سواء كان الأمر خياراً مدروساً أو صدفة، فإنه كان درساً رائعاً في فن السياسة وانتقال السلطة عبر الثورات بثته «آر تي» المحطة الفرنسية-الألمانية الاربعاء. جاءت أحداث فيلم «الفهد» للمخرج الإيطالي الكبير لوكينو فيسكونتي، الذي حققه عام 1963 ونال عنه السعفة الذهبية في مهرجان كان، كمحاولة لإدراك ميكانيكية الثورات والتحالفات التي تفرضها تلك بين سلطة غاربة وأخرى صاعدة. أحداث الشريط، المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته لدي لامبيدوسا، تدور في سيسيليا القرن التاسع عشر (1860) حين هبط جيش غاريبالدي في مارسالا لإلحاق مملكة البوربون بإيطاليا الشمالية. الأمير سالينا يترك مقاطعته مع عائلته إلى قصره الصيفي من دون أن يخفى عليه أن أيام حكم إقطاعيته ولَّت. لقد برزت الطبقة البورجوازية التجارية التي تريد أن تحل محل طبقة النبلاء. والأمير، على رغم النظرة الفوقية التي يرمي بها الوافدين الجدد، يدرك سريعاً أن ثمة تبادلاً للمصالح يجب أن يتم، وأن السبيل الأمثل لضمان الحفاظ على نمط عيشهم وما تبقى لهم من سلطة، سيكون عبر زواج ابن أخيه من ابنة المحافظ الغني المنتمي للطبقة الصاعدة. إنه يؤمن -وفق قوله الذي بات مرجعاً ومن المقولات الشهيرة-، أن «كل شيء يجب ان يتغير كي يبقى كل شيء على حاله»، وأن الثورات لا تحرر الشعوب من السيطرة بل تضعها تحت سلطة أخرى مختلفة. إنهم «الفهود والأسود» ومن بعدهم سيأتي «أبناء آوى والضباع»، لكن الجميع سيظنون أنه «ملح هذه الأرض». أما المحافظ دون كالوغيرو، فهو يدرك، على رغم ضيق أفقه والاحتقار الذي يقابله به الأمير، أن سلطته الجديدة ستبقى ناقصة من دون الاعتبار الذي سيزوده به زواج ابنته من النبيل. لا يعتبر عمل فيسكونتي هذا عملاً فنياً رائعاً بلغته السينمائية الفذة فحسب، بل بمضمونه الغني الذي يقدم معالجة معمقة لآلية انتقال السلطة عموماً، وليس فقط بين ارستقراطية رفيعة في سبيلها إلى الزوال بسبب عطالتها وبين بورجوازية جاهلة صاعدة باتت تمسك بالسلطة الفعلية سلطة المال، ولكن من دون ان تتمتع بحظوة العائلات الكبرى ونفوذها الرمزي. فيلم يوضح حتمية الثورات وأهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية لها والتي غالبا ما تختفي خلف المطالب السياسية، كما يبين المناورات والتحالفات التي يلجأ إليها السابقون واللاحقون والكيفية التي يتم عبرها صعود طبقات مستفيدة من الثورة. في السياق العربي الحالي، نتمنى لو وجدت محطة عربية واحدة تقدم هذا الفيلم المميز او أفلاماً على شاكلته.