هناك تجارب إقليمية كثيرة في دول العالم الثالث حاولت استنساخ التجربة الأوروبية باعتبارها الحالة التطبيقية المثالىة لنظريات التكامل الإقليمي، إلا أن معظم تلك المشاريع - وعلى رأسها المشروع العربي - أخفقت في تحقيق أهدافها الرئيسة سواء في ما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية لشعوبها أو رفع معدلات التجارة الإقليمية البينية أو في ما يتعلق بالوصول إلى المستويات المعلنة من التكامل بما فيها المستويات الأدنى والمتمثلة في إنشاء مناطق تجارة حرة. ومهد هذا الإخفاق بالتفاعل مع مجموعة التحولات المهمة التي شهدتها بنية النظام الدولي خلال العقد الأخير، لتطور نمط جديد من الإقليمية يختلف عن ذلك النمط الذي تطور في إطار نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة. الإقليمية الجديدة تختلف عن نمطها التقليدي الذي عهدناه، في خصائص عدة، ليس فقط في ما يتعلق بالإطار الشكلي والتنظيمي، ولكن أيضا في ما يتعلق بالسياسات المتبعة في تحقيق التكامل الإقليمي وغاياته النهائية، الأمر الذي أبعدها كثيرا عن الإطار النظري التقليدي لنظريات التكامل الإقليمي. وأدى تطور الأدبيات الصاعدة في مجال الإقليمية الجديدة والقبول الأكاديمي المتزايد لاعتبارها ليس فقط بمثابة الإطار النظري الأنسب لدرس التجارب الحديثة في التكامل / التعاون الإقليمي، ولكن أيضا كمدخل لتطوير تجارب الإقليمية القائمة فعلاً والتي تطورت خلال فترة الحرب الباردة، خصوصاً في ضوء المستوى المتواضع الذي حققته تلك التجارب. ولم تخرج الإقليمية العربية عن تلك المحاولات، فقد تصاعدت خلال السنوات الأخيرة كتابات دعت إلى الاستفادة من أدبيات الإقليمية الجديدة في تطوير الإقليمية العربية. وبالإضافة إلى تلك الدعوات المباشرة واجهت الإقليمية العربية تحديات خطيرة في ضوء تصاعد مشاريع إقليمية بديلة تمتعت بقدر كبير من المشروعية سواء من خلال التفاعل الرسمي معها أو من خلال تبشير العديد من الاقتصاديين العرب بجدواها الاقتصادية. وتمثل أهم تلك المشاريع في الإقليمية المتوسطية، والإقليمية المستندة إلى رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي، فضلا عن مشروع الإقليمية الشرق أوسطية الذي لا يزال يواجه تعثراً. واقع الأمر إن الوقوف على حدود الاستفادة من الإقليمية الجديدة في تطوير تجربة الإقليمية العربية إنما يبدأ من تحديد مضمون ظاهرة الإقليمية الجديدة ذاتها، إذ أن معظم الدراسات التي حاولت توظيف أدبيات الإقليمية الجديدة في تطوير الإقليمية العربية ركز على بعض جوانب تلك الظاهرة وأغفل الأخرى. فمن الناحية السياسية والقانونية تقوم الإقليمية الجديدة على ثلاثة عناصر رئيسية هي المرونة الجغرافية، بمعنى الاستناد إلى تعريف مرن للإقليم يسمح بضم دول لا تنتمي بالضرورة إلى إقليم جغرافي محدد بالمعني التقليدي القائم على التماسك الجغرافي، وذلك مقابل تصاعد دور الأرضية المشتركة الجديدة في مجال الاقتصاد السياسي، خصوصاً التركيز على سياسات التوجه الاقتصادي الخارجي والاندماج في الاقتصاد العالمي. ويتمثل العنصر الثاني في التركيز على المؤسسية المرنة. وللمؤسسية المرنة شقان، الأول هو الاعتماد على الهياكل المؤسسية والتنظيمية محدودة النطاق، والثاني هو التنازل عن فكرة الإلزام القانوني، بمعنى أن عملية التكامل لا تسير وفق اتفاقات ومعاهدات إقليمية ملزمة قانونا للدول الأطراف بقدر ما تعتمد على التوافق العام consensus على مجموعة من القواعد والأهداف العامة يترك للدول الأعضاء تنفيذها وفق أولوياتها وظروفها الداخلية. ومن ثم تكون هناك خطط عمل فردية تفصيلية يحددها كل طرف لنفسه جنباً إلى جنب مع خطط عمل جماعية تركز على المبادئ والأهداف العامة. وأخيراً، تتسم الإقليمية الجديدة بتراجع الأهمية النسبية للروابط الأيديولوجية والتهديدات الأمنية الاستراتيجية كمحددات رئيسية في بناء الهياكل الإقليمية. ومن الناحية الاقتصادية تتسم الإقليمية الجديدة بالاعتماد على عدد من السياسات أهمها الارتكاز إلى استراتيجيات التحرير الأحادي الجانب للتجارة الخارجية، على أن يتم هذا التحرير بشكل غير تمييزي تتمتع فيه الدول الأطراف بالحق في مد مزايا تحرير التجارة إلى الأطراف غير الأعضاء في الترتيب الإقليمي من خلال توسيع تطبيق مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. وفي هذا الإطار يركز هذا النمط من الإقليمية على ضمان فتح الأسواق أمام تدفقات السلع والخدمات ورؤوس الأموال من دون أن تتبنى هدفا محدداً، من قبيل إنشاء اتحادات جمركية أو سوق مشتركة أو غيرها من المستويات، بل أنها لا يمكن توصيفها ضمن مناطق التجارة الحرة لانتفاء عنصر التمييز ضد الأطراف الخارجية. والإقليمية الجديدة بهذا المعنى لا تفت فقط الكثير من مقوماتها في الإطار العربي، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن عدم ملاءمة هذا النمط للواقع العربي والمصالح الاستراتيجية العربية. فقد جاءت ظاهرة الإقليمية الجديدة كمحصلة وإفراز لواقع اقتصادي خاص في منطقة آسيا المشاطئة للمحيط الهادي، حيث استندت تجربة التكامل الاقتصادي في تلك المنطقة إلى محورية دور القطاع الخاص وقوى السوق كقائد وموجه رئيسي لعملية التكامل الاقتصادي عبر جانبي المحيط الهادي، بينما اقتصر دور الحكومات على تسهيل التجارة وتوفير الأطر المناسبة لفاعلىة عمل تلك القوى، خصوصاً في إطار الدور الذي لعبه قطاع التجارة الخارجية كقطاع قائد للنمو الاقتصادي جنبا إلى جنب مع استراتيجيات التصنيع والتنمية الداخلية التي وفرت أساسا ماديا قويا للتجارة الخارجية. وبمعنى آخر سبقت الإقليمية الاقتصادية هنا الإطار الإقليمي التنظيمي. إذ ارتفعت قيمة التجارة الإقليمية البينية في منطقة آسيا المحيط الهادي من 8،46 في المئة في سنة 1965 أي قبل 24 عاما من تأسيس الآبك إلى 5،64 في المئة عام 1987 قبل عامين من تأسيس الآبك، الأمر الذي وفر أساسا قويا لتأسيس نمط من الإقليمية يركز على حرية التجارة عبر الإقليمية، بل اعتبار العمل على ضمان حرية تلك التجارة الهدف الرئيسي لها. وفي المقابل تفتقد الاقتصادات العربية هذا الأساس، إذ لا يتجاوز حجم التجارة الإقليمية العربية البينية حوالى 7،9 في المئة فقط، الأمر الذي يخلق خطرا داهما في حال التنازل عن فكرة التمييز والتبادل في منح التفضيلات كأساس لتحرير التجارة العربية مع الشركاء التجاريين خارج النطاق العربي، خصوصاً في ضوء ضعف القدرات التنافسية للصادرات العربية والعجز التجاري الشديد في موازين التجارة العربية مع العالم الخارجي. غير أن التحدي الأهم الذي يفرضه الانطلاق من أدبيات الإقليمية الجديدة في تطوير الإقليمية العربية إنما ينبع من خطورة التنازل عن المفهوم التقليدي للإقليم في الإطار العربي، وهو المفهوم الذي ارتكز ليس فقط إلى كتلة جغرافية متماسكة ولكن إلى وجود مجموعة من الشعوب يجمع في ما بينها عدد من الروابط الدينية واللغوية والتاريخية المشتركة أو ما عرف اختصارا بالقومية العربية. ومن ثم، فإن التنازل عن هذا المفهوم الجغرافي التقليدي لتجربة التكامل العربية - على رغم النجاح المحدود الذي حققته حتى الآن - من شأنه أن يؤدي إلى إدخال دول أخرى في مقدمها إسرائيل في أية محاولة لتطوير تجربة التكامل العربية من منظور تلك الأدبيات. ومن ناحية أخرى، تفتقد المنطقة العربية أحد المقومات الرئيسة لظاهرة الإقليمية الجديدة وهو ذلك المتعلق بطبيعة التهديدات الخارجية. فقد أدت التحولات المهمة التي شهدتها بنية النظام الدولي خلال العقد الأخير، خصوصاً انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي والتقدم المتسارع في وسائل النقل والاتصال، إلى حدوث تحول مهم في طبيعة التهديدات في الاتجاه نحو تراجع الأهمية النسبية للتهديدات الأمنية الاستراتيجية مقابل تصاعد الأهمية النسبية للتهديدات الجيو - اقتصادية والاجتماعية، خصوصاً تلك المتمثلة في انتشار تجارة المخدرات والأسلحة الصغيرة والهجرات غير الشرعية أو حرائق الغابات... الخ، بالإضافة إلى تصاعد الأهمية النسبية لبعض قضايا التعاون الإقليمي مثل الحاجة إلى استغلال الثروات الاقتصادية في أعالي البحار والمحيطات والثروات السمكية. وتأتي أهمية تلك التهديدات أو القضايا أنها لا تتطابق بالضرورة مع الحدود التقليدية للتهديدات الأمنية الاستراتيجية. إلا أن هذا التحول لم يتضح بعد بالنسبة إلى العالم العربي، فعلى رغم تأثر الدول العربية بانتشار المخدرات والأسلحة الصغيرة، إلا أن التهديد الأمني الاستراتيجي يظل هو المصدر الأول في تهديد الأمن القومي العربي، والمتمثل تحديداً في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، بل إن هذا التهديد زاد وضوحا مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. وهكذا، فإن تطويراً للإقليمية العربية التقليدية بالاعتماد على خبرات الإقليمية الجديدة سواء من خلال استبدالها بإقليمية بديلة أو إذابتها في مشاريع أوسع نطاقاً، ينطوي على إعادة تعريف خاطئ - وإن بشكل غير واعٍ - لمصدر التهديد الأمني الاستراتيجي القائم. وبمعنى آخر، تظل هناك مصلحة استراتيجية في الحفاظ على استمرار الإقليمية العربية التقليدية المستندة إلى العوامل السياسية والاستراتيجية في تحديد نطاق عضويتها وبناء هيكلها الإقليمي في مواجهة مشاريع الإقليمية الجديدة المبشر بها سواء "الشرق أوسطية" أو "المتوسطية"، حيث تظل الإقليمية العربية التقليدية هي الإطار الأنسب لمواجهة التهديد الأمني الاستراتيجي القائم. ويقودنا الاستنتاج الأخير إلى أحد التحديات المهمة التي يفرضها التفاعل العربي السلبي مع ظاهرة الإقليمية الجديدة، وهو تأثيرها على مستقبل مفهوم النظام الإقليمي، سواء في ما يتعلق بالأسس النظرية لهذا المفهوم أو في ما يتعلق بعلاقته مع النظام العالمي، خصوصاً تراجع الأهمية النسبية لعوامل الجغرافيا والمدخلات السياسية والاستراتيجية والتشابه القومي كمدخلات رئيسية في تحديد النظم الإقليمية، مقابل تصاعد الأهمية النسبية للمكون الاقتصادي والمصالح الاقتصادية وعامل التفاعلات، بحيث يصبح مفهوم النظام الإقليمي أقرب إلى مفهوم ال regimeمنه إلى مفهوم الsystem. الأمر الذي يصبح معه من المنطقي - في حالة إعمال تلك المدخلات - إعادة تحديد نطاق النظام الإقليمي العربي وإدخال فاعلىن جدد من خارج الإطار العربي. وتتمثل خطورة هذا التحول في تزايد احتمالات ضياع الهوية العربية للنظام الإقليمي العربي، وصعوبة التوفيق بين المصالح والتهديدات الاستراتيجية التي تجمع بين دوله، من جانب، وخريطة المصالح والارتباطات الاقتصادية للعالم العربي بالأطراف الخارجية، من جانب آخر. الأمر الذي يزيد من إضعاف القدرات التساومية للعالم العربي، في ظل نمط من التفاعلات الاقتصادية العربية بالأطراف الخارجية لا تتمتع فيها الأولى بميزات نسبية واضحة. والتساؤل المهم: ما هي الآليات التي يمكن من خلالها تكيف الإقليمية العربية في ظل تحديات الإقليمية الجديدة على النحو الذي يضمن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية العربية من دون انغلاق الإقليمية العربية أو انعزالها، ويضمن تفاعلها الإيجابي مع المشاريع الإقليمية المطروحة؟ وفي هذا الإطار تمكن الإشارة إلى عدد من النقاط: أولاً: يجب أن تظل الإقليمية العربية التقليدية هي المشروع الرئيسي للدول العربية بحيث لا يرقى أي من المشاريع الأخرى المطروحة إلى المشروع البديل للإقليمية العربية. فعلى رغم التطور المهم الذي شهدته الإقليمية خلال العقد الأخير، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء النمط التقليدي من الإقليمية، فلا زالت للإقليمية التقليدية تطبيقاتها ونماذجها القائمة، ولا زالت هناك احتمالات للتعايش بين هذين النمطين في إطار النظام المتعدد الأطراف، كما لازالت الإقليمية التقليدية تجد أسانيدها القانونية في اتفاقية الغات خصوصاً المادة 24 التي تجيز إقامة ترتيبات إقليمية تفضيلية خروجا عن مبدأ الدولة الأولي بالرعاية. بل أن النمط التقليدي من الإقليمية يظل هو الأنسب في حال الاقتصادات الأقل نمواً والتي لا زالت صادراتها لا تشكل نسبة ملحوظة من التجارة العالمية، وذلك بالنظر إلى العلاقة الغامضة بين الإقليمية الجديدة والتنمية الاقتصادية في ضوء تركيزها على قضية تحرير التجارة بالأساس. ثانياً: أن يكون الالتحاق بتلك المشاريع التحاقا جزئيا وليس إلحاقاً كاملا للإقليمية العربية بأي من تلك المشاريع على نحو لا يؤدي إلى ذوبان الإقليمية العربية في أي من المشاريع المقترحة. ويكون من المقبول في هذا الإطار إعادة إدخال بعض عناصر التطوير على الإقليمية العربية لاحتواء بعض مشاريع الإقليمية المطروحة، خصوصاً الإقليمية الشرق أوسطية، من خلال تطوير بعض أشكال أو صور ارتباط دول الجوار الجغرافي بالإقليمية العربية، ونقصد هنا تحديدا إيران وتركيا من دون إسرائيل، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، على ألا ترقى تلك الروابط إلى مستوى العضوية الكاملة. وتأخذ تلك الروابط صيغة "الدولة الضيف أو شريك الحوار". ثالثاً: وربما يكون ذلك هو الأهم. ضرورة تطوير وتفعيل الإقليمية العربية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. ويأتي في مقدم أولويات هذا التطوير تفعيل منطقة التجارة العربية الحرة والانتقال بها إلى مستويات تكاملية أعلى، وتطوير جامعة الدول العربية باعتبارها أساس الهيكل التنظيمي للإقليمية العربية. * باحث في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في "الأهرام".