عندما يوصف انسان هذه الأيام بأنه عبقري يكون المعنى عادة انه متفلسف أو يتذاكى، أو عاطل عن العمل. غير انني لا أجد صفة تليق بالبروفسور ادوارد سعيد سوى انه "عبقري" بالمعنى الأصلي والكامل للكلمة. وربما كنت ترددت في وصف صديق بالعبقرية، خشية ان تكون الصداقة أثرت في التقدير والتقويم، غير انني تشجعت عندما وجدت جريدة "الغارديان" النافذة تقول عن ادوارد سعيد انه ربما كان "أعظم المفكرين تأثيراً، أو نفوذاً، في عصرنا هذا". أما "الاندبندنت" فقالت ان الاقبال على محاضراته يضاهي الاقبال على حفلات المغنين، وعندما ألقى ادوارد سعيد محاضرة في مسرح أبولو قبل شهرين امتلأت المقاعد كلها، واضطر منظمو البرنامج الى فتح الأبواب ليدخل مستمعون لا يحملون بطاقات. وهو استقبل بجمهور مماثل عندما ألقى محاضرات في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، في آذار مارس من السنة الماضية، وتدافع الجمهور عند الأبواب للدخول على رغم امتلاء القاعة. لا أستطيع ان أكتب عن ادوارد سعيد بقدرة ناقد أدبي أو أستاذ جامعي، وليست هذه الزاوية المكان المناسب لسبر أعماق انتاج الرجل، وانما أقول ببساطة ان أهم ما في ادوارد سعيد انه لم ينافق أو يجامل، كبعض الكتّاب، ليلقى القبول في الغرب. وقد فرض نفسه على الجسم الثقافي الغربي بقدرته الخالصة، فهو يعارض قيام حرب باردة جديدة، ويسخّف "صراع الحضارات"، وفي حين يعتبر نيويورك "عاصمة زماننا هذا" فهو فلسطيني حتى العظم، وصفه خصومه يوماً بأنه "بروفسور الارهاب"، وعندما انهزموا أمام علمه قالوا انه ليس فلسطينياً. ماذا يكسب انسان من الادعاء انه فلسطيني؟ كل شعب آخر في العالم يواجه وضعاً أفضل ومشكلات أقل، فالفلسطينيون وحدهم مبتلون بإسرائيل وارهابها وعنصريتها وسياساتها النازية. غير انني أبقى مع ادوارد سعيد المفكر، فقد بدأت أكتب هذه السطور بعد ان انتهيت من قراءة كتابه "تأملات في المنفى" الذي يضم مجموعة من مقالات كتبها على مدى العقود الثلاثة الماضية. كنت أعرف ان ادوارد سعيد صاحب ثقافة موسوعية منذ قرأت له "الاستشراق" سنة 1978. غير ان مجموعة مقالاته ذكرتني مرة أخرى بسعة معرفته، فهو يغرف من بحر زاخر، ما جعلني أفكر في حدود، أو محدودية ثقافتي، فأنا أقرأ منذ تعلمت القراءة، أقرأ في الصباح مع القهوة، وفي المكتب، وعندما أعود الى البيت قبل العشاء، وأقرأ قبل النوم، بل انني أقرأ في الحمام. ومع ذلك فإنني أقدر انني لم أقرأ خُمس ما قرأ ادوارد سعيد أو سدسه، مع انه يكبرني بسنوات قليلة فقط. وأهم من الفرق في القراءة، الفرق الهائل في الفهم، فهو أستاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا. وثقافته تمكنه ان يكتب مقالاً عنوانه "صراع التعاريف" رداً على كلام صموئيل هنتنغتون عن "صراع الحضارات"، ومقالاً عن "عبقرية باخ، وغرابة شومان وشراسة شوبان، وموهبة روزين" ومقالاً بعنوان "مقدمة لموبي ديك" عن رواية هيرمان ملفيل المشهورة، ومقالاً عن أهداف سويف وروايتها "في عين الشمس"، ومقالاً عن "النثر العربي والرواية النثرية بعد 1948"، ثم مقالاً عن تحية كاريوكا. ادوارد سعيد، في مواهبه المتعددة، عازف بيانو من مستوى محترف، وهو ناقد موسيقي يستطيع ان يرفع سمعة فنية أو يضعها، الا ان ذوقه الفني الذي يشمل باخ وشوبان، يشمل أيضاً الرقص الشرقي، ومقاله عن تحية كاريوكا طريف فعلاً، وهو يروي كيف شاهدها سنة 1950 ترقص في "كازينو بديعة" حيث يقوم الآن فندق شيراتون. وكنت شاهدت تحية كاريوكا في مسرحية في سينما دنيا في بيروت في أوائل السبعينات، كما عرفت بديعة مصابني في آخر أيامها، وكان لها مطعم مشهور في شتورة نتوقف فيه ونحن عائدون من الصيد. الا انني لم أكتب عنهما كما فعل ادوارد سعيد بقدرة غريبة. وأتوقف هنا عن الاطراء لأعرض بعض التصحيح، ان لم يكن النقد. في المقال عن تحية كاريوكا، يقول ادوارد سعيد انه وزملاء دراسة له مراهقين مثله، شاهدوا تحية كاريوكا ترقص وعبدالعزيز محمود يغني لها "منديل الحلو..." والمقال المكتوب بالانكليزية يترجم هذه العبارة على انها تعني "المنديل الجميل"، في حين انها تعني "منديل الحسناء". وربما كتب أخونا ادوارد في المستقبل مقالاً عن سر الغناء للذكر في العربية، مع ان المقصود هو الأنثى. على أي حال، في المقال نفسه يتحدث ادوارد سعيد عن زوج لتحية كاريوكا هو فايق حلاوة الذي يقدم مسرحية "يحيا الوفد". ويترجم العنوان الى الانكليزية بمعنى وفد من الوفود، أي Delegation، مع ان المسرحية تستوحي اسمها من حزب الوفد. وإذا كان لي أن أزيد، فالسيرة الذاتية لادوارد سعيد وكانت بالانكليزية Out of Place ترجمت الى العربية فكان عنوانها "خارج المكان" غير ان هذه العبارة ليست ترجمة صحيحة أو دقيقة للمقصود، فالعنوان بالانكليزية يعني "في غير مكانه"، أو موضعه، فالفلسطيني ادوارد سعيد ذهب الى الولاياتالمتحدة ليتعلم سنة 1951، ثم يعلم، ولم يعد الى بلاده الا زائراً، فهو في نيويورك موجود في غير مكانه. وأكمل غداً، فعبقرية ادوارد سعيد تستحق بعض الاطالة.