في موجة التعليقات التي تلت أحداث 11 ايلول سبتمبر مباشرة، كانت لهجة الاثارة هي السائدة. فالتاريح سيشهد قراءتين: قبل 11 ايلول وبعده. وتبدو اليوم هذه الرؤية مضخّمة تحت التأثير المفاجئ للحدث. وتتجه الكتابة الى التروي لمنع الانجرار في السياسة اللاعقلانية المبنية على استمرار اجواء الاثارة. وتبرز اهمية قراءة الحدث في ارتباطه بحيثيات السياسة الدولية الأبعد منه، وبالاخص السياسة الاميركية. فالسياسة قد تكون صانعة الحدث اكثر مما الحدث صانع السياسة، لما تحمله من تأويل له واختيار الاساليب لمواجهته. ويحتل صدارة الاهتمام في هذه القراءة ظاهرة غالبة في العلاقات الدولية، هي موضوع العنف. فالمعالم الفارقة للإدارات الاميركية المتعاقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة كانت هذه حروبها: بوش الأب ضد العراق، وكلينتون في كوسوفو ضد يوغوسلافيا، واخيراً حرب افغانستان. وتبدو معها اعمال العنف الترويعية كالعمليات الانتحارية في نيورك وواشنطن وليدة هذا العصر ايضا. واهم من الحروب نفسها يجدر البحث عن المنطق الذي يحكمها ويعيد انتاجها كل مرة. وعلى ما يبدو فان هذا المنطق ثابت، ولو تبدلت اشكال الحروب واهدافها المعلنة، وهو يرتبط بسمة العصر: التفوق العسكري الكبير للولايات المتحدة. فالسياسة الاميركية اصبحت محكومة اكثر من اي وقت مضى بمنطق القوة، بطريقة قابلة للتبسيط الى درجة كبيرة بما انها تتمحور حول السعي الى تحويل التفوق العسكري الى سيطرة، وهو سعي متواصل لأنه لن يتحقق من خلال مد السيطرة العسكرية المباشرة على المجال الجغرافي الكلي للعالم. فهو غير ممكن وغير مرغوب بل يحتاج الى اعادة تأكيد دائمة للسيطرة من خلال اظهار القوة. انه تمرين مستمر في صقل العضلات وتأكيد القدرات وتذكير الآخرين بها. كان يمكن لأحداث أيلول ان تشكل منعطفا لفهم ومواجهة موضوع العنف بكل أوجهه، لكنها اسفرت، على الاقل لحينه، عن ارتداد نحو تبني العنف وجها وحيدا ومتفردا للسياسة الدولية التي تقودها واشنطن. فخطاب الرئيس الاميركي الاخير اعادنا الى الاجواء السياسية لحقبة ريغان، بوضع الحرب الدائمة على الارهاب كموجه وحيد للسياسة الخارجية. هكذا جرى استيعاب وهضم احداث 11 ايلول في آلية منطق القوة ليعاد استخراجها كوقود يغذي هذا المنطق لزمن طويل، بالاستناد الى شرعية دولية والى تأييد وتفويض داخلي لسياسة خارجية قليلة القيود. ان موضوعي الحرب وسياسة التفرد اللذين لخصا خطاب الرئيس الاميركي هما ايضا وجهان لعملة واحدة اسمها الهيمنة. لقد راهنت الدول الكبرى الاخرى على ان تكون سياسة بوش بعد الاحداث اقل تفردية مما اظهره في الايام الاولى لولايته التي تميزت بجفاف العلاقة مع روسيا والصين وبرفض الانصياع للارادة العامة في التخاطب مع الدول الاوروبية. فالحرب في افغانستان فرضت درجة من التنسيق مع دول حلف الشمال الاطلسي كما مع روسيا في اطار الاتفاق على اولوية محاربة الارهاب. الا ان السياسة الاميركية ليست ابنة ظرفها ولم يصنعها الحدث. انها على العكس معدة لصناعته وهو ما تفعله في كل لحظة. وبالفعل لم يولَ خطاب بوش الاهتمام الذي انتظرته الدول الاوروبية. فقد ذكر بشكل عابر كلمة حلفاء وشدد على كلمة ائتلافcoalition وهي ليست تحالفا بل حشد واسع للقوى خلف القيادة الاميركية من اجل القيام بفعل محدد، كما حصل في حرب افغانستان. تستند السياسة الاميركية اذاً الى منطق داخلي ابعد من الظرف، ربما اوضحه مقال ظهر قبل سنتين في مجلة "الشؤون الخارجية" فورين أفيرز في تشرين الأول أكتوبر 1999، بقلم ريتشارد هاس وتحت عنوان دال: "ماذا نفعل بالتفوق الاميركي؟"، حيث يعتبر الكاتب ان اي ادارة اميركية معنية بهذا السؤال: "كيف يمكن ترجمة التفوق الى سيطرة" مع تجنب حصول مقاومة عالمية مهمة، ومع القدرة على تجنيد الرأي العام لخدمة السياسة الخارجية؟ يبدأ المقال بالتأكيد على اهمية وجود حد ادنى من التوافق بين الدول الكبرى حول موضوعات عالمية محددة من اجل تحقيق درجة من النظام العالمي، لكنه يرفق ذلك بضرورة ان تكون وجهة السياسة الاميركية "امبريالية"، من حيث فرض التحكم بالعلاقات بين الدول وداخل كل دولة، اذ ان السيطرة المباشرة على الاراضي والاستغلال التجاري غير مرغوبين اليوم. والمسألة الاساسية هي القدرة على الجمع بين الاثنين من خلال تقديم اقل تنازل ممكن للقوى الاخرى، خاصة روسيا والصين الاكثر ترشيحا لمعارضة سيطرة كهذه، ولكن ايضا اوروبا، ويكون ذلك بالبحث عن الخيار الافضل ما بين التشاور وما بين سياسة التفرد، وهي عملية مستمرة ومتجددة. ويفهم بالتالي ان التفرد في السياسة الاميركية هي مسألة درجات ليس الا. وصيغة العمل المفضلة تكون في اطار ائتلاف coalition عريض تقوده الولاياتالمتحدة ويتغير كل مرة. فصوت المرحلة يقول ليس هناك تحالف ابدي بل مصلحة ابدية. يصبح، في اطار هذه السياسة، فعل التدخل اهم من اهدافه. فالسياسة الاميركية يجب ان تبقى فاعلة والا فان التفوق الاميركي سيضمر. ولذلك فان تحديد التدخل مسألة مطاطة تقررها عوامل متعددة: غطاء مقبول، قضية يمكن جعلها شرعية كالموضوع الانساني ومحاربة الارهاب، التكلفة غير العالية والنتائج المدروسة نسبيا، اقتران التدخل بمصالح استراتيجية او اقتصادية، ايجاد شركاء الخ. والتخوف بالنسبة لصانعي السياسة هو ان يبدو ان الولاياتالمتحدة لا تفعل الا القليل. ان هذا الاستقلال في السياسة الاميركية والحاجة المستمرة لتفعيلها، والذي يشده بوش اليوم الى مدى اختباره الاقصى، يرتبط بعلاقة غير عقلانية مع مبدأ الهيمنة. فهو يسبح بسمائه الخاصة ويسكر بنشوات الانتصارات السريعة طالما لا تواجهه عقبات. والى ان يعاد مجددا الى الواقع والارض من خلال صعوبات غير متوقعة، لا بد من بحث عن ولادة مخاض آخر من احداث 11 ايلول، يبدأ بالنبذ المتزايد للعنف، خاصة حين يكون على هذه الدرجة من الانفلات كما بدا في عمليات نيويورك وفي حرب افغانستان، وربما سيظهر لاحقا في حروب اخرى.