على رغم التناقض القائم بين اميركا والعالم الاسلامي - والذي لا نملك سوى التسليم به - فإننا نذهب إلى أن قدراً كبيراً من هذا التناقض يعود الى فقدان الدراية الكافية بالحقيقة الكونية لكل طرف بالنسبة إلى الآخر، وإلى التصعيد المتبادل في بعض المشكلات التي يمكن حلها بالحوار والنيات الحسنة، الأمر الذي يعني إمكان التعايش وعدم حتمية المواجهة بينهما على رغم وجود ذلك التناقض. وهذا هو الدور الذي من الممكن أن تناط به تلك اللجنة التي ندعو الى إنشائها. وما نعتقده هو انه مضى أوان النظر الساذج الى المسلمين على أنهم كائنات عدوانية أو أقل عقلانية من الشعوب الغربية أو أنه "بالإمكان في ضوء الشروط الخالصة في فقه الإلهيات أن نجد في الإسلام اساساً نظرياً يبرر قيام حال توتر دائمة مع العالم غير المسلم"، كما يقول غراهام فوللر رجل الاستخبارات النافذ في اميركا، أو أن "حدود العالم الإسلامي هي دائماً حدود ملتهبة"، كما يقول صمويل هينتنغتون الخبير الاستراتيجي الاميركي أو أن التعاون الأميركي - الإسرائيلي هو حتماً التعاون الأجدر لتحقيق المصالح الاميركية قياساً الى أي تعاون حقيقي مفترض - وليس هيمنة قهرية - بين أميركا ودول العالم الإسلامي. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على النظر من خلال إرث العداء الصليبي بين أوروبا والعالم الإسلامي أو على أن اميركا والدول الغربية أرض كفر يجب على الجيوش الاسلامية غزوها. فدعوة "لا إله إلا الله" تشتمل على مضمونين أساسيين هما: إفراد العبودية لله وتحرير الإنسان من أي سلطة تحول بين الإنسان وبين اقراره لهذه العبودية أو إنكارها. فالآية "لا إكراه في الدين" لا تعني فقط رفض الاسلام إكراه الناس على الايمان بوحدانية الخالق ولكنها تعني ايضاً رفض الاسلام لأي سلطة من الممكن أن تحول بين الانسان وبين حريته في اقرار هذه العبودية أو إنكارها. وحيث إن الاسلام دعوة للعالمين، فإن الهدف الذي يحكم علاقته بالآخرين هو إبلاغ دعوته الى الناس. وفي اطار هذا الهدف تأتي المنظومة الإسلامية التي تحدد علاقة المجتمع المسلم بغير المسلم في أشد صورها اصولية من خلال مراحلها الثلاث: - التخلية بين المسلمين وبين الناس في دعوتهم الى الإسلام. - الجزية. - الحرب. فما الذي يعنيه تطبيق ذلك على الواقع الحالي بين المسلمين والغرب؟ والخطأ الأعظم هنا هو الانطلاق من فرضية خاطئة مؤداها اننا نبحث عن العلاقة بين مضمون ثابت وواقع ثابت. فإذا كان المضمون العقائدي للإسلام مضموناً ثابتاً فإن المضمون الواقعي للعالم الاسلامي والعالم الغربي ليس مضموناً ثابتاً متطابقاً مع تلك العلاقة العدائية المفترضة بين العالم الإسلامي وأوروبا الصليبية. فالأنظمة الاجتماعية والسياسية المطبقة في دول العالم الإسلامي الآن لا تختلف كثيراً في أصولها الايديولوجية عن الانظمة المطبقة في العالم الغربي مع فارق جوهري كبير هو مواقفها الاشد قسوة في التعامل مع معارضيها. أما الغرب فلا يحمل مضموناً عقائدياً ثابتاً بل قد يفاجأ البعض بأن المضمون الجغرافي لكلمة الغرب لم يتبلور إلا مع بدايات القرن التاسع عشر. فغرب ما قبل النهضة ليس هو نفسه غرب ما بعد النهضة، كما أن غرب ما بعد النهضة في حال تشكل مستمر تصرف عنه صفة الثبات. فالحديث عن الغرب كونه الغرب المسيحي مثلاً ويا ليته يكون كذلك يعني اننا مغيبون عن الواقع. فهو ما زال في حال تشكل داخل الاطار العلماني منذ عصر النهضة وهو الآن في مرحلة انتقال من المرحلة الحداثية التي تمثلت كانعتاق من الرؤى الدينية والمذاهب الفلسفية التأملية أي التمرد على كل المذاهب التي تضع تصورات كلية للعالم سواء كانت دينية أم غير دينية الى مرحلة ما بعد الحداثية التي لا تتمرد فقط على المذاهب الدينية والفلسفية ولكنها تحمل القناعة بعدم إمكان المعرفة وعدم جدوى البحث عن الحقيقة بالنسبة الى الاسئلة المصيرية للإنسان، بل وتعمل على تفكيك الفكر الغربي العلماني نفسه. والملمح الوحيد الذي يتبقى في هذه المنظومة هو ذلك البعد البراغماتي المتمحور حول المنفعة واللذة والذي يمثل في ذاته التناقض الاساس مع البعد الروحي في الاسلام. إذاً نحن لسنا أمام غرب مسيحي بالمعنى التقليدي، ولسنا أمام غرب ملحد يكابر ويعاند في إلحاده، إنما نحن أمام غرب افتقد اليقين ويحيا في سيولة فكرية ومنظومة تتفكك في الوقت الذي يطبق داخل دوله نظماً ديموقراطية تهيئ مناخاً من الحرية للدعوة الإسلامية لا نظفر بمثلها. وفضلاً عن تلك الحرية فإن السيولة الفكرية التي يعيشها الغرب والتي تعبر عن ذروة الاجهاد التي بلغها الفكر العلماني تدفع العقول المفكرة فيه الى التماس الاجابات الاخرى من الرؤى البديلة للرؤية العلمانية للوجود، الأمر الذي منح فرصاً رائعة للاستجابة لنشر الدعوة الاسلامية في الغرب، وكما يقول بعض المفكرين الغربيين المهتدين فإن اعتناق الاسلام هو الطريق الطبيعي للمفكر الأوروبي. ولكن من ناحية أخرى فإن البعد البراغماتي للغرب صنع مجتمع النخب العالمية أي مجتمع تحالف النخب المسيطرة سياسياً واقتصادياً على شعوب العالم، الأمر الذي يعني أن تلك النخب المسيطرة في الغرب تعمل على مساندة النخب الحاكمة والاقتصادية على حساب الشعوب في دول العالم من خلال سياسات لا تفعل شيئاً سوى زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء. وكل ذلك يصنع القناعة لدى شعوب العالم الثالث، وفي صدارتها الشعوب الاسلامية، بمسؤولية الغرب عن قهرهم السياسي ومعاناتهم الاقتصادية. ولأن الاسلام في ذاته يمثل ايديولوجية استنهاضية للفقراء والمستضعفين في انحاء الأرض كافة، فإن تلك الممارسات الغربية تدفع الأمور في اتجاه الصدام الحتمي. وهناك الكثير من المشكلات العالقة بين المسلمين واميركا تستوجب البحث والدراسة والحوار والتفاهم بين الجانبين، وهذا ما يجب أن تقوم به لجنة الحكماء التي ندعو اليها والتي ينبغي أن تتشكل من المفكرين والسياسيين غير الحكوميين والذين يحظون بصدقية كبيرة من شعوبهم. * كاتب مصري.