بعد بضعة أشهر من خروجه من السجن الذي أمضى فيه قرابة 14 عاماً يلتقي الشاعر فرج بيرقدار جمهوراً سورياً كان قرأ قصائده في مرحلة ما قبل السجن وقصائده التي كتبها في السجن وجمعها اصدقاؤه في غيابه، والأمسية الشعرية التي يحييها مساء غد الجمعة في "المعهد الفرنسي" في دمشق هي إطلالته الأولى على قرائه. فهو منذ أن أخرج من السجن يعيش في شبه عزلة بعيداً من صخب العاصمة في حمص مدينته الأولى. وكان فرج بيرقدار أُدخل السجن في العام 1987 وخرج في آخر العام 2000. ونُقل من سجن الى آخر حتى استقر في سجن صيدنايا. غداً مساء يتنفس فرج بيرقدار هواء الشعر ممزوجاً بهواء الحرية قارئاً مختارات من شعره الذي بات ينقسم الى مرحلتين: مرحلة ما قبل السجن ومرحلة السجن. تزدحم الساحة الشعرية السورية بأسماء وتجارب جديدة منذ الستينات الماضية، وتأخذ هذه التجارب شكل الموجات المتوالية، أو الأجيال الشعرية المختلفة بين عقد من الزمن وآخر. وقد لا نجد خصوصية واضحة ومحددة لكل جيل، أو لكل تجربة، دائماً. الا اننا نستطيع ان نقرأ كل تجربة شعرية بذاتها، بعيداً عن الأفكار أو الأحكام المسبقة. فرج بيرقدار أحد الأسماء اللامعة في جيل السبعينات يكتب القصيدة الطويلة المفتوحة على فضاءات واسعة من الصور والمشاعر، ويكتب القصيدة - البرقية القصيرة المكثفة، منتقلاً من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر بسهولة الانتقال من الحلم الى اليقظة. نشر فرج بيرقدار في عام 1979 مجموعته الشعرية الأولى "وما أنت وحدك"، ونشر عام 1980 قصيدة مطولة بعنوان "جلسرخي - رقصة جديدة في ساحة القلب"، ثم نشر مجموعته الشعرية الثالثة "حمامة مطلقة الجناحين"، وفي جعبته مزيد من القصائد الجديدة التي تنتظر النشر لتأخذ مكانها بجدارة في الساحة الشعرية السورية الحديثة. يعيش فرج بيرقدار في حمص بعيداً عن أضواء العاصمة ويحيي غداً الجمعة الأمسية الشعرية الأولى له بعد خروجه من السجن. والأمسية في الثانية مساء، في "المعهد الفرنسي للدراسات العربية". وفي زيارة خاطفة له الى دمشق، كان هذا الحوار: اذا قلنا أن الشعر يعيش معنا، في حياتنا اليومية، ولكننا لا نكتشفه بسهولة، فهل تتذكر الحالة التي اكتشفت فيها حاجتك الى الشعر، أو موهبتك كشاعر؟ - منذ طفولتي كنت أميل الى الاعتقاد بأن العالم غير نظيف وغير مرتب. وكنت أشعر بأن من واجبي أن أعيد صياغته في داخلي، حتى يغدو: أكثر ترتيباً وعدلاً وجمالاً. وهكذا لجأت في طفولتي الى الرسم. ماذا كنت ترسم؟ - أكثر ما كان يشدني في الرسم هو الطيور، وأحياناً أرسم الأجنحة وحدها. إلا ان الوضع المادي للأسرة لم يتح لي شراء الألوان، فتحولت الى كتابة الشعر، لأنه لا يحتاج الى أكثر من ورق وأقلام. واكتشفت في ما بعد ان هذا التحول خيار أكثر انسجاماً. وربما اكثر اصالة. ذلك ان جدي وأمي كانا يقولان الشعر باللهجة المحكية الأقرب الى البدوية. هل كان الرسم، أو في ما بعد، كتابة الشعر عن الطيور والأجنحة يعني لك شيئاً من تغيير العالم؟ - بدأت أدرك الفرق في دلالات لفظة "العالم". في البداية كان العالم يعني قريتي، كجغرافيا وبشر. ثم أصبح المدينة، فالوطن، فالكرة الأرضية. وكنت أراهن على قدرة الشعر - كل الشعر في العالم - على التغيير في الروح والعقل والذوق والضبط الايقاعي للحياة. وكان رهاني، في ما لو أخفقت، على تغيير العالم في داخلي على الأقل. وكان هذا، ولا يزال، يكفيني. اذا كان الشعر فعلاً ابداعياً، أو فعل حياة، فهل استطاع ان يصوغ لك علاقة خاصة بالحياة؟ - أعتقد ان الشعر هو في الصدق مع النفس والجرأة على مواجهة السائد، وعدم التنازل عن "حريتي الداخلية". وهذا ما نظم حياتي على هذا النصل الفاجع حتى الآن. تتكرر في قصائدك صورة الحمامة، أو صوتها - الهديل - فهل يعني هذا نوعاً من الحنين الى شيء ما؟ - قد تبدو لفظة "الحمام" ودلالته حالة شعرية بذاتها، ولهذا تناولها كثيرون، حتى لو لم يكن لديهم معرفة بالحمام. أما بالنسبة اليَّ فالحمام لفظاً ومعنى يعيدني الى أكثر ذكريات طفولتي حزناً وفرحاً، وتساؤلاً. ثمة ابراج كثيرة للحمام في بيوت أخوالي، وكانت خالتي تحتفي بي عندما أزورها، بذبح فرخ من الحمام. وكان هذا يؤلمني كثيراً، ولم أجد سبيلاً الى اعلان ضيقي من الأمر، وكنت أكتفي بالصعود الى ابراج الحمام والاعتذار الى الزغاليل بطريقتي الطفولية. ومن حينها صار الهديل يعني لي موسيقى الحزن لتراجيديا وجودية لا مفر منها. يبدو في شعرك الانتقال من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر مألوفاً، فهل هناك أسباب واضحة تحدد هذا الخيار أو ذاك؟ - يبدو لي هذا السؤال متعدد الوجوه. فمن حيث الهواجس الشعرية تغير الأمر كثيراً، ذلك أنني صرت أكثر حرية في التعامل مع نفسي ومع المحيط، ولم يعد لديّ محرمات. كما ان ثقتي بدور الشعر أصبحت أعلى وأقوى، فأنا استطيع بالشعر ما لا استطيعه بغيره، بدءاً من التحالف مع الحياة وانتهاءً بمواجهة الموت. أصبح الشعر عندي حرية قصوى، امرأة قصوى، واذا شئت غزالة الغزالات. أما على صعيد اللغة فأشعر انها أصبحت أكثر تشظياً، وإن كانت لا تزال تحمل السمات الأولى. وقد يكون التحول الأهم هو ما جرى على صعيد الموسيقى، إذ بدأت شاعراً عمودياً، ثم انتقلت الى شعر التفعيلة، ثم الشعر الحر، أو ما يسمى خطأ، شعر النثر. أكتب الآن في الأشكال الثلاثة، وما يحدد شكل القصيدة هو موضوعها، أو مناخها، أو طبيعة ولادتها في داخلي، فالقصيدة تبدأ في داخلي وليس عليَّ إلا نزفها. اذا قلنا ان لكل شاعر مفاصل واضحة أو خفية في تجربته الشعرية، فما هي المؤثرات اللاحقة التي طرأت على تجربتك الشعرية؟ - على صعيد الأسماء الشعرية، ثمة شاعران: المتنبي ومحمود درويش، أما على صعيد الحياة فهناك نقيضان: المرأة أو الحب من جهة، والأسر أو الحرية من جهة أخرى. تحمل كل قصيدة ايقاعها الخاص، نشيجاً عالياً، أو همساً، أو بوحاً صامتاً، فمن أين تأخذ قصيدتك ايقاعها عادة؟ - ما يحدد ايقاع القصيدة لدي حالات مختلفة: طريقتي في المشي، مثلاً، أو شهيقي وزفيري، أو تواتر وقع السياط وهي تشخط الهواء والروح، وأحياناً تقصف البروق في داخلي أو كما أسمعه، أو أتخيله في الخارج، أو عصفور يبني أفقاً على النافذة الأخرى ويطير. يرى بعض الدارسين والنقاد أن حركة الشعر الحديث، سورياً وعربياً، انحسرت، أو توقفت عند مستويات محددة من التجديد والتطور، فكيف ترى هذا المشهد من زاويتك الخاصة، كشاعر أو قارئ؟ - للأسف، لم تتح لي الظروف في هذه الفترة أن أكون مطلاً على المشهد الشعري السوري، أو العربي. ومع ذلك فإن اطلاعاتي القليلة تسمح لي بالاعتقاد أن الشعر العربي الراهن شهد فتوحات فنية هامة، على رغم تراجع وتيرة حضوره وانتشاره، لأسباب متعددة، لسنا في مجال تحديدها ووصفها الآن. يقترب الشعر، أو يبتعد عن حركة الحياة اليومية، فكيف ترى انعكاسات حياتك اليومية على شعرك؟ - الشعر عندي هو محاولة دائمة لكتابة الشيء الأخير، ولأنه ليس هناك شيء أخير، فإن الشعر لا يتوقف، ولا يهد أو لا يصل، وبالتالي، لا يموت. يقترب الشعر من لذة السقوط في هاوية لا قرار لها، أو من آلام الصعود الى ما استطاع سيزيف والمسيح ان يقارباه بأصالة نادرة. من هنا، أليست الحياة هي الشعر، والشعر هو الحياة، كما ينبغي لهما ان يكونا، وتكون نحن أيضاً؟ في ديوانك الأخير، الثالث، "حمامة مطلقة الجناحين" قصائد تنتمي الى الفترة بين 1987 الى 1993، فهل قصائدك في السنوات اللاحقة استمرار لهذا الخط الشعري؟ - لا أعتقد ذلك، فهذه المجموعة كانت بمثابة تمارين أولية لجلي صدأ القلم والروح. بعد انقطاعي عن كتابة الشعر نحو ست سنوات، وهكذا فإن ما كتبته لاحقاً كان ينطوي على قدر ليس قليلاً من التجريب والمغامرة، فنياً ولغوياً، موزوناً وحراً، وضوحاً وغموضاً. كيف تفهم علاقة الغموض بالحداثة الشعرية؟ - لا أعرف ماذا تعنيه الحداثة، ولا يعنيني ذلك، ما يهمني هو رؤيتي الشخصية للغموض. الغيب غامض، والغياب غامض، وأنا غالباً ما أضبط نفسي متلبساً بغموض لا أرغب في كشفه، فاذا ما انكشف عليَّ أو على غيري رحت أبحث عن ما هو أكثر غموضاً، فلا شيء يوضح شيئاً اذا لم يكنه، وما من كلام سواء. قد تبدو القصيدة أحياناً محاصرة بقيود اللغة، فهل تشعر احياناً ان اللغة عاجزة عن نقل المشاعر والصور التي تريد ان ترسمها أو تعيشها، أو تنقلها الى الآخرين؟ - ما أكثر ما ترواغ القصيدة. غير ان حاجتي اليها كحاجة الرمل الى السراب، وما من خيار آخر. فإما أن تكتب القصيدة فتدميها، وإما ان تتركها خرساء فتدميك. وأنا أشعر ان اللغة عاجزة عموماً، وربما خائنة، ولكن الصمت في ظروفي الخاصة كان يعني خيانة أخرى. تبدو علاقتك بالمكان متينة في شعرك، هل يمكن تحديد الأمكنة التي تستفزك بالمعنى الشعري؟ - حين يتسرب الزمان وابنه الزمن من بين أصابعك كالرمل أو المهل، يبدو المكان، على بؤسه، ملجأً أو حصناً، حنيناً أو ذاكرة، ولعل المنفى والسجن، على تضادهما الظاهري، هما المكانان الأكثر حضوراً واستفزازاً لي بالمعنى الشعري، وثمة أماكن اخرى أحن اليها، ويؤسفني ان بلادي ليست منها.