بالنسبة الى الكثر، ربما يكون جيوزيبي دي لامبيدوزا، أشهر كاتب ايطالي على الاطلاق. ومع هذا جرب أن تعثر على أعماله الكاملة وعلى روايات أخرى تتصورها له، عدا روايته التي صنعت شهرته "الفهد" فلن تجد. وجرب ان تبحث عن مقالة عنه في الموسوعات العالمية فلن تجد. وإذا كان يخيل الى الكثر ان هذا الكاتب الارستقراطي هو من أبناء القرن التاسع عشر، من المستحيل ان تجد كلمة عنه في كل أدبيات وتواريخ ودراسات ذلك القرن. وذلك لأن دي لامبيدوزا: أولاً، لم يكتب أية رواية اخرى عدا "الفهد" حيث ان هذه، الى ثلاثة أو أربعة نصوص معتبرة أخرى معظمها "مسودّة" أولى ل"الفهد" هي التي تشكل "أعماله الكاملة"" ثانياً، بالكاد ينظر اليه مؤرخو الادب العالمي على انه كاتب حقيقي، يستحق أن يذكر في الموسوعات" وثالثاً وأخيراً، ليس دي لامبيدوزا من أبناء القرن التاسع عشر، على رغم ان أحداث "الفهد" تدور في ذلك القرن، بل تؤرخ ذهنيته في شكل لم يتمكن أي عمل آخر من فعله، دي لامبيدوزا هو من أبناء القرن العشرين. فهو مات في العام 1957. وهو لم يكتب رائعته "الفهد" إلا قبل شهور قليلة من رحيله، ويبدو لأسباب تتعلق بذلك الرحيل. ومن هنا القول إن العلاقة بين القارئ، وهذا الكاتب تنطلق أصلاً من ضروب عدة من سوء التفاهم. غير ان هذا كله ليس صدفة. ذلك ان جيوزيبي دي لامبيدوزا، لم يكن أديباً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. كان بالاحرى ثرياً مثقفاً يرصد بغضب ومرارة أحوال بلاده، ويعتبر ان لحظات التقدم التي صنعت هذه البلاد، معبراً عنه بما يسمى في ايطاليا "ريزورجيمنتو" البعث، وما رافقه من توحيد وتنحية للكنيسة - ولو جزئي - وللارستقراطية التي راحت تحل محلها بورجوازية "مركانتيلية مبتذلة" بحسب اعتقاده، كل هذا نسف روح بلاده وأعطاها طابعاً عادياً لا يتلاءم مع عظمة تاريخها. هل يعني هذا ان دي لامبيدوزا كان رجعياً؟ الى حد ما، أجل. ولكن ليس بمعنى أنه كان يود ان تعود عقارب الساعة الى الوراء، بل بمعنى انه كان يحن الى عصور كانت الروح تتطغى على المادة، وكان فيها للثقافة دور في حياة الشعب، وكان الاشعاع الفكري من صنع طبقات نبيلة. غير أن هذا كله لم يمنعه من ان يقر أن أحداً لا يمكنه أن يوقف التقدم. فهو، المعجب ببروبسبيار الثورة الفرنسية أكثر من إعجابه بلويس السادس عشر. كان يرى ان ايماننا بالتقدم، لا يجب ان يمنعنا من الحنين الى العصور التي سبقته. ومن أجل التعبير عن هذا، بالتحديد، كتب دي لامبيدوزا، في آخر أيامه وهو على شفا الموت، تلك الرواية الوحيدة في مساره. ومن الأمور ذات الدلالة ان تكون فكرة كتابة "الفهد" قد واتت هذا الرجل النبيل منذ العام 1943، حين اغضبه وادهشه ان يرى الطائرات العسكرية الاميركية، تهاجم قصره وقصر أهله الارستقراطيين وتدمره بقذائفها. لقد وقف دي لامبيدوزا يومها يتساءل: هل تدمير مثل هذا القصر هو الثمن الذي يجب ان يدفع من اجل الوصول الى التقدم؟ طبعاً، مثل هذا السؤال قد يبدو لنا هنا تبسيطياً، لكن في إطاره يومذاك، بالنسبة الى صاحب ذهنية حضارية مرهفة مثل ابن نبلاء آل لامبيدوزا، كان سؤالاً أساسياً، محيراً. وهذه الحيرة هي بالتحديد، ما يجعل الرجل وروايته ينتميان الى القرن التاسع عشر. لا الى النصف الثاني من القرن العشرين. ففي القرن التاسع عشر حين راحت الحضارة الآتية بثورتها الصناعية والطبقة الوسطى الصانعة لها وأخلاقيات الشارع وتراجع الفكر الجمالي، وقف الكثير من المفكرين والفلاسفة، والفنانين والادباء حائرين: نعم انهم مع التقدم ومع عدالة في توزيع الانتاج، ومع حصول الناس على فرص متكافئة، ولكن هل ينبغي حقاً ان ندمّر في سبيل ذلك كل ما هو جميل؟ والحال ان هذا السؤال، مطروحاً في رواية أخاذة مثل "الفهد"، كان هو ما جعل مخرجاً سينمائياً كبيراً، مثل لوكينو فيسكونتي يقبل على هذه الرواية ليحولها الى فيلم، هو الأفضل بين أفلامه، ولعله الأجمل بين كل ما أنتجته السينما الايطالية في تاريخها. فأسئلة دي لامبيدوزا كانت هي هي اسئلة فيسكونتي الحائر بين التقدم والجمود، بين صعود الطبقة البورجوازية وأفول الأرستقراطية. ذلك ان اللحظة التي تصفها رواية "الفهد" هي بالتحديد اللحظة الفصلية بين أفول هذه وصعود تلك. تدور أحداث الرواية، التي نشرت في طبعتها الأولى بعد شهور من موت كاتبها، حوالى العام 1860 أي في الوقت الذي كان فيه غاريبالدي موحد ايطاليا وجنوده من "اصحاب القمصان الحمر" ينزلون في جزيرة صقلية، لكي يقلبوا ملكية آل بوربون الحاكمين انطلاقاً من نابولي، والنظام القديم كله. وقبل ذلك بعام كان التدخل الفرنسي مناصرة لمملكة بيمونتي في الشمال، قد أرغم النمسويين المحتلين على الانسحاب من أجزاء كثيرة من وسط ايطاليا وشمالها. وهذه الاحداث الكبيرة والانعطافية في تاريخ ايطاليا الحديث تقدم إلينا هنا من خلال أسرة النبلاء بزعامة الأمير سالينا، تلك الاسرة التي تمثل هنا الطبقة الاقطاعية التي كانت تسيطر على مثل تلك المناطق في ايطاليا، مكونة بأخلاقياتها وثقافاتها جوهر "العالم القديم" الذي يأتي الآن انصار غاريبالدي لتدميره، ولينشئوا على أنقاضه عالماً جديداً. واذ تصور لنا هذه الرواية، في شكل جيد، خيانة القادمين الجدد لروح البعث، تقدم لنا من خلال ذلك التناحر الذي تصوره بين الامير سالينا، القابع في قصره الفخم محاطاً بآله وانصاره يراقب حزيناً، ما يحدث، وبين تانكريدو الشاب، ابن اخيه الذي كان تحمس في شكل مفرط لاصحاب القمصان الحمر وحارب معهم قبل ان يورده ذلك موارد الإفلاس، فينضم الى الجيش البسمونتي الشمالي، مندمجاً في العالم الجديد ونظامه. وتعبيراً عن هذا، ها هو تانكريدو يستعد للاقتران بآنجيليكا، الثرية التي لا تاريخ لها، فهي ليست، في الاصل، أكثر من ابنة لفلاح جعلته الظروف الجديدة ثرياً. وتانكريدو في سبيل هذه الزيجة التي تجمع، رمزياً، بين الارستقراطية الهابطة وبورجوازية الأثرياء الجدد الصاعدة يتخلى عن مشروع قديم لزواجه من كونتشيتا، ابنة الامير سالينا التي ترمز، مثل أبيها الى الماضي، الى المجتمع الذي يحتضر الآن. ومن أجل التعبير عن هذا كله، يشكّل حفل راقص هو حفل يهيئ لاحتفالات زواج تانكزيدو من انجيليكا مركز الثقل في الرواية وهو في فيلم فيسكونتي يستغرق 45 دقيقة هي ثلث مدة الفيلم. فهذا الاحتفال إنما هو التعبير الأوفى عن ولادة العالم الجديد: فدون كاليجورو، والد انجيليكا، المزارع الذي أثرته الظروف الجديدة، يدعى بدوره بالطبع، الى المشاركة في حفل يقام في قصر، ما كان ابناء جلدته يحلمون بدخوله سوى خدم في الماضي. أما الآن فانه موضع تكريم، ولا يهم هنا ان يقوم الكولونيل بالافنشينو، بالتحدث امام الارستقراطيين المحتفلين وضيوفهم، عن الطريقة التي تمكن بها من وقف زحف الغاريبالديين. فالمهم ليس هنا، المهم هو تصوير الرواية للزمن الذي يمر مسرعاً، وللشيخوخة التي تدب في أوصال طبقة بأسرها. ولسنا في حاجة الى القول هنا كيف ان دي لامبيدوزا، في الرواية، وفيسكونتي في الفيلم، يتعاطفان مع الأمير سالينا، الذي يرقب هادئاً، مرور الزمن وسقوط طبقته وقيمها ومجيء عالم جديد هو عالم التقدم بكل ما لديه من ابتذال. اذا كان من السهل التوقف عند هذه الرواية وادراك الاسباب التي تجعل لها كل هذه الشعبية، اذ تقرأ حتى - وبخاصة - من قبل الفئات التي تدينها، غارقة في حنين مستحيل الى ماض من الذهب، فان لمن الصعب بمكان، رسم تاريخ أدنى لكاتبها. فقط نذكر ان روايته تطبع وتترجم باستمرار. وأنها رواية تنطلق من الحنين الى مكان وعالم قديمين. وهي - كما أشرنا - رواية دي لامبيدوزا الوحيدة. له غيرها نصوص قصيرة، أما بالنسبة الى فيسكونتي، فان النقاد يرون ان فيلمه عن "الفهد" هو أكثر أفلامه ذاتية لأنه هنا، اذ جعل الأمير ناطقاً باسمه، صوره لنا وهو يعيش تناقضات طبقة بأسرها محكومة بالزوال، وهي تشهد صعود طبقة أخرى لا تحاول ان تخفي تفاهتها الفكرية. ونعرف ان هذا هو الموضوع الأساس في سينما فيسكونتي كلها، تلك السينما التي سعت دائماً الى القول إن "الجديد التافه" اذا كان ولد حقاً، فان ولادته إنما أتت من رحم "القديم المزدهي".