو كنت اعيش على ارض فلسطين في هذا الوقت العصيب لما توسلت العمل الاستشهادي طريقاً للنضال لأنني اؤمن بأسلوب نضالي مختلف الا وهو الاعلام الذكي لمخاطبة ضمير العالم واقناعه بعدالة قضيتي. ايفانا مرشليان: صحافية ان يفجر الانسان نفسه، ان يذهب الى موته الاختياري بقدميه، ان يصور لحظات وداعه الاخير لهذا العالم، فتلك "معجزة" الشجاعة التي ترتقي في لحظات وجودية نادرة بقلة من الناس العاديين الى مرتبة البطولة، لا بل الى قمة القداسة. قد يتعارض اعتقادي الخاص هذا مع ما يؤمن به آخرون من حولي، يأسفون لما يصيب العشرات من الشبان العرب، من الانتحاريين. ينهون حياتهم لغايات نبيله وانما غير مضمونة النتائج. ففي رأي هؤلاء: من يضمن تحرير الارض بالاستشهاد؟ طبيعي ان تمثل مثل هذه الشكوك في اذهان مشاهدين حياديين ينظرون الى عمليات الاستشهاد من خلال شاشة التلفزيون ونشرات الاخبار. على ان النظرة تختلف بالنسبة الى الفلسطينيين الذين يعانون القهر اليومي فضلاً عن استمرار حالات تشردهم في شتات العالم الواسع منذ اربعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. شخصياً، ما عدت انظر الى عمليات الاستشهاد اليومية في الاراضي المحتلة على انها مشاهد عبثية وغير قابلة للاستيعاب او للتصديق. اذ باتت تشكل بالنسبة اليّ ردود فعل طبيعية ضد هذا الكمّ الهائل من الظلم اللاحق بالفلسطينيين كاللعنة، من جيل الى جيل، ومن منفى الى آخر! وتسألني: هل كنت فجرت ذاتك في العدو لو كنت فلسطينية؟ جوابي الفوري نعم. لكني سأستدرك الآن لأعطيك جواباً ثانياً اكثر صدقاً وواقعية: لا اعرف! فأنا بكل بساطة لست وفاء ادريس ولا سناء محيدلي. تأثرت كثيراً عندما قرأت عن وفاء إدريس الشابة الفلسطينية التي استشهدت اخيراً وعن تفاصيل سيرة حياتها من خلال شهادات لأمها وزوجة اخيها وصديقتها. وأظن ان بؤس حياتها في المخيم واحتكاكها اليومي والمباشر بالمصابين والشهداء من خلال عمليات في "الهلال الأحمر" شكلا الحافز الأكبر لاتخاذها مثل هذا القرار الصعب، كما ويجب الا ننسى - ولا أحب ان يؤخذ كلامي من باب التشكيك في صدق ونبل الدافع الاساس لبذل الذات من اجل القضية - ان ثمة ما هو اكيد في ان الدافع الاول والاساس للاستشهاد انتحارياً، هو اليأس، بل لنقل اليأس العام والشامل. وعليه، ومهما كانت الاسباب والدوافع، اظن ان "تراجيديات" العالم بأكملها، تنحني امام مشهد "الوردة المتناثرة فوق حطام روحها ..." فهل هي طريقة الفلسطينيين وحدهم في تثبيت انتمائهم الى ارضهم المسلوبة؟ هل هي الطريقة الوحيدة المتبقية للتغلب على وحش بشري متربص يدعى شارون؟ أكرر: مهما تعددت الاجتهادات والمزايدات، لن نحسد وفاء على استشهادها، بل سنقول "رحمها الله"، وكنا نتمنى لها ولكل فتيات وفتيان فلسطين كل الحياة، غير اننا نأسف في ان تصبح لغة الموت والقتل والتقتيل، اللغة الشرعية والشهادة الحية الوحيدة لاثبات حق الفلسطينيين في الوجود. فلهذا الشعب بالذات - الذي "تعاركنا" معه في السابق كلبنانيين غير اننا الآن نتعاطف مع قضيته المقدسة في فلسطين ونستعير له من اشعار محمود درويش "ورداً اكثر لموت اقل"، على رغم ما تمثله الشهادة في الحياة من معاني الوفاء والتضحية. منى شراباتي - محللة نفسية ان منطق الالغاء لا يقنعني، لأنه في فهمي لا يزال في مرحلة بدائية. منطق الحرب يجعلنا نتأكد اكثر فأكثر ان الانسانية لا تزال في حال تخلف فظيع، عقلياً وغرائزياً، بمعنى ان هذه الانسانية لم تصل بعد الى مرحلة النضج، التي تسمح بأن يأخذ كل فرد فسحته او مجاله... انا اعتقد ان التعايش اكثر صعوبة من الحرب، لأنه يتطلب نضجاً وكبر نفس وتعالياً وتطوراً عقلانياً. موقعي كمحللة نفسية، يدفعني الى البحث عن الاسباب التي تدفع الى هذه العمليات الاستشهادية. مبدئياً لا استطيع ان اضع نفسي عقلانياً في موقع الاستشهاديين. انفعالياً يفترض ان اكون قد عايشت هذه الانفعالات. ربما لو كنت في فلسطين اعاني ما يعانيه الفلسطينيون - اقول ربما - لكنت نفذت عملية استشهادية، لكنه موقف افتراضي بحت! هناك نوعان من الدوافع عن الانسان للاستمرار في العيش: دوافع الحياة ودوافع الموت او العدوانية. العدوانية وحب الحياة: اي الغريزة الجنسية والعدوانية وهما موجودتان فينا منذ لحظة الولادة حتى الموت، خلال حياتنا هذان الدافعان يحركان سلوكنا بنسب مختلفة. والعدوانية الموجودة فينا نوعان: عدوانية ايجابية ضرورية وعدوانية سلبية وأحياناً تكون ضرورية. الأولى تسند غريزة الحياة، للدفاع عن الكينونة وتحقيق الذات وحماية المساحة الحيوية للفرد. تقع المشكلة حين يتحارب شخصان حول مساحة حيوية واحدة، فيصبح الغاء احد الطرفين امراً حتمياً. وأحياناً لأن احد الطرفين يعجز عن إلغاء الآخر يلجأ الى إلغاء الآخر عبر إلغاد ذاته. وهذا "الانتحار الاستشهادي" يصبح امراً لا بد منه، لأن هذا المدى الحيوي لا يتسع الا لطرف واحد. العمليات الاستشهادية التي تحصل هي نوع من اعطاء معنى انساني وسياسي لمسألة إلغاء الذات! وهنا لا بد من التنويه بفئة من الناس تحمل التزاماً سياسياً، عقائدياً، اجتماعياً، هذه الفئة تختار الغاء الذات في سبيل المجموعة، في سبيل قضية! انه منتهى العطاء في بذل الذات لكنه خيار نسبي يقدم عليه فرد في وقت وظرف معين من تاريخه وحياته ومجتمعه. انا شخصياً اختار وسيلة اخرى، لتحقيق اهدافي الانسانية المشروعة، انا اؤمن بحوار الحلقات، وتعاونها لتحقيق هذه الاهداف. وهذا النوع من التعاون الجماعي اعتبره اكثر جدوى! تسألني اذا جاءت يوماً ابنتي تسأل رأيي حول عملية استشهادية، اقول ان ابنتي لن تسأل عن رأيي، لأنه خيارها، لأنها حياتها ولن استطيع التدخل في قرار كهذا.