الحق في الصحة أحد حقوق الانسان الاساسية التي لا غنى عنها، وهو موضوع مركب لن يتحقق بمجرد التمنيات الطيبة أو بالتنصل من المسؤولية وإلقائها على الآخرين ولا بالمطالبة بالحقوق مع التهرب من الواجبات. وقد أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ان الحق في الصحة هو أحد حقوق الإنسان الأساسية، فجاء في الفقرة الأولى من المادة 12: "تقرّ الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل انسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه". كما جاء في الفقرة الثانية من المادة بيان التدابير التي يتعيّن على الدول الأطراف اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق، وتبعاً لذلك أدخلت دول كثيرة في دساتيرها نصوصاً تؤكد حق شعوبها في مستوى مقبول للصحة والرعاية الصحية. وعلى ذلك استمر التباين الكبير في مستوى الصحة بين بلدان "الشمال" المتقدمة وبلدان "الجنوب" النامية. فعلى سبيل المثال يتراوح الفرق في معدل وفيات الاطفال من بلد الى آخر من حوالى 10 الى 300 لكل ألف مولود قبل اتمام السنة الاولى من العمر، كما يتراوح معدل توقع الحياة طول العمر بين هذه البلدان من 45 الى 75 سنة. وهناك مؤشرات صحية أخرى تؤكد البون الشاسع بين البلدان المتقدمة والنامية. وبالمثل فإن فروقاً كبيرة في البلد الواحد، بما في ذلك البلدان المتقدمة، بين معدلات المستوى الصحي العام للبلد والمعدلات الصحية للمجموعات السكانية الضعيفة اقتصادياً واجتماعياً والتي يطلق عليها "المجموعات المعرضة للأخطار" أو "المجموعات والفئات المستهدفة صحياً". وهذه الفروق تعني ان التمتع بالحق في الصحة في البلدان النامية خصوصاً يعاني هزالاً مقيماً ويحتاج الى الكثير من الجهود لإسعافه! ومن أجل فهم أفضل لروح الإعلان العالمي لحقوق الانسان في ما يتعلق بالحق في الصحة، وللوصول الى تشخيص دقيق لما يجب ان تتخذه الدول من اجراءات ضرورية لتمكين مواطنيها من التمتع بهذا الحق، يلزم الاتفاق أولاً على تعريف "الصحة". ولعل من المفيد الرجوع الى دستور منظمة الصحة العالمية، وهي وكالة الأممالمتحدة المتخصصة في حقل الصحة والتي يبلغ عدد الدول الاعضاء فيها اليوم 191 دولة. إذ جاء في صدر دستور المنظمة التي تمت المصادقة عليه في تموز يوليو 1946، ان "الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز". كما أعلن في الدستور ايضاً "التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الاساسية لكل انسان، من دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة السياسية أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية". كذلك حدد دستور المنظمة هدفها الاساس بما يأتي: "هدف منظمة الصحة العالمية هو ان تبلغ جميع الشعوب أرفع مستوى صحي ممكن". وأقرت دول العالم كافة تقريباً دستور المنظمة ما يمثل التزاماً علنياً بهذا الهدف وبالتالي بتنفيذه على المستوى الوطني. وتوصلت دول العالم بعدئذ، عبر مؤتمرات دولية، الى الاتفاق على: "حد أدنى لما يعنيه الحق في الصحة يكون بمثابة القاع التي لا يسمح للشروط الصحية ان تهبط دونها في أي دولة من الدول المصادقة على الاعلان العالمي". وفي هذا الصدد جرى التشديد ايضاً على أن تحسين الصحة جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتقدم الاقتصادي والاجتماعي يؤدي الى تحسّن الوضع الصحي والى تعزيز المستوى النوعي للحياة. كما ان المجتمعات المتكونة من أفراد أصحاء تصبح قادرة، بمساهمتهم الفاعلة، على تحقيق مستويات أعلى في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ودور الدولة أساس في حماية الصحة العامة وفي توفير وتقديم الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية وخدمات تعزيز الصحة Health promotion services. ويفترض ان تقوم الدولة بذلك من طريق نظام صحي حكومي متكامل أو بمشاركة القطاع الخاص، على ان تقع على الدولة مسؤولية وضع أنظمة هذه الخدمات ومراقبة أعمالها لضمان التزامها القواعد التقنية والخدمية والمالية السليمة. كذلك فإن تمتع الشعب بحقه في الصحة وتعزيز دور الصحة في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية يتطلبان التزاماً سياسياً، بالأقوال والأفعال. والأقوال هنا تعني تحديد الاهداف الاجتماعية والصحية بوضوح، وتأكيد التصميم على تحقيقها بوضع التشريعات الضرورية. أما الافعال فتكون باعطاء الأولوية للسياسات والاستراتيجيات والبرامج الصحية وبتخصيص الموارد اللازمة لتنفيذ ذلك. والمساواة بين الناس ضرورة ليمارسوا حقهم في التمتع بالصحة. كذلك تعني المساواة الاهتمام والعناية الخاصة بمجموعات السكان المحرومة من الخدمات الصحية لأسباب مختلفة كالانعزال أو الفقر أو الجهل. ولا بد من ملاحظة ان معدل ما ينفق على صحة الفرد قليل جداً في البلدان النامية التي تتعرّض هي نفسها الى اعلى معدلات الامراض والوفيات، فلا يتجاوز ما يخصص للقطاع الصحي في الموازنات العامة للكثير من حكومات البلدان النامية 2-3 في المئة بالمقارنة بأكثر من 10 في المئة في بعض البلدان الصناعية المتقدمة. ولا جدال في ان تمتع الناس بحقهم في الصحة يتطلب بنية تحتية فاعلة من مراكز صحية ومستشفيات ومؤسسات علمية. كلفة الخدمة الصحية أصبحت اليوم عبئاً كبيراً حتى على اقتصاد البلدان المتقدمة نفسها، فما بالك بالبلدان النامية والفقيرة؟ والحق ان مواجهة هذه المعضلة تعتبر من الهموم التي تؤرق الكثير من الحكومات وتسبب السخط الشعبي المتزايد. وأضحى وضع الأسس الاقتصادية والمالية السليمة للنظام الصحي أمراً لا مفر منه لمواجهة هذه الأزمة. ومن أجل ذلك لا بد من زيادة حصة القطاع الصحي في موازنة الدولة وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة فيه بصورة فاعلة، وتنفيذ برامج التأمين الصحي بمساهمة الأفراد والدولة والقطاع الخاص. كما يلزم في الوقت نفسه تحقيق توزيع أعدل واستخدام أفضل للموارد المتاحة وترشيد الاستهلاك وتجنب الهدر في القطاع الصحي. وإضافة الى مسؤولية الدولة عن ضمان توفير الخدمات الصحية الكفية لمواطنيها فإن واجباتها تشمل اليوم أموراً اخرى وثيقة الصلة بذلك. اذ يطلب منها الآن بإلحاح في الكثير من البلدان المتقدمة ان تمارس سلطتها في تحديد التعريف الرسمي لحال الموت وان تتخذ مواقف واضحة من قضايا تتضارب فيها الآراء وتثار حولها مشاعر الناس مثل تيسير الموت للمرضى في حالات خاصة Euthanasia والاجهاض وغير ذلك من القضايا المتعلقة بحياة الانسان وصحته. كذلك يطلب من الدولة إصدار التشريعات للمحافظة على الحياة وتقنين التعاريف بالصحة والحياة والموت، وان يوسع حق الانسان في الصحة ليشمل، اضافة الى امتداد الحياة الطبيعية للفرد، حياة الجنين والتعامل مع جسد الانسان بعد الموت. والدولة مسؤولة ايضاً عن تزويد المواطنين المعلومات الصحية والعلمية في الوقت اللازم لمواجهة المشكلات الصحية. كذلك تقع على الدول التزامات قانونية وأخلاقية باحترام حق الحياة والحق في الصحة لمواطنيها ولمواطني البلاد الاخرى، فلا يحق لزية سلطة ان تخضع أو تعرّض شعبها للمجاعة أو المجازر أو التصفية العرقية أو التعذيب مهما كانت الاسباب، كما لا يحق لأي حكومة أو سلطة منع أو تأخير أو عرقلة تزويد شعبها أو شعب بلد آخر الطعام والأدوية والأدوات والتجهيزات الطبية مهما كانت الحجة في ذلك. ومن ناحية اخرى، فمن اجل حماية المجتمع من المخاطر الصحية، وفي حالات خاصة تتعلق بحماية الصحة العامة، قد يجوز للدولة التدخل عند الضرورة في حياة الافراد الشخصية والحد من بعض حقوقهم الفردية. وقد أقرت الدول الاعضاء في هيئة الاممالمتحدة بالاجماع ان تطبيق الرعاية الصحية الأولية هو الوسيلة اللازمة لتحقيق مبدأ "الصحة للجميع". علماً ان طبيعة خدمات الرعاية الصحية الأولية والموارد البشرية والفنية والمادية المخصصة لها تتفاوت من بلد الى آخر بحسب الإمكانات المتاحة والحاجات المحددة. وقد ولد مبدأ الرعاية الصحية الأولية كما يعرفه العالم اليوم في "إعلان ألما أتا"، عاصمة جمهورية كازاخستان السوفياتية يومئذ، الذي صدر في ايلول سبتمبر 1978 عن المؤتمر الدولي الخاص الذي نظم بدعوة من منظمة الصحة العالمية وصندوق الطفولة الخاص للامم المتحدة اليونيسيف. وأقر هذا المبدأ وجرى العمل به بعدئذ من الحكومات على المستوى الوطني، ومن الهيئات والمنظمات الدولية ذات العلاقة. إعلان ألما أتا" حدد مكوّنات الرعاية الصحية الأولية بما يأتي: 1 التثقيف الصحي بالمشكلات الصحية القائمة وبطرق الوقاية منها والسيطرة عليها 2 تأمين توفير الطعام والتغذية الصحيحة. 3 توفير الماء الصالح للشرب والإصحاح الأساسي وسائل وخدمات التخلص من الفضلات والنظافة العامة. 4 رعاية صحة الامهات والاطفال، بما في ذلك تنظيم الاسرة. 5 التحصين التطعيم ضد الامراض الخمجية المعدية الرئيسة. 6 الوقاية من الامراض المتوطنة والسيطرة عليها. 7 معالجة الامراض الشائعة. 8 توفير الادوية الاساسية. ان تنامي التقدم العلمي غير المسبوق في علوم البيولوجيا والكيمياء الحيوية والطب في العقود الاخيرة أتاح القيام بمداخلات طبية وعلمية لم تكن في عداد الاحلام حين ابرام الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948. وتثير بعض الانجازات العلمية الحديثة قضايا ومشكلات وثيقة الصلة بحقوق الانسان والحرية الشخصية، كما تنجم عن الخيارات المتاحة ردود فعل اجتماعية وثقافية شديدة التناقض احياناً. وهي بذلك تتطلب اهتماماً خاصاً. * طبيب عراقي - مدير عام مساعد سابق في منظمة الصحة العالمية - جنيف.