تبدو قصائد راسم المدهون في مجموعته الجديدة "حيث الظهيرة في برجها" دار المدى للثقافة والنشر - دمشق، الطبعة الأولى 2002 قصائد عمودية على نثريتها. فهي لا تزال مشدودة الى ايقاع موسيقي من حيث القفلة التي تنتهي بها المقاطع من جهة، ومن حيث بناء الجملة من جهة أخرى، ثمة غنائية تقدّم نفسها معنى وشكلاً في النص، غنائية العواطف النبيلة تجاه الأرض والإنسان، وغنائية الجملة غير المركبة وكأنَّ القصيدة تخرج دفعة واحدة من فم الشاعر، في هذا المعنى، فإنَّ تفعيلة المدهون تنتمي الى جيل الرواد أكثر من انتمائها الى التفعيلات الحديثة، فهي تقوم أساساً على الموسيقى والموازنات الايقاعية في حين يذهب معظم شعراء التفعيلة الى كسرها أو تدويرها مثلما فعل ادونيس في معظم كتاباته أو كما فعل محمود درويش بعد "أحد عشر كوكباً". وتفعيلة كهذه تبدو أمنية للمعنى الأولي الذي يخطر في بال الشاعر، إذ لا وقت للتأمل ولا للشرح ولا لبناء أساليب متعددة في قصائد المجموعة. فهي قصائد تشبه اللهاث الذي يخرج متقطعاً، حاراً وعشوائياً: "في أعالي الغياب/ أنتِ.../ لا تذهبين/ ولا ترجعين/ ثمة الوقت/ يقضم أظفاره/ في ساعات الغجر". وفي مكان آخر، تظهر الجمل متلاصقة تتناسل بعضها من بعض مثل كرة صوفية في مغزل آلي: "وتمنحهم ضوءها/ إذ تمرُّ خطاهم/ وراء الطريق/ قتيلاً... قتيلاً/ عند ذاك الطريق/ سأغفو قليلاً/ وأبكي قليلاً/ وأذكر ان حجارة ذاك الطريق/ طفولتنا/ والزمان الجميلا...". قصيدة راسم المدهون قصيدة الموضوع قبل أي شيء آخر. والموضوع هنا غالباً ما يكون قضية. المنفى والأرض والإنسان والوطن والشهداء والجنود والاحتلال... هذه هي المحاور الشعرية التي تدور حولها المجموعة، وهذا الأمر لا يعني ان هناك محاولة لإقصاء الشاعر ذاته من القصيدة. الذات حاضرة هنا عبر علاقتها بهذه القضايا مجتمعة. وربما كان الشاعر يتوسل مواضيعه للحديث عن ذاته. فالألم العام، ألم الجماعة، لا معنى له إلا إذا كانت مدعاته مسألة شخصية. وعليه تغدو الذات المفردة صورة مصغّرة عن الذات الجماعية وهذا ما يبرر حضورها. شأن معظم الشعراء الفلسطينيين يشكّل المنفى هاجساً حياتياً وأدبياً لدى راسم المدهون. المنفى في القصيدة هو المكان الطارئ والموقت حيناً وربما الوطن البديل حيناً آخر. من هذه الزاوية فإنَّ قصيدة المدهون تحاول اقامة حوار مع المكان بصفته كائناً يتنفس ويتكلم ويحس ويرى ويسمع. ولغة المنفى هذه لها فعل دائماً فعل الغياب. فمع الوطن الغائب تغيب أشياء كثيرة، لذلك يتحدث الشاعر مع بيت ينتمي الى الماضي في قصيدة "بيت"، ويحيل أحلامه الى مستقبل غامض، أو يوجّه كلامه الى "لا أحد" في قصيدة "وهم"، ويرى "الأشباح في المرآة" في قصيدة "هاجس"، ويسير على طرقات غير موجودة في قصيدة "جموح". "حيث الظهيرة في برجها" هي المجموعة الرابعة للشاعر بعد "عصافير من الورد" و"دفتر البحر" و"ما لم تقله الذاكرة". وفيها يبدو اسم المدهون صاحب صوت خافت على رغم الايقاع الموسيقي الذي يسم قصيدته، فهي على الأقل، موسيقى بعزف منفرد وصوت أعزل لم يرافقه كورس من المنشدين.