عقدت في الآونة الأخيرة مؤتمرات كثيرة تحت عنوان "حوار الحضارات" استهدفت تدعيم الحوار بين الإسلام والغرب، كان آخرها مؤتمر اسطنبول للحوار بين منظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن من الخطأ الكبير الاعتقاد بأن هذه المؤتمرات ستؤدي إلى تحقيق السلام العالمي المنشود بالسرعة المرجوة. ويأتي هذا المقال كمحاولة في هذا الاتجاه ربما تتسم بكونها أكثر صراحة. مثَّل الإسلام منذ ظهوره الطرف المضاد لأوروبا في صراعها التقليدي مع الشرق ونجح في الاستيلاء على ممالكها في آسيا وافريقيا بل وانتزاع جانبها الشرقي بعد ذلك. وباءت محاولاتها المتعددة في استرداد هذه الممالك مرة أخرى في ما سُمي بالحروب الصليبية بالفشل الذريع. تسبب كل ذلك في شعور دائم بالمرارة والحقد والكراهية والانتقام ترسب في الوعي الغربي، ووجد صداه في تلك الصورة الشائهة عن الإسلام وعقائده وأهله لدى الغربيين عموماً. ومع ذلك فقد أمد الإسلام بعقلانيته الفريدة وعقيدته البسيطة الخالية من الكهنوت - والتي تدور حول مبدأ التوحيد - العقول الغربية المفكرة بروح العقلانية والحية والتمرد وساعد ذلك على انطلاق خطواتها الأولى في اتجاه التقدم العلمي والتحرر السياسي والنقد العقلي لعقائد الكنيسة في نهاية العصور الوسطى. وقد تمت مواجهة ذلك بأقصى درجات البطش، والتنكيل الأمر الذي فجر الثورات المتتالية على الكنيسة مع بداية عصر النهضة وما صاحب ذلك من مواصلة التقدم العلمي وظهور المنهج التجريبي في أوروبا. وتمثل ذلك في اتجاهات ثلاثة تعكس نشاطات القائمين عليها: اتجاه إنساني جسده الأدباء والفنانون، واتجاه ديني جسده زعماء حركة الإصلاح، واتجاه عقلي جسده العلماء والمفكرون بالإضافة إلى اتجاه رابع يتم تجاهله على الدوام وهو اتجاه الموحدين الغربيين الذين انضم بعضهم إلى الإسلام بالفعل. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل مركز الثقل الغربي إلى أميركا ومن ثم قيادة الفكر البراغماتي الأميركي للفكر الغربي عموماً وتحول الغرب التقليدي إلى الغرب الأميركي، وهو الأمر الذي تم تعميمه على العالم كله بسقوط الاتحاد السوفياتي حيث غدت "الأمركة" نظاماً عالمياً جديداً لا يجد مارقاً يتحداه سوى الإسلام. وهو الأمر الذي يعني أن النخب السلطوية في الغرب الأميركي تمارس ضغوطها من خلال "الغات" والبنك وصندوق النقد الدوليين في فرض سياسات لا تفعل شيئاً سوى زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء الأمر الذي يجعل شعوب العالم الثالث وفي مقدمها شعوب العالم الإسلامي تقتنع بأن الغرب مسؤول عن قهرهم السياسي ومعاناتهم الاقتصادية. ولأن الإسلام في ذاته يمثل أيديولوجية استنهاضية للفقراء والمستضعفين في الأرض، فإن تلك الممارسات الغربية تدفع الأمور في اتجاه الصدام. من ناحية أخرى بدأ يتكشف للعالم الإسلامي نتيجة لتبني الغرب الأميركي الدائم للكيان الصهيوني المغتصب للمقدسات الإسلامية في القدس وفلسطين أن دور الغرب الأميركي في هذا الصراع هو دور مباشر وأن العلاقة التي تربطه بهذا الكيان إنما هي علاقة عضوية ينوب فيها هذا الكيان عن الغرب الأميركي في تحقيق مصالحه في المنطقة وكسر أنف العالم الإسلامي الذي طالما تطاول على الغرب في العصور الماضية، وأن الصهيونية الإسرائيلية ما هي إلا توظيف براغماتي للأساطير اليهودية القديمة بهدف الإحلال المادي الغربي في المنطقة وإكسابه الشرعية الدائمة، وأن الدور الرهيب المزعوم للوبي اليهودي في الغرب الأميركي يقتصر في النهاية على تذكيره بما يؤديه الكيان الصهيوني من إنابة له في تحقيق أهدافه ومن الطبيعي أن يكون كل ذلك دافعاً للعالم الإسلامي إلى الصدام مع الغرب الأميركي. وفي ظل نمو سيطرة الغرب الأميركي على العالم فإن تجسد الإسلام في نظام اجتماعي شامل يمثل أقصى درجات الإعاقة لتحقيق مصالحه فضلاً عن أن ذلك قد يكون نواة لخطر أكبر وهو خطر نهوض العالم الإسلامي من جديد في وحدة متكاملة تعيد شبح المخاوف القديمة من الانتصارات الإسلامية على الغرب والتي قد تستعاد في وجود قوة إسلامية كبرى يكون لها التنافس مع الغرب الأميركي على قيادة العالم في أدنى تقدير. ومن ثم فإن إعاقة قيام الحكم الإسلامي من جانب الغرب الأميركي تمثل محور النزاع الرئيس بينه وبين الإسلاميين المتيقظين لوحدة الارتباط العضوي بين الإيمان والحكم في الإسلام، وبالتالي لا يقبلون التنازل عن إيمانهم بأي شكل من الأشكال إرضاء لهذا الغرب الأميركي أو رضوخاً له. وفي ظل استخدام الغرب الأميركي المتصاعد لآليات القهر في إعاقة قيام هذا الحكم الإسلامي فإن ذلك يؤدي إلى استقطاب متطرف في التوجهات الحركية للإسلاميين ذاتهم بين طرفين أحدهما يرضخ للمساومة، بل واتخاذ الاساليب البراغماتية نفسها في التفكير والسلوك بينما يتجه الآخر إلى تصعيد الصدام باستخدام أدوات الغرب الأميركي نفسه، بل واستخدام اساليبه نفسها غير المشروعة المعادية للإنسانية جمعاء والتي تتجاوز قواعد المنظومة الإسلامية ذاتها في الصراع والمواجهة، فاتخاذ الغرب الأميركي القهر كوسيلة لإعاقة الحكم الإسلامي هو حتمية لاتخاذ الإسلاميين وسائل القهر في سبيل تنفيذه ما يعني أن هذا الطريق الغربي يمثل إنتاجاً حتمياً للإرهاب والإرهاب المضاد. وعلى مسار آخر إذا كانت البراغماتية هي عملية انتقال بارعة من المذهبية الفلسفية إلى التبرير الفلسفي لكل ما هو قائم على أنه هو ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية وعلى أنه الوحيد الذي يتلاءم مع افتراضها المسبق لمحدودية قدراتنا المعرفية فإنها في الوقت نفسه تمثل تعبيراً حقيقياً عن النسق الفكري الذي انتهت إليه الحضارة الغربية في أقصى نموها المادي. والذي يعنيه ذلك أن البراغماتية فلسفة تحايل وتكيف مع الواقع المُعاش. إلا أنه من مضمون العجز الفلسفي نفسه الكامن في الفكر العلماني في أقصى تطوره الذي انطلقت منه البراغماتية، انطلق اتجاه آخر يزاحم الفكر البراغماتي في العالم الغربي هو الاتجاه الذي تعبر عنه فلسفة ما بعد الحداثة. وهي فلسفة تعبر عن الاستسلام لما يترتب عن ذلك العجز الفلسفي من انقسام وتشتت وعبث ونسبية مطلقة وفقدان للقيمة والجدوى. ومن ثم فإننا نكون أمام موقفين إدراكيين لبلوغ النسق الفلسفي الغربي العلماني مرحلة العجز الكامل عن الإجابة عن الاسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده تماماً عبر مسيرة تطوره الحضاري: الأول موقف تحايلي يقدم الإلهاء الحسي المتواصل بديلاً عن البحث الفلسفي، وبذلك يتم تكريس الوعي الغربي في اللهاث وراء رغبات تتجدد على الدوام ولا يمكن تلبيتها أبداً وذلك هو الموقف البراغماتي. وموقف جاد صريح مع النفس يعترف بذلك العجز ويستسلم له بما يحمله ذلك من تشرذم وتشظي ولاجدوى وانهيار، وذلك هو الموقف المابعد حداثي. والموقف الأخير هو الموقف الأقرب من جدية العلماء والفلاسفة والعقول المفكرة الغربية عموماً. وهذا يعني أنه مع الافتراض الطبيعي بوجود قلقين في هذا الموقف المابعد حداثي فإن ذلك يدفعهم إلى البحث عن الحقيقة في نسق آخر غير النسق العلماني. وإذ كان النسق الإسلامي هو النسق الوحيد المنافس للنسق العلماني فإن الموقف المابعد حداثي بما يمثله من نقطة نهاية للنسق العلماني قد يكون هو المعبر الذي تنتقل من خلاله العقول الغربية المفكرة إلى النسق الإسلامي. وليس شرطاً أن تصل هذه العقول تماماً إلى الموقف المابعد حداثي حتى تنتقل إلى الإسلام ولكن المهم أن العقول الغربية الجادة ستجد في هذا الموقف المابعد حداثي حائط الصد الأخير الذي يؤدي الارتطام به إلى الارتداد عن النسق العلماني الغربي بكامله والبحث عن بديل فكري آخر في غير هذا النسق. وهو ما يدفع العقل إلى التماس هذا البديل الآخر في الإسلام لكونه النسق الوحيد الذي يجمع بين العقلانية والروحانية في الوقت نفسه. وهذا ما يحدث، حيث يتقدم الإسلام كعقيدة تقدماً رهيباً في الغرب مجتذباً في ذلك خصوصاً عقوله المفكرة، حتى ذهب أحد هؤلاء إلى القول إن الإيمان بالإسلام هو الطريق الطبيعي للمفكر الأوروبي، وبذلك فإن الإسلام كعقيدة بحتة يمثل خطراً أيديولوجياً على الهوية الغربية نفسها الأمر الذي يمثل دافعاً من دوافع الصدام من المنظور الغربي. وبذلك نستطيع القول إن الصدام بين الإسلام والغرب الأميركي هو صدام متوقع، طالما استمرت دوافعه التي نحددها من جهة الإسلاميين في إعاقة الغرب الأميركي لقيام الحكم الإسلامي وتبنيه الكيان الصهيوني المغتصب للأراضي الإسلامية المقدسة في القدس وفلسطين، والنهب الاقتصادي المنظم لموارد المستضعفين في الأرض وفي مقدمهم شعوب الدول الإسلامية من خلال فرض ومساندة الأنظمة الفاسدة والمستبدة على وجه الخصوص وما ينتج عن ذلك من مظالم ومآسٍ، والاعتقاد الخاطىء بأن هذا الغرب القائم يمثل امتداداً عقائدياًَ للغرب الصليبي القديم. أما دوافع الصدام من جهة الغرب الأميركي فهي خطر قيام الحكم الإسلامي، والخطر الأيديولوجي الذي يمثله الإسلام على الغرب، والتهديد الإسلامي لإسرائيل، والرغبة الدفينة في الانتقام من الإسلام الذي ما زال يسيطر على ممتلكات العالم الغربي القديم، أي أنه ما زال منتصراً على الحضارة الغربية في هذا الجزء من العالم. وإن كانت هذه الدوافع جميعاً - بحسب ما نرى - ما هي إلا تجليات الصراع الكوني بين الرؤية الإسلامية للوجود والرؤية المادية البراغماتية له، حيث إن كل منهما يعوق الآخر في اتساقه الكوني مع رؤيته الخاصة فلن تكون هناك إمكانية للحوار بين الطرفين إلا بالتخفيف من حدة الدوافع المؤدية للصدام أو زوال بعضها على أقصى تقدير لأن زوالها جميعاً يمثل استحالة فلسفية وتاريخية ويتناقض من المنظور الإسلامي مع سُنة الله في الكون. وقد يكون ذلك بتخلي الغرب الأميركي عن وسائل القهر في سعيه لإعاقة الحكم الإسلامي والانفصال عن الكيان الصهيوني في صراعه مع العالم الإسلامي والاكتفاء بقدر أقل من نهب موارد العالم والتوقف عن المساندة العسكرية على الأقل للأنظمة المستبدة والفاسدة المسيطرة على دول العالم الفقيرة. وأن يتوقف الإسلاميون من جهتهم عن النظر إلى الغرب من منظور الإرث التاريخي على أنه العدو الصليبي الحتمي وأن الصراع بينهم وبينه صراع ديني إسلامي مسيحي، وأن يعوا طبيعة الاستخدام الذرائعي للمسيحية من جانب النخب البراغماتية في الصراع، وأن يقروا في الوقت نفسه بالإنجازات الحضارية والإنسانية للعقلانية الغربية على الرغم من تناقضهم مع توجهها العلماني واعين للدور الإسلامي التاريخي في تلك الإنجازات ومن ثم تفهم عدم حتمية رفض تمثلها إسلامياً بكل عناصرها وأنها في الغالب الأعم قابلة للفك والتركيب وأخذ ما يوافق منظومتنا الإسلامية واستبعاد الآخر وأن المسألة لا تتعلق بالمصطلحات وإنما في المعاني التي تقف وراءها، واستيعاب أن ما تقدمه تطبيقات الغرب العملية لإنجازاته الحضارية في المجال الإنساني في بلاده من تهيئة الفرصة للدعوة الإسلامية هو أكبر مما تسمح به أنظمة أغلب الدول الإسلامية ذاتها على الرغم مما يشوب هذه التطبيقات من صور وتناقض مع قواعد النظرية، وهو الأمر الذي يسقط وجوب الصدام مع الغرب انطلاقاً من إعاقة الدعوة إلى الله في بلاده. * كاتب مصري.