يُمكن تعريف أمن الخليج باعتباره أمناً إقليمياً، أي مرتبطاً ومتضمناً تفاعلات الدول المشاطئة له، على المستويات الوطنية وفيما بينها. وفي الوقت ذاته، أضحى أمن الخليج أمناً دولياً بفعل الطاقة النفطية، والممرات البحرية التي تتحكم بعقد التجارة العالمية. والنظام الإقليمي الخليجي هو نظام فرعي عن النظامين الإقليميين العربي والشرق أوسطي. ويعود تشّكله، بالمعنى النظامي للمصطلح، إلى مطلع العقد السابع من القرن العشرين، حين غدت كافة وحداته دولاً مستقلة. وهناك ثماني دول تشاطئ الخليج العربي، هي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، والعرق وإيران. إن إقامة نظام الأمن الإقليمي تتطلب توافر إدراك الدول المعنية بارتفاع تكلفة الصراعات المفتوحة، وقبولها فكرة تطوّر نظام الأمن بطريقة تسمح بتعبيرها عن رؤاها المختلفة تجاه القضايا محل الاهتمام بطريقة سلمية وقد ظل تقسيم الخليج ينحو، بشكل تقليدي، إلى كونه تقسيماً ثلاثياً، بين شمال يُمثله العراق، وشرق تمثله إيران، وغرب تمثله الأقطار الستة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقد غلبت التفاعلات الصراعية للنظام الإقليمي الخليجي على تفاعلاته التعاونية، منذ أن كان بالمقدور الحديث عن وجود هذا النظام. في مقاربتنا للخيارات المتاحة للسيطرة على المضامين القلقة في بيئة الأمن الإقليمي للخليج، سوف نتحدث بداية عن الأمن الإقليمي كمفهوم، وما يعنيه بالنسبة للدول المعنية. ينصرف مفهوم الأمن الإقليمي إلى وجود نظام تتوافر فيه المتغيرات الثلاثة اللازمة لنشأة النظم الإقليمية، والتي تشمل تعدد الوحدات الإقليمية بحيث تفوق الثلاث دول، وجود تفاعلات مستديمة بين تلك الوحدات تكشف عن أنماط ونماذج سلوكية معينة، والانتماء إلى منطقة جغرافية واحدة، دون أن يعني ذلك ضرورة توافر هوية قومية مشتركة. وينصرف مفهوم الأمن الإقليمي من جهة ثانية إلى توافر نظام إقليمي للأمن، يرتكز على اتفاق تلك الوحدات على الالتزام بجملة معايير يتم الاتفاق عليها، لتكون دليلاً لعلاقاتها البينية، فهذا النظام لا يعني إزالة كل الخلافات بين الدول، بل تطوير بيئة سياسية وقانونية تحول دون خروج تلك الخلافات عن نطاق السيطرة. إن إقامة نظام الأمن الإقليمي تتطلب توافر إدراك الدول المعنية بارتفاع تكلفة الصراعات المفتوحة، وقبولها فكرة تطوّر نظام الأمن بطريقة تسمح بتعبيرها عن رؤاها المختلفة تجاه القضايا محل الاهتمام بطريقة سلمية، إذ ليس من المتوقع تخلي أيّ منها عن تصوراتها، خاصة في المراحل الأولية لإقامة هذا النظام. كذلك، تتطلب إقامة هذا النظام اتفاق الدول المعنية على معايير سلوك يجري تثبيتها في وثيقة خاصة. وبمرور الوقت، تدرك الدول المعنية أنّ الحفاظ على هذه المعايير، والالتزام بها، يُعد أكثر انسجاماً مع مصالحها، مقارنة بما قد تحصل عليه من مكاسب في حال اتخاذها خطوات أحادية الجانب. ومن جهة أخرى، لابد أن يكون هذا النظام شاملاً، بحيث لا يستبعد بصورة نهائية أي فاعل يرغب في الانضمام إليه والالتزام بالمعايير المحددة فيه. إن مسألة قبول أي عضو في نظم الأمن الإقليمية يتوقف على مدى استعداده للالتزام بالمعايير، وليس على صفاته وخصائصه الذاتية. وأخيراً، فإن إقامة نظم الأمن الإقليمية تتطلب بالضرورة إدراك طبيعة بناء هذه النظم، من حيث كونها عملية مفتوحة، يكون خلالها النظام قادراً على التكيف والتطور، استجابة للمتغيّرات، وذلك من خلال تطوير آليات ملائمة، تسهم كذلك في تمكين الوحدات من العيش معا في انسجام نسبي. ومن المحددات العامة إلى معطيات الواقع الراهن، هناك أشكال مستجدة من التحديات السياسية والأمنية، قد فرضت نفسها على النظام الإقليمي الخليجي، وأثرت عميقاً على التفاعلات القائمة بين وحداته. والسؤال هو: كيف يُمكن للنظام الإقليمي الخليجي أن يحقق استقراره، وسط بيئة قلقة، بل وعاصفة؟ مبدئياً، هناك ثلاثة خيارات يُمكن لدول الإقليم الأخذ بها لتحقيق الحد الأدنى المستهدف من الاستقرار، أي الحد الذي تتوارى فيه الانماط العنيفة من الصراع والاستقطاب السياسي. وهذه الخيارات هي: أولاً، بناء توازن جديد للقوى. ثانياً، الانضواء في نظام محدد للأمن الإقليمي. وثالثاً، زيادة ما يُعرف "بكلفة الفكاك" (The Cost of Disengagement)، على النحو الذي تبدو فيه العلاقات بين دول الإقليم حاجة مشتركة، شديدة التجلي والوضوح. 1- خيار توازن القوى: بالنسبة لخيار توازن القوى، وعلى الرغم من قِدم هذا المفهوم، حيث بلور دارسو العلاقات الدولية نظرية خاصة به في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عُرفت باسم "النظرية التقليدية لتوازن القوى"، إلا أنّ أهميته كأداة لإدارة الصراعات ما بين الدول، كما رأى هانز مورجنتاو، تزايدت مع بزوغ نجم النظرية الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة، وأفول النظرية المثالية. وقد حدد مورجنتاو عنصرين أساسيين يرتكز عليهما مبدأ توازن القوى: الأول، مادي، ينصرف إلى وجود تعادل حسابي على مستوى القدرات العسكرية للأطراف المعنية. والثاني، إدراكي، خاص بتوافر إدراك لدى هذه الأطراف بأهمية وجود ذلك التعادل، باعتباره الوسيلة المثلى للحفاظ على الأمن. هذا المقال، لا يرى رجحاناً في الأخذ بمبدأ توازن القوى، كسبيل لتحقيق الأمن في الخليج، وذلك للأسباب التالية: أ- اختلال التوزيع النسبي للقوة بين دول الإقليم. وهو الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى توازن غير حقيقي أو غير مستقر للقوى. وهناك بعدان رئيسيان لهذه المعضلة: الأول مادي، يرتبط بطبيعة المقومات المادية، الجغرافية والبشرية والاقتصادية. والثاني يتعلق بمستوى القدرات غير المادية، خاصة الخبرة القتالية، والتصنيع العسكري. ب- إمكانية انتعاش الاستقطاب السياسي في المنطقة. ج– إمكانية انزلاق دول المنطقة في سباق تسلّح محموم. وهذا ما شهده الخليج لسنوات طويلة. وفي تجربته التاريخية، كان النظام الإقليمي الخليجي قد شهد ما يُمكن تعريفه بحذر بأنه شكل من أشكال توازن القوى المحلي، خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، وخاصة اعتباراً من العام 1975. وقد مثلت إيران الطرف الأول في معادلة التوازن هذه، ومثل العراق طرفها الثاني. وقد انهار التوازن الاستراتيجي الإقليمي بضرب القوة العراقية عام 1991، وتحييدها استراتيجياً. ولقد شابت هذه التجربة ثغرات عدة، أسفرت في مجملها عن إخفاق توازن القوى في إدامة الاستقرار الهش، وانتهت المنطقة مع هذا الترتيب إلى حربين كبيرتين، في غضون عقد من الزمن: هما الحرب العراقيةالإيرانية، بين عامي 1980 – 1988، وحرب الخليج الثانية عامي 1990 – 1991. وخلاصة، فإن خيار توان القوى لا يبدو خياراً راجحاً في حسابات النظام الإقليمي الخليجي، ولا يبدو جديراً بدول المنطقة اعتماده كأساس لأمنها، أو كدليل لعلاقاتها البينية. 2-نظام الأمن الإقليمي مبدئياً، هناك أربعة خيارات، أو اقترابات، لنظم الأمن الإقليمي، يُمكن لمجموعة الدول اختيار واحد منها، وفقاً لخصوصيات بيئتها الجيوسياسية. الاقتراب الأول يُعرف بالأمن الشامل (Comprehensive Security). ويفترض هذا الاقتراب إدراك وحدات النظام الإقليمي مدى الارتباط بين القضايا العسكرية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق الأمن والحفاظ عليه. الاقتراب الثاني هو الأمن الجماعي (Collective Security). وتحدد الدول المؤتلفة في إطار هذا النظام الأمني تهديداً معيناً، تقوم بتوجيه مواردها الدفاعية للتعامل معه. وفي إطار هذا النظام، يصبح الهجوم على أي من الدول المؤتلفة بمثابة هجوم على جميع الدول. الاقتراب الثالث، يعرف بالأمن التعاوني (Cooperative Security)، ويجري في إطاره تعاون غير رسمي بين الدول الأعضاء، بهدف تطوير مجموعة من مبادئ ومعايير السلوك. ويتم التأكد من مدى الالتزام بهذه المبادئ من خلال منتدى للحوار. الاقتراب الرابع، يُعرف بالأمن المنسق (Coordinated Security). ويجري في إطاره تنسيق السياسات الأمنية والدفاعية بين الدول الأعضاء، من أجل تحقيق أهداف متفق عليها، تتجه بصورة أساسية لتعزيز الثقة المتبادلة، وتحقيق مبدأ الشفافية العسكرية، ووضع تصورات مشتركة للأخطار الماثلة والمحتملة، التي تواجه الأمن الإقليمي، وكيفية مقاربة الحلول المثلى لها. وبطبيعة الحال، ليس من وظيفة هذا المقال المفاضلة بين الاقترابات سابقة الذكر، كما لا يُمكن الأخذ بأي منها إلا بعد تطويعه على نحو ينسجم وخصوصيات البيئة الخليجية. وعلى الرغم من ذلك، إذا قررت دول المنطقة اعتماد ترتيب أمني معين، فالواقعية تقتضي أن يكون هذا الترتيب ذا التزامات محدودة، وسقف سياسي منخفض. 3-زيادة كلفة الفكاك كطريق للتعايش الإقليمي الخيار الثالث الذي يُمكن افتراضه لتغليب فرص الأمن في الخليج، يتمثل في دخول دول النظام الإقليمي الخليجي الثماني في شبكة مصالح متداخلة على نحو وثيق فيما بينها، بحيث يقود ابتعاد، أو استبعاد، أي طرف منها إلى خسائر غير محتملة. وهنا يتحقق ما يُمكن أن نصطلح عليه ب " الأمن من خلال الازدهار". ونعني به ازدهار فرص التنمية والتكامل الإقليمي. هذا الخيار، ينسجم مع مبدأ التعاون الإقليمي بمدلوله العام، وهو عديم المخاطر على العلاقات البينية بين وحدات الإقليم الثماني، ولا يصطدم، من جهة أخرى، مع الخصوصيات المحلية لهذه الوحدات، ولا يتعارض مع شكل واتجاه خياراتها الخارجية.