الأرجح أن الغبار الذي أثاره الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بتصنيفه إيران ضمن دول "محور الشر"، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، بدأ بالزوال. آخر المؤشرات على هذا الاتجاه تجسد في الحفاوة التي استقبلت بها طهران رئيس الحكومة الانتقالية الأفغانية حميد كارزاي، كما تجسد في السخاء الذي أبداه الأخير في توقيعه على العديد من الاتفاقات مع الإيرانيين، وبينها ما يتعلق بمشاركة إيران في إعادة تأهيل الشرطة الأفغانية، بل حتى بمشاركتها في بناء جيش وطني أفغاني. وهذا أمر قد يصعب على كارزاي ابداء السخاء فيه من دون الحصول مسبقاً على ضوء أخضر أميركي. قبل زيارة كارزاي إلى طهران أبدت العاصمتان الأميركية والإيرانية قدراً لافتاً من الحرص على منع تأزيم الأوضاع بينهما، على رغم الانتقادات والتظاهرات والحملات الكلامية الإيرانية ضد مبدأ دول "محور الشر". فالمسؤولون الأميركيون سارعوا من ناحيتهم إلى اجراءين سريعين: الأول، التأكيد المستمر والمتكرر على رغبتهم في حل الخلافات والمشكلات مع الإيرانيين عبر الحوار السياسي والتفاوض المباشر. والثاني، اطلاق يد الحكومة الانتقالية في كابول لحل خلافاتها ومشكلاتها مع طهران عن طريق الزيارات المتبادلة والتفاوض السياسي المباشر. أما الإيرانيون الذين أحسوا بمدى التغييرات الجوهرية التي حصلت في بنية السياسة في العالم بعد أحداث أيلول سبتمبر الإرهابية ضد نيويوركوواشنطن، فإنهم مضوا في حرصهم على منع تداعيات الأزمة الجديدة مع الولاياتالمتحدة، وذهبوا في ذلك أبعد مما ذهب الأميركيون. فمن جهة، سارعوا إلى إلقاء القبض على العديد من أعضاء منظمة القاعدة ومقاتليها وكوادرها ممن تسللوا إلى داخل الأراضي الإيرانية. ومن جهة أخرى بدأوا بتقييد تحركات زعيم حزب الوحدة الإسلامي الأفغاني قلب الدين حكمتيار الذي نشط خلال الأشهر الماضية في عمليات حدودية هدفها زعزعة الأمن والاستقرار في أفغانستان. وقد وصلت التضييقات الحكومية الإيرانية الى حد ان حكمتيار سارع إلى الاختفاء عن الأنظار والالتجاء في شكل سري إلى بلد ما، وذلك قبل أيام من وصول كارزاي إلى العاصمة الإيرانية. ومن جهة ثالثة، أبدوا حرصهم على استقبال حاشد وحار لرئيس الحكومة الانتقالية الأفغانية في محاولة للتعبير عن استعداد إيران اغلاق ملف أفغانستان في النزاع من الولاياتالمتحدة. لكن، مع هذه الاشارات المتبادلة بين الطرفين، يظل السؤال مطروحاً: لماذا هذه الزوبعة في الأجواء الايجابية بين الدولتين بعد حرب أفغانستان؟ لا شك ان اللهجة المتشددة التي أصبحت تطبع خطاب واشنطن منذ أيلول الماضي تتحمل جزءاً من مسؤولية تردي الحال. وكذلك الأوساط الإيرانية المتشددة، خصوصاً في دوائر الاستخبارات والحرس الثوري، والتي تتحمل جزءاً غير قليل من مسؤولية التردي، خصوصاً في حادث السفينة التي حملت أسلحة إيرانية إلى منظمات لبنانية وفلسطينية. لكن مع هذا يمكن القول إن السبب الرئيسي يكمن في حقيقة بسيطة مفادها أن الأميركيين تواقون إلى حدوث تغييرات وتحولات أساسية في سياسة إيران الخارجية. فمثل هذه التحولات أصبحت مطلوبة في واشنطن نظراً لمستلزمات الحرب الدولية ضد الإرهاب من جهة، ولمستلزمات الرغبة الأميركية في مد الحرب إلى العراق، من جهة ثانية. كما أنها أصبحت مطلوبة لأن الولاياتالمتحدة يمكنها أن تشعر بحرية أوسع في التعامل مع ملفات أساسية في الشرق الأوسط في حال إحداث إيران تغييرات في سياستها الخارجية، خصوصاً على صعيد ملفات: العراق والوضع في لبنان والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. الأميركيون تواقون الى هذا لأن الاصلاح المرتقب في إيران يسير بشكل بطئ. والولاية الثانية للرئيس الإيراني محمد خاتمي أشرفت على الانتصاف. هذا في الوقت الذي تنهمك واشنطن في خطط تهدف إلى مد الحرب ضد الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل إلى الشرق الأوسط. والأرجح أن الإيرانيين فهموا الرسالة الأميركية، لهذا لم يسارعوا إلى ردود رسمية قوية، عدا التصريحات النارية للرئيس السابق هاشمي رفسنجاني. فطهران، في آخر المطاف، لم تبد اي استعداد للنزول إلى حلبة الصراع. والإيرانيون الذين شعروا بارتياح بالغ من تغييب حركة "طالبان" عن ساحة الحكم والسياسة في أفغانستان، يعرفون أنهم سيشعرون بارتياح أكثر في حال تغييب الرئيس العراقي صدام حسين عن الحكم والسياسة في بغداد. لهذا هم يجدون أن مصلحتهم تقضي بعدم اشغال السياسات الأميركية المتشددة حيال العراق وإلهائها بصراعات جانبية. لهذا كله، قد تستمر الأزمة الحالية بين واشنطنوطهران الى حين، لكن المؤكد أن الدولتين تبحثان، كل من ناحيتها، في أفضل السبل لتهدئة الحال واستثمار الأجواء الدولية والاقليمية الحالية باتجاه جولة جديدة من التقارب. ومرة أخرى، لا أدل على هذا من الاستقبال الحار الذي لقيه كارزاي في طهران.