المواقف التي يعلنها تباعاً بعض الكتّاب العالميين الكبار ضدّ المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في فلسطين تلقى صداها المفترض في بعض العواصم العالمية. وعقب بيان الاستنكار الذي وقّعه المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس والإسباني خوان غويتسولو والحملات التي قام بها الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والألماني غونتر غراس والبريطاني توم بولين، ها هو "البرلمان العالمي للكتّاب" يباشر تحرّكه انطلاقاً من باريس مساندةً للشعب الفلسطيني في مواجهته اليومية للآلة الإسرائيلية العسكرية. والبرلمان هذا، الذي يترأسه الآن الكاتب الأميركي راسل بانكز، لن يكتفي بإصدار بيان استنكار ضد سياسة آرييل شارون الدموية، بل يعمل على إحياء لقاء عالمي في مدينة رام الله ساعياً الى كسر "حال الحصار" التي عبّر عنها الشاعر محمود درويش في قصيدة تحمل العنوان نفسه "حالة حصار" وصدرت في العدد الجديد من "الكرمل". واللقاء الذي يشارك في تنظيمه محمود درويش ايضاً سيضم ادباء ومفكرين من العالم اجمع علاوة على الأدباء العرب الذين تسمح لهم انظمتهم بالتوجه الى الأراضي الفلسطينية. حتى الآن وافق على المشاركة كاتبان اثنان من الحائزين جائزة نوبل وهما البرتغالي جوزيه ساراماغو والنيجيري وول شوينكا، اضافة الى جاك دريدا فيلسوف "التفكيك" الفرنسي الجزائري الأصل والأميركيين نعوم تشومسكي ونورمان فنكلشتاين... واللائحة ستطول حتماً وستشمل اسماء كثيرة. غير ان الوضع الأمني في رام الله قد يحول دون مشاركة البعض، خصوصاً إذا انفجر او ازداد تردّياً. ولعلّ اللقاء المزمع عقده في الأيام الأخيرة من الشهر المقبل سيكون بمثابة تظاهرة عالمية تندد، انطلاقاً من الأراضي الفلسطينية نفسها، بما يرتكب الجيش الإسرائيلي من جرائم يومية باتت تفوق الوصف والتصوّر. غير ان اللافت في مثل هذا التحرك هو كسر الهيمنة الإسرائيلية على "الجبهة" الثقافية العالمية، وهي كثيراً ما حاصرت بعض الآراء المعارضة للسياسة الإسرائيلية والمؤيدة للقضية الفلسطينية. فالكتّاب العالميون الذين ناصروا الفلسطينيين علانية في السابق كانوا قلة قليلة وهم سرعان ما اتهموا بنزعتهم اللاسامية. الآن لم يعد الكتّاب العالميون يخشون تلك التهمة خصوصاً بعدما تمادى شارون في جرائمه ليصبح اشبه ب"هتلر" صغير، وباتوا يعارضون السياسة الإسرائيلية جهاراً متهمين الإدارة الإسرائيلية بالإرهاب والعنصرية والبغضاء. كم كان ماركيز جريئاً حين سعى الى التبرّؤ من جائزة نوبل بعدما منحت الى مناحيم بيغن "تكريماً لسياسته الإجرامية" كما عبرّ في احد مقالاته، ولم ينثنِ عن وصف شارون ب"التلميذ النجيب" الذي فاق أستاذه بيغن إجراماً ودموية. وحيّا ماركيز "الشعب الفلسطيني البطل" الذي "يقاوم الإبادة" آخذاً على القوى العالمية لا مبالاتها بما يحصل وعلى المثقفين العالميين وبعض العرب جبنهم حيال المأساة المتواصلة. أما غونتر غراس فكان جريئاً في اتهام إسرائيل ب"ارتكاب أفعال اجرامية" في فلسطين، ودعا الدولة الإسرائيلية في حوار نشرته مجلة "فكر وفن" الى ضرورة العودة الى اتفاق اوسلو وإلى الانسحاب من المناطق الفلسطينيةالمحتلة وإلى اخلاء المستوطنات الإسرائيلية التي بنيت في "طريقة اجرامية". واتهم غراس شارون ب"سلوكه الإجرامي" سواء في اجتياحه لبنان ام في "زيارته الاستفزازية للحرم الشريف" التي أشعلت شرارة الفتنة الأخيرة. اما مواقف الكتّاب الآخرين من امثال فوينتس وغويتسولو وتوم بولين ونعوم تشومسكي وسواهم فهي لم تخلُ من إدانة الجرائم الإسرائيلية والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني. قد تكون بادرة "البرلمان العالمي للكتّاب" خطوة ثقافية سبّاقة في مجال التضامن مع الشعب الفلسطيني. فاللقاء الذي دعت إليه سيتم في الأراضي الفلسطينية المحاصرة، والبيان الذي سيصدر في ختام اللقاء لن يكون مجرد بيان يوزّع في العواصم المتباعدة بل سينمّ عن موقف جريء يواجه مسبقاً الأكاذيب والذرائع والتهم الإسرائيلية الجاهزة وفي طليعتها تهمة اللاسامية، هذه التهمة الباطلة التي لم تعد تقنع الكثير من المثقفين الإسرائيليين انفسهم ولا سيما في مرحلة الحكم الشاروني. إنها مبادرة نزيهة حقاً يقوم بها هذا "البرلمان العالمي للكتّاب" الذي ما برح يناصر بدءاً من تأسيسه في العام 1993 معظم القضايا الإنسانية التي يحفل بها العالم داعماً الكتّاب والمثقفين المأسورين والمضطهدين والمنفيين. وعمد البرلمان اخيراً الى تأسيس "المدن - الملاجئ" وهي عبارة عن منازل او دور موزعة في عواصم ومدن مختلفة تستقبل الكتّاب المنفيين وتوفر لهم ما يحتاجون إليه ليحيوا حياة كريمة. تُرى هل ستسعى الدولة الإسرائيلية الى الحؤول دون عقد اللقاء الشهر المقبل في رام الله المحاصرة؟ قد لا يكون من المستهجن طرح هذا السؤال في مرحلة يشهد الحكم الشاروني اوج سعاره وذروة تخبّطه في مستنقعات الدم والوحل. لكنّ الثمن الذي ستدفعه اسرائيل إن هي منعت عقد اللقاء سيكون باهظاً وباهظاً جداً. ولعلها خير من يدرك ذلك.