تحتفظ المكتبة الوطنية الفرنسية في خزائنها بأربع مفكرات هي بمثابة مخطوطات كتبها الأديب الكبير مارسيل بروست ونشرتها دار غاليمار أجزاء. تتيح هذه المفكرات معرفة كل شيء يتعلق بالأسرار المحيطة بأعمال بروست الروائية وكيفية تكونها وأصولها. أربع مفكرات رفيعة مستطيلة الشكل صمّمت لتوضع في الجيب ستتيح لمعجبي بروست باكتشاف الحلقة الاساسية الضائعة التي تخولهم ان يفهموا كيف ان شاباً لطيفاً ممن يرتادون اوساط الطبقة الراقية، بل كيف ان اديباً كئيباً استطاع ان يكتب هذا العمل الروائي الضخم: "بحثاً عن الوقت الضائع". ان جزءاً من اسرار هذا التحول موجود في اربع مفكرات اشترتها مدام شتراوس من دار تبيع منتوجات انكليزية مترفة في شارع اوبير وقدمتها لبروست في كانون الثاني يناير 1908. كان بروست في السابعة والثلاثين من عمره ومضى على وفاة والدته ثلاث سنوات. إن قراءة هذه المفكرات تجعل القارئ يصاب الدهشة أمام هذا السيل من شذرات النصوص والمراجع والاختصارات والمقاطع المشطوبة والأسلوب التقريري والعناوين ولوائح الاسماء والتعابير الشائعة المكتوبة بالتتابع، إضافة الى فقرات لا علامات وقف فيها وتراكيب لغوية عجيبة، نشعر اننا امام كاتب يولّف الشخصيات والنظريات بانفعال واحتداد وإلحاح. كتبت المفكرة الاولى بين 1908 و1910 وهي الاكثر اثارة للدهشة، ويدوّن فيها بروست احلامه وتلك المتعلقة بأمه في شكل خاص: "انتِ التي تحبينني، لا تجعليني اجري عملية جديدة فالموت ينتظرني ولن تُجدي مشقة ان اطيل حياتي". ونجد فيها ملاحظات عن "قضية لوموان" وأحلام عن الأب المتوفى عام 1903 وبعض العبارات الرئىسة عن نظرية بروست الروائية التي على رغم عجالتها، تشكّل جزءاً من "الزمن المستعاد". قام بالتعليق على هذه المفكرات انطوان كومبانيون الذي كان تولى تنسيق الجزء المتعلق ب"سادوم وعامورة" في طبعة "بلياد" وفلورنس كالو مديرة القسم المتعلق بالمخطوطات في المكتبة الوطنية في فرنسا. يقول انطوان كومبانيون: "هناك هدفان وضعهما بروست نصب عينيه عند كتابة هذه المفكرات: اولاً، ملاحظات تمهيدية عن هذه الرواية التي يحلم بروست بكتابتها منذ سنوات عدة، منذ ان كتب "جان سانثوي"، ونجد في المفكرة الاولى انبثاق الافكار الكبيرة لرواية "بحثاً عن الزمن الضائع"، ونلاحظ الشك والعجز والقلق الذي يشعر به الكاتب، فهو لديه اشياء كثيرة يقولها لكن الموت يقف له بالمرصاد، ونشهد في هذه المفكرة تحول مارسيل بروست الذي يسكنه موت امه الى روائي يضع نظرية ومبادئ. نشهد هذا الانتقال من "الأنا الشخصية" لبروست كفرد الى "الأنا" الضمير المتكلم للمتخيل والتي هي مختلفة تماماً. تختفي الأنا الاجتماعية لمصلحة الأنا الروائية. وما يدهش فعلاً هو غياب الالتباس بين هذين المستويين...!". في المفكرتين الثالثة والرابعة المكتوبتين بين 1914 و1917، يضيف بروست الاخبار التي يقرأها في الصحف ويقرأ سبعاً منها في اليوم والأشياء التي شاهدها وسمعها في الشارع او تأملها خلال نزهات قام بها في السيارة. وتدور الآلة الروائية بسرعة مدهشة... تتيح لنا هذه المفكرات ان نفهم كيف ان بروست وجد نفسه، بعد ان ارسى الركائز الاساسية لعالم شخصي حميم، مجروفاً في مشروع متدفق كنهر يلتقف ضمن حركته واضافاته وتراكباته وتحولاته، اصقاعاً اجتماعية هائلة. اشياء كثيرة يدخلها بروست في ملاحظاته، حرب 1914 التي توقعها وأيضاً حادث الطائرة الذي اودى بحياة اغوستينلي واعجاب جدته بمدام دوسيفيني يتحمله لأمه وعداء بلوخ للسامية وهو يعترض على الاغنياء المشبوهين اثناء وجوده على شاطئ كابور - بكيبك، وتصبح الوتيرة اسرع في المفكرة الاخيرة حيث بروست يجمع ويدوّن ويقلّد ويلملم ويسمع ويسجل العادات اللغوية والاصوات الخاصة بالشخصيات على اختلافها... نفهم الآن في شكل اوضح لماذا كانت المسودات المتعلقة برواية "بحثاً عن الزمن الضائع" مشوّهة في شكل جنوني بالاضافات الهائلة وملقمة بمقاطع اضافية، لماذا هي طرس مثقل بالكلمات المشطوبة والكتابات المرتجلة وهذا الكم الهائل من العبارات المدرجة داخل هلالين والاشتقاقات ومشاهات الافكار الملتمعة والملاحظات المدمجة. نرى امامنا معلومات جديدة وانبثاق مشاهد وتكدسات واضافات تكوّن تعاريج النص وتغضناته، في المفكرة الرابعة نجد كم ان المهمة ملحة ومنهكة في الوقت نفسه، كم انها لا تنتهي لأن الصدف لا ثني تحمل اليها الاضافات وتفتح امامها حلبات جديدة. ونرى الشخصيات ايضاً، كما في فيلم بالأبيض والأسود تظهر وتتحول وتتضخم او تنتظر بعبر في احدى زوايا المفكرة، نراها تتخذ هوية وتتبدل ثم تخرج من مدى الرؤية او تعاود ظهورها مرتدية ثوباً مختلفاً. لكن اكثر ما يدهشنا بعد قراءة هذه المفكرات هو هذا الشعور بالذنب العميق الذي يبديه بروست حيال امه منذ المفكرة الاولى والسبب هو شعوره بأنه لم يظهر حباً كافياً لها. ويختتم انطوان كومبانيون قائلاً: "هذا المدفن الذي يحتضن الأم الميتة يشكّل نواة الرواية. أما لماذا لم يتلف بروست هذه المفكرات ولماذا احتفظ بها فيبدو الجواب القابل للتصديق هو ان بروست كانت لا تزال لديه الرغبة في الافادة منها واستعمالها. تذهلنا الفكرة الغريبة من ان بروست كان يخلط اوراق الزمن فقاطعه الموت في منتصف الشوط. ومن مقتطفات المفكرة الاولى: ... حلم: أتبع بسرعة اناساً على طول الشاطئ الصخري والشمس مائلة الى المغيب، اتجاوزهم ولا اعرفهم تماماً، ثم ارى أمي لكنها غير مبالية بحياتي تقول لي صباح الخير وأشعر انني لن اراها ثانية الا بعد انقضاء اشهر عدة. هل ستفهم كتابي، لا. ... عليّ ان اضيف هذا الى الجزء الاخير لمفهومي عن الفن: إن ما يمتثل بغموض في عمق الوعي، قبل تحققه في عمل، يجب، قبل ان يخرج الى منطقة الوعي، ان يخترق منطقة وسطية بين الأنا الغامضة وذكائنا. لكن كيف بالامكان ايصاله حتى ذكائنا، كيف الاحاطة به. يمكننا البقاء لساعات ونحن نحاول ان نستعيد الانطباع الاول والرمز الذي يتعذر امساكه والذي يحتضن هذا الانطباع قائلاً: "تعمق فيَّ من دون ان تقترب مني ومن دون ان تجعلني آتي اليك". هذا هو الفن، هذا هو الفن الوحيد، ان الفن الذي يستحق ان نعبر عنه هو ما انبثق في الاعماق، وفي ما خلا الاشراقات الخاطفة كالبرق واللحظات القليلة المضيئة والباعثة على النشوة، فإن هذه الاعماق تكون غالباً قاثمة...