يتساءل الصحافيون والمحللون السياسيون عن التوقعات من زيارة المبعوث الاميركي انتوني زيني الى فلسطين، وهل هناك أية دلائل على خطة اميركية جديدة تحد من التأزم الذي وصل الى مستوى حرب شعواء تشنها القوات الاسرائيلية على مدن ومخيمات الضفة والقطاع ومخيماتهما في شكل دائم ومستمر. وماذا عن النقد الصريح لسياسة شارون الذي وجهه وزير الخارجية الاميركي كولن باول قبل بضعة أيام في حديث له امام الكونغرس؟ فهل هناك مؤشرات الى ان اميركا، صاحبة القرار، ستتحرك أخيراً نحو حل يبدأ بتهدئة الاوضاع، ويقود الى تسوية سلمية وفقاً للنقاط التي تضمنها خطاب باول في جامعة لويفيل في ولاية كنتاكي قبل نحو خمسة اشهر؟ هذه، الطبع ليست أول زيارة للمبعوث زيني، فهو أوفد الى المنطقة سابقاً ورجع من دون تحقيق أي نجاح ازاء ما دبره شارون من اغتيالات، كان يعرف حتماً انها ستؤدي الى عمليات انتحارية تكرس مقولته المتكررة حينذاك ان لا رجوع الى طاولة المفاوضات من دون وقف العنف. وبالطبع لعبة شارون لم تكن مجهولة من قبل الاميركيين، الا ان مقومات الوضع السياسي الأميركي كانت تقضي استدعاء زيني وانهاء مهمته ريثما يلبي عرفات شروط اميركا واسرائيل. بذلك كانت ادارة بوش تمنح شارون الفرصة لمواصلة "حربه ضد الارهاب" كما تواصل هي "حربها ضد الارهاب" في افغانستان. يرتبط نجاح مهمة زيني بعاملين اساسيين، أحدهما يتعلق بالسياسة الخارجية ورؤية بوش العالمية، والثاني ينجم عن متطلبات الأوضاع الداخلية الاميركية. وكلاهما يعتمد بالتالي على رغبة ومقدرة بوش على الضغط على اسرائيل للانسحاب من المناطق المحتلة في مقابل الاعتراف العربي وتطبيع العلاقات. وذلك بالطبع ليس وارداً سواء بالنسبة الى شارون أو حكومة بديلة، اذ أن كفة القطاع المتطرف في المجتمع السياسي الاسرائيلي أصبحت هي الراجحة، وبالتالي فإن مسألة فلسطين بالنسبة الى الاسرائيليين، اصبحت مسألة سكان فقط، ولم تعد مسألة أرض وحدود وسيادة. فالأرض والسيادة، كما يرونها، أمور حُسمت عن طريق العمليات الاستيطانية ومن خلال ما كان يسمى المفاوضات الديبلوماسية طيلة سنوات أوسلو 1993 - 2000. ويبقى السؤال، هل الضغط الاميركي أمر وارد ومتوقع؟ ولماذا تضغط واشنطن على اسرائيل في هذا الوقت بالذات، وهي تشعر أنها حققت انتصاراً سريعاً في الحرب ضد "الارهاب" في افغانستان من دون الحاجة الى معونات أو تسهيلات من الدول العربية والاسلامية؟ بل ان رجالات البنتاغون لم يتورعوا عن توجيه الإزدراء العلني لموقف باول الذي كان يؤكد ضرورة استخدام الوسائل الديبلوماسية وإرضاء العرب. ولا شك ان الجدل في دوائر صنع القرار حُسم في هذا الوقت لمصلحة دعاة حرب طويلة ليس فيها مكان مرموق للديبلوماسية وعمليات الاستقطاب. والعرب، في نظرهم، لا يشكلون محور قوة، بل محور ضعف وهم بحاجة الى الحماية. وعلى صعيد السياسة الدولية، ترتبط امكانات الضغط الاميركي على اسرائيل بالرؤية العالمية للرئيس بوش، التي لا تختلف بالأساس عن رؤية شارون. وتفترض رؤيتهاالعالمية المشتركة ان الهيمنة العسكرية هي السبيل الأهم للاستقرار الدولي. ويرى بوش وتشيني انهما يعيشان في عالم مهدد من دول "الشر"، وعكس بوش الأب، الذي كان يسمح بدور للديبلوماسية في حروبه الشعواء، فإن بوش الإبن يرجح دور الحروب التي لا يرى لها نهاية أو مخرجاً، وبعكس كلينتون الذي كان ينادي بتوسيع دائرة ما سماه الديموقراطية عن طريق "التجارة الحرة"، فإن الرئيس الحالي يرى دوراً مدعوماً بقيم "اخلاقية" وسماوية لتطهير العالم من ذنوبه وقيمه الهابساوية Hobbesian. فالحرب بالنسبة اليه هي السلام، كما قال جورج اورويل في روايته الشهيرة 1984، اذ تبقى الحرب "حالة دائمة". يؤكد بوش، كما يؤكد شارون، ارساء الهيمنة كأفضل رادع ل"الشر"، الأمر الذي يتطلب ضرورة القضاء على بعض الأنظمة وتحقيق نهايتها وترويض أخرى. ويعتبر الاثنان ان ذلك كفيل بضمان هيمنة مطلقة لا يمكن الطعن فيها، اذ تصبح الصدقية رديفة للانتصار العسكري. ومن البديهي ان مثل هذا التنظير وهذه الممارسة لا يعطي دوراً للشرع والقوانين الدولية لأن ذلك يرمز الى ضعف الموقف وشلل الإرادة، بالتالي هزال الصدقية. جدير بالذكر ان موقف بوش المتحيز الى اسرائيل يشكل حصيلة رؤية عالمية تذكرنا برؤية الرئيس الاميركي السابق ريغان. فبالنسبة الى بوش وريغان، تشكل اسرائيل "رصيداً استراتيجياً" وحليفاً قوياً يشارك في التصدي ل"امبراطورية الشر"، كما وصف ريغان الاتحاد السوفياتي ول"محور الشر" الذي وصفه بوش أخيراً بأنه يحتوي على العراق وايران وكوريا الشمالية. وبالتالي، فإن كلاً من بوش وشارون يرى أنه يقود حملة صليبية ضد الارهاب ودفاعاً عن النفس. ان ذلك التقارب الفكري والاستراتيجي والسلوكي لن يسمح لبوش الإبن بارتكاب خطأ والده قبل عشر سنوات، حينما تحدى اللوبي الليهودي، لذلك لن يضغط على حليفه الاستراتيجي، خصوصاً من دون مبرر. ويعزز هذا الموقف العامل الثاني الذي ذكرناه وهو عامل السياسة الداخلية. فعلى رغم كون الرئيس بوش غير مدين للأصوات والأموال اليهودية التي تدفقت على منافسه في الانتخابات الرئاسية، البرت غور، الا ان هناك تطورات مهمة تجري على الصعيد السياسي الداخلي. وهي تشكل اكتمالاً لما يجري داخل الجالية اليهودية منذ الثمانينات، حيث لم يعد الموقف الليبرالي عنواناً سياسياً لهذه الجالية، على رغم ان الحزب الديموقراطي ما زال يعتبر بيتها الرئيسي. فالجالية اليهودية أصبحت تتمتع بثراء مذهل ونفوذ قوي في الأوساط الحساسة للتأثير على الرأي العام وصنع القرار، مثل الصحافة وادارة الأموال والجامعات وهوليوود والكونغرس. ولا شك في ان تغييرات اقتصادية وسوسيولوجية أدت الى اندماج اليهود في المجتمع الاميركي، وانعكست سياسياً، اذ بدأت الجالية اليهودية تتجه تدريجاً الى اليمين السياسي وبدأت نسبة تصويتها للحزب الجمهوري تزداد في شكل محلوظ. ان ما يحدث الآن على الصعيد الداخلي هو قيام الحزب الجمهوري الحاكم بالمطالبة في حقه في الكعكة اليهودية. تأتي هذه المحاولة في أعقاب فشل محاولة مثيلة مع الجالية الافريقية - الاميركية السود. وينظر الحزب الجمهوري الى انتخابات الكونغرس هذه السنة كمختبر لتجربة سياسية ربما تقرر استراتيجية الحزب وتركيبته المستقبلية. وهذا التوجه الى الجالية اليهودية يفسر تردد أعضاء الكونغرس الجمهوريين في شكل مضطرد على محطات التلفزيون المحافظة ذات التوجه اليميني، امثال محطة "فوكس" وغيرها لدعم المواقف الاسرائيلية والربط بين حرب اميركا "ضد الارهاب" وحرب شارون ضد المدنيين في فلسطين. وإذا اعتبرنا أثر هذه التطورات على صعيدي السياسة الخارجية والداخلية لادارة بوش، لرأينا ان امكانات الضغط على اسرائيل لانجاح مهمة زيني والتوصل الى تسوية سلمية معقولة هي بالفعل محدودة، بل ربما ليست واردة، فيما ستحاول ادارة بوش الحد من تطور مواقف عربية جدية اثناء مؤتمر القمة العربي المقبل. * استاذ العلوم السياسية في جامعة دارتموث - ماساشوستس.