فيما يتسع نطاق الحديث، مع ما تشير إليه أكثر التقديرات والتقارير تحفظاً، حول اتخاذ إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش قرارها بدعم التغيير في العراق وإطاحة نظامه الحاكم، عِبر توجيه ضربات عسكرية ضد مواقع قوة النظام ومصادره، كأحد الخيارات وليس الخيار الوحيد، للمساعدة في تحقيق هذا الهدف، يتساءل بعضهم حول ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى حصول فراغ سياسي، تنجم عنه فوضى وعنف، وربما تقسيم العراق، أم ان المعارضة العراقية، وبالتنسيق مع قوى التغيير في الداخل قادرة على أن تكون البديل السياسي الجاهز، أو الذي سينبثق في سياق عملية الإطاحة والتغيير، مستبعداً حصول أي فراغ في السلطة، أو أي عنف وفوضى، أو تقسيم؟ للإجابة على ذلك، يمكن القول ومن دون أية مجانبة للواقع، إن غالبية العراقيين، التي تعكس آراءها وتطلعاتها قوى وتنظيمات المعارضة، وكذلك النخب السياسية والفكرية المستقلة، بمختلف تياراتها واتجاهاتها، تنفي تلك الانطباعات السلبية ولا تتوقع حصولها. وهي إذ ترى فيها افتراضات مفتعلة، وتنطوي على غمز من قناة العراقيين وأهليتهم في ترشيح القيادة المناسبة لحاكم العراق ما بعد صدام، فإن نفيها لعدم حصول فراغ سياسي أو عنف أو تقسيم، ليس ناجماً عن رغبات وأمنيات غير واقعية، أو لنبذ ذلك الغمز من قناة العراقيين، إنما هو ناجم عن قناعة راسخة بانعدام المبررات والعوامل والأسباب التاريخية والسياسية لحصول ذلك. لكن، في مقابل ذلك، ثمة جدل يدور، وسيظل يدور، حول طبيعة الإدارة، أو الحكومة الانتقالية، التي ستتولى السلطة وتمسك بزمام الأمور خلال عملية إطاحة النظام وتغييره وبعدها، وكذلك حول آليات تشكيلها، ثم حول مدى تمثيلها لكل، أو معظم، التكوينات التي يتألف منها المجتمع العراقي وبمختلف تياراته وانتماءاته السياسية والفكرية، وذلك فضلاً عن مدى قدرتها على أن تشكل انقطاعاً عن النظام التي ستأتي على أنقاضه وتنتقل بالعراق، خطوة بعد أخرى، إلى عراق جديد يحكمه نظام سياسي متصالح مع شعبه ويعبر عن تطلعاته وطموحاته، ويتعايش مع جيرانه ودول العالم بسلام، ويلتزم بالاتفاقات والتعهدات الدولية الشرعية والمشروعة. وكرد غير مباشر على تلك الانطباعات السلبية التي حملتها التساؤلات حول مرحلة ما بعد صدام، أعلن أحد قادة "المؤتمر الوطني العراقي" بأن "المؤتمر" قادر على تسلم السلطة بعد إطاحة النظام. هذا في حين جرى، في موازاة ذلك، ضخ إعلامي لافت في الحديث عن ترشيح "كارزاي عراقي"، حيث ذهب بعض وسائل الإعلام إلى اطلاق التسميات لبعض الأسماء التي رشحها وأضفى عليها الأوصاف التي تؤهلها لذلك. لكن، ومهما يكن من أمر هذه الإعلانات والتوقعات، التي هي موضع جدل وتباين في الآراء والمواقف عليها، فإن أحداً لا يستطيع التكهن تماماً، بشكل وطبيعة الحكومة، أو الإدارة الانتقالية، التي ستتولى مقاليد الحكم، موقتاً، بعد إطاحة النظام القائم، مثلما لا يستطيع أحد التكهن أيضاً بآليات تشكيلها سواء قبل إطاحة النظام وتغييره أو خلالها أو في أعقاب ذلك. وليس من شك، أن خصائص وآليات تشكيل الإدارة الانتقالية، البديل المفترض والمتوقع لنظام صدام، ترتبط أشد الارتباط بالموقف الأميركي ورؤيته للتغيير، إذا ما عمدت واشنطن إلى لعب دور أساسي في ذلك، وسيكون لسبيل، أو وسيلة الإطاحة والتغيير التي ستعتمدها دور كبير في تحديد تلك الخصائص والآليات لتشكيل تلك الإدارة وخصائصها. وهناك ثلاثة خيارات لإطاحة النظام وتغييره في العراق مطروحة للتداول أمام إدارة بوش: الأول، القيام بأعمال استخباراتية مكثفة تطيح بالنظام من دون اللجوء إلى الضربات العسكرية. والثاني، القيام بضربات جوية وصاروخية على مواقع قوة النظام في بغداد، بما يشل تماماً من قدرته على المقاومة، وبما يفسح في المجال لتحرك وحدات عسكرية فاعلية من الجيش والحرس الجمهوري للانقضاض على النظام واسقاطه. أما الخيار الثالث، فهو الخيار الذي يجمع بين الخيارين، إضافة إلى اعطاء دور تنسيقي فاعل لقوى المعارضة في كردستان العراق وفي وسط العراق وجنوبه، من دون الاستغناء عن الحاجة لقوات أميركية برية، إذا ما دعت الحاجة لذلك. في الخيار الأول، الذي سيكون للإدارة الأميركية دور أساسي ومنفرد في انجازه، سيدفعها إلى عدم التنسيق والتشاور، بندية، مع قوى المعارضة، وحتى "المؤتمر الوطني" ربما، بشأن تشكيل الإدارة الانتقالية، بما لا يضمن توازن هذه الإدارة ولا سلامة تمثيلها لتيارات واتجاهات المجتمع العراقي وتكويناته. لكن هذا الخيار يبقى احتمالاً لا يمتلك المقومات الحقيقية للنجاح. أما الخياران، الثاني والثالث، فإنهما يفرضان على الإدارة الأميركية التشاور والتنسيق المسبق مع قوى المعارضة في الخارج، وكذلك قوى التغيير و"العناصر البشرية" في الداخل التي لها علاقات مسبقة في التنسيق معها. وبالطبع، فإن الأخذ بأحد الخيارين، خصوصاً الخيار الثالث، سيجعل الإدارة الأميركية ملزمة ومعنية بإقامة أوسع درجات التشاور والتنسيق وتوزيع الأدوار مع المعارضة، ومنها بالطبع القيادات الكردية في كردستان العراق، التي سيكون لموقعها الجغرافي، ربما، دور كبير في الضربات العسكرية لمواقع النظام في بغداد. إن ترجيح احتمال أن تلجأ واشنطن إلى الخيار العسكري الثالث لإطاحة النظام في بغداد وتغييره، يُرجح الاعتقاد بأخذها الاسلوب، أو "السيناريو الأفغاني" على الصعيد السياسي، أي على صعيد الأخذ بالآليات ذاتها التي عملت بها لتشكيل الإدارة أو الحكومة الانتقالية التي اختارت حامد كارزاي رئيساً لها. ويرى الكثيرون من العراقيين ومن قوى المعارضة وتنظيماته، بأن هذا "السيناريو السياسي الأفغاني" أكثر ملائمة للوضع العراقي، فإذا كان السيناريو العسكري لإطاحة حكم "طالبان" - "القاعدة" في أفغانستان قد لا يصلح تماماً على الوضع العراقي، كما يرى بعضهم، فإن السيناريو السياسي وآلياته هو الأكثر استجابة لمشكلات أوضاع المعارضة العراقية وتعقيداتها، وكذلك أكثر استجابة للتعددية السياسية والقومية والمذهبية والدينية التي يتسم بها المجتمع العراقي. وفي ظل هذه التعددية، وفي ظل عدم توحد المعارضة العراقية بقيادة موحدة، تشكل المرجعية السياسية للجميع، وكذلك في ظل عدم تمكن "المؤتمر الوطني" أن يشكل "المظلة" المتفق عليها والمعترف بها من كل، أو معظم، قوى المعارضة... تبدو الولاياتالمتحدة معنية، وبالتنسيق مع الدول الاقليمية التي تشاطرها موقفها لإطاحة النظام في بغداد، بدفع المعارضة وتشجيعها لتوحيد صفوفها. أما العمل على تفعيل "المؤتمر الوطني" ليكون فعلاً مظلة لكل قوى المعارضة، أو بدعوة "المؤتمر" وسائر قوى وتنظيمات المعارضة وشخصياتها المستقلة التي تهدف إلى إطاحة النظام، ومقتنعة بأهمية الدور الأميركي في تحقيق ذلك، إلى عقد مؤتمر، على غرار "مؤتمر بون" الذي ضم "تحالف الشمال" الأفغاني، إضافة إلى ممثلي الملك محمد ظاهر شاه وجماعة قبرص، فضلاً عن ممثلين لجماعات عرقية وقبلية، خصوصاً من البشتون المناوئين ل"طالبان". إن التمكن من عقد مثل هذا المؤتمر للمعارضة العراقية، والذي سيضم قوى وتنظيمات قوية وفاعلة على الأرض، ويضم كذلك قوى وشخصيات ذات علاقة وشيجة بالولاياتالمتحدة ومقتنعة بدورها في إطاحة النظام وتغييره، إضافة إلى امتلاك عدد من هذه القوى والتنظيمات، خصوصاً "المؤتمر الوطني"، برنامجاً وطنياً ديموقراطياً للتغيير، جاهزاً وخاضعاً للنقاش والتعديل، سيسهل كثيراً على مثل ذلك المؤتمر بانجاز أعماله بنجاح، والتوصل إلى تشكيل الإدارة الانتقالية التي يتوقعها ويتطلع إليها العراقيون، لتكون إدارة موقتة، تعمل على إعداد دستور دائم للعراق والتصويت عليه، وكذلك على تشكيل أو انتخاب جمعية تأسيسية خلال ستة شهور أو عام، بما يضع العراق على سكة التحول الديموقراطي والتقدم والازدهار والتعايش مع جيرانه ودول العالم بسلام. * كاتب عراقي، لندن.