على امتداد شمال أفريقيا، ابتداءً من ليبيا وانتهاء بالمغرب، مروراً بتونسوالجزائر، تبرز أسماء ثلاثة مساجد كان لها، ولا يزال، في التاريخ الإسلامي نصيب كبير من اهتمام الباحثين المسلمين وغير المسلمين، هذه المساجد أنشئت في القرون الأولى بعد الهجرة. أولها: مسجد القيروان الذي بناه القائد العربي عقبة بن نافع سنة 51ه 671م. ثانيها: مسجل الزيتونة في تونس الذي بدأ بتأسيسه حسان بن النعمان حوالى سنة 80ه 699م. ثالثها: مسجد القرويين في مدينة فاس الذي أنشئ سنة 245 859م. يعتبر مسجد الزيتونة أول بناء إسلامي في مدينة تونس، وظل المسجد الجامع الأول لأهل هذه المدينة. وتذكر المصادر التاريخية ان القائد الأموي حسان بن النعمان، الذي حرر قرطاجة من الروم ثم قام بهدمها ونقل سكانها الى تونس جعل من مدينة تونس مركزاً للجيوش الإسلامية. وبعد تأسيس المدينة سنة 80ه 699م، أنشأ مسجدها الجامع الذي عرف بعد ذلك بجامع الزيتونة لوجود زيتونة قديمة في المكان. والاعتقاد السائد ان الجامع بني على أطلال كنيسة بيزنطية قديمة كانت موجودة في ذلك المكان، إذ تبين من خلال الحفريات التي أجريت داخل الجامع، أنه بني على أطلال عمارة قديمة لم يبق منها إلا بعض الآثار المبهمة الشكل والهوية، كما عثر الباحثون خارج الجامع وأمام الواجهة الشرقية وتحت الدرج الجانبي، على بقايا قبور ترجع الى القرن الرابع الميلادي، كما ان الأشغال التي أجريت في مكان الصومعة أو الكنيسة القديمة، حيث المئذنة الحالية، أظهرت آثاراً قديمة تعود الى العهد الروماني إضافة الى ألواح من المرمر استعملت لتبليط الصحن، وهي تحمل في باطنها زخارف منحوتة من العهد الروماني والبيزنطي. وأعيد بناء الجامع من جديد سنة 116ه 734م في عهد القائد الأموي عبيدالله بن الحبحاب. وكغيره شهد هذا الجامع اعادة بناء وتجديد شاملة في عهد الأغالبة في تونس عندما أخذ جل مساحته وحدوده وتصميمه. وهو يعتبر معلماً من معالم الطراز الأغلبي القيرواني، ويكاد يكون صورة مصغرة لجامع القيروان، الذي أعيد بناؤه في عهد زيادة الله الأغلبي سنة 221ه 835م، أي قبل ثلاثين سنة تقريباً من اعادة بناء جامع الزيتونة بأمر من الخليفة العباسي المستعين سنة 250ه 864م. وجرى ترميم قبة البهو، وهي غاية في الروعة والجمال، كذلك تم ترميم الجامع وتجديده مرات عدة وفي فترات زمنية مختلفة وأضيفت اليه مساحات اضافية فضلاً عن زخرفته. أما مئذنة الجامع، وأهل تونس وسائر المغرب العربي، يطلقون على المئذنة اسم "صومعة"، فقد شغلت حيزاً كبيراً من اهتمام مؤرخي جامع الزيتونة، القدماء منهم والمحدثون. بعضهم أكد أن صومعة الجامع قديمة، كانت للرهبان قبل الفتح الإسلامي. والبعض الآخر يؤكد ان الصومعة القديمة جعلت محل النداء والأذان للصلاة. وبقيت الحال كذلك حتى سنة 1309ه 1892 حين تداعت الصومعة بفعل الزمن. ويؤكد حسن حسني عبدالوهاب، المرجع المعاصر لتاريخ تونس، انه لم يكن للجامع مئذنة على امتداد تاريخه حتى سنة 1894م استناداً الى ان المساجد والجوامع في البلاد المغربية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة لم يكن لها مآذن عدا جامع عقبة في القيروان، وذلك اقتداءً بالسنّة المحمدية إذ ان المسجد النبوي في المدينةالمنورة لم يكن له مئذنة حين تأسيسه. وشاع اتخاذ المآذن لأول مرة في الشام في عصر الخلفاء من بني أمية وخصوصاً في عهد عمر بن عبدالعزيز، وهو الذي أدخل على المساجد في زمن خلافته تغييراً كبيراً في نظامها الداخلي وفي طرازها المعماري. وعليه فإن مئذنة الجامع اقيمت مكان الصومعة القديمة وكان ارتفاعها في ذلك الوقت 30 متراً" وقد تداعت وسقطت في حدود سنة 1309ه 1892م حيث أعيد بناؤها بالشكل الذي هي عليه الآن. فالمئذنة، أو الصومعة الزيتونية كما يسميها أهل تونس، رافقت بناء الجامع في رحلته التاريخية منذ بنائه عند الفتح الإسلامي سنة 80ه 699م حتى استبدلت بها الصومعة أو المئذنة الحالية، سنة 1312ه 1894م. وكان للجامع في عهد الأغالبة ستة أبواب، زيد عددها بعد ذلك الى 22 باباً. أما مكتبة الجامع الغنية بكتب التفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم العقلية فقد احتوت بحسب بعض المؤرخين 200 ألف مجلد أتلفها الاسبان حين دخلوا البلاد عام 980ه 1572م. حتى انهم لم يوفروا جامع الزيتونة من عبثهم وقبائح أفعالهم فعمدوا الى ربط خيولهم بالجامع وحفروا حفراً صغيرة في بلاط صحنه كي لا تعثر بهم خيولهم، بحسب ما جاء في التقرير الذي رفعه، بطلب من الدولة التونسية، الشيخ أحمد بن الخوجة سنة 1313ه 1895م. ومنذ العام 1306ه 1888م بدأ الاهتمام بالمكتبة فأعيد تأسيسها وبدأ تدفق الكتب اليها من جميع فئات المجتمع التونسي. وكان الجامع قد حظي باهتمام كبير وغير عادي من قبل الولاة الذين تعاقبوا على تونس ابتداءً من العهد الأغلبي والى وقتنا الحاضر. ولعل أهم مرحلة مر بها الجامع حين وقف الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية ليعلن للرأي العام التونسي عام 1959 أن: "التعليم الزيتوني، وهو التعليم القديم الذي كان موجوداً منذ قرون، وهو وإن أدى رسالة الاشعاع والنور، وضارع الأزهر وجامعة فاس وجامعة بغداد، فقد قصّر عن مجاراة الزمن وظلت الصبغة الدينية التي يصطبغ بها وسيلة لإبقاء ما كان على ما كان، ودخل طلبته في صراع مرير من أجل اصلاح البرامج وتغيير الأمكنة والأسلوب، وعمد الاستعمار لإجراء اصلاحات مموّهة، ولم يعمد للإصلاح الحقيقي، بل حرّك المؤمرات لتأليب الطلبة على الشيوخ واستخدام المصالح الخاصة للقضاء على المصالح الحقيقية المتماشية مع مقتضيات العصر، وإني لا أنكر ما للتعليم الزيتوني من الفضل في مقاومة الاستعمار والصمود أمام تيار الفرْنَسة هنا وفي الجزائر على رغم أساليبه العتيقة، كما كان الديوان الشرعي الذي نشبت به فراراً من المحاكم الفرنسية. ولكن هذه المزايا لا تقتضي أن تبقى الحالة على ما كانت عليه الى ما لا نهاية له، لأن دور الدفاع السلبي قد انتهى. واليوم وقد زال الخطر، يجب ان نكيّف التعليم بما يمكّننا من ملاحقة ركب الحضارة، وتدارك ما فاتنا من مراحل، ونحن عازمون على ذلك مهما كانت التكاليف، والاعتراف بالواقع مدعاة لتهيئة الأسباب لتغييره". وفي يوم 15 تشرين الأول عام 1959 قال الحبيب بورقيبة في تبرير الغاء التعليم في جامع الزيتونة: "... وقد اضطررنا الى ان نحذف شيئاً فشيئاً الأسس القديمة التي يقوم عليها برنامج التعليم، ولا يذهبَنْ بكم الاعتقاد، كما قد يتبادر الى الأذهان، أنا حذفنا التعليم الزيتوني فحسب، لأنا ألغينا في الحقيقة أيضاً أسلوب التعليم العصري الفرنسي الذي كنا نزاوله في الليسيه والتعليم القائم على استعمال لغتين في التعليم، وهو ما كان يعبّر عنه بالتعليم الصادقي، وهكذا ألغينا البرامج المشوهة التي كانت معدة للفرنسيين فقط، أو معدة للتونسيين مع وضع طلاء عليها من اللغة العربية، وذلك للوصول الى فرنسة الشباب التونسي أو ابقائه تحت ستار التعليم الزيتوني المحض، عاجزاً عن مجاراة عصره وغير منسجم مع الحياة الحاضرة وما تتطلبه من اطارات ورجال ومؤهلات. وقد ألغيت تلك البرامج المشوهة ليحل محلها تعليم قومي، ضُبط ضمن لوائح ومؤلفات وأنظمة، ويشمل: التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي والتعليم العالي، لما يشمل التعليم المتوسطي والصناعي والتجاري...." الخ. أما العلماء الزيتونيون الذين رأوا في عمل الرئيس بورقيبة تنكراً للدين ومباعدة بين تونس والعروبة، فقد قدموا اليه مذكرة لفتوا فيها نظره الى ما ينجم من الأخطار عن ازالة التعليم الزيتوني الحافظ لأمر الدين الإسلامي، والذي يُفقد الشعب التونسي بفقده شخصيته الإسلامية وهو ما لا يتفق مع دستور البلاد. فرد الحبيب بورقيبة عليهم بالقول: "... يجب ألا تحول الدعايات الشخصية دون ادراك الحقائق الواضحة. ونحن استبقينا التعاليم الدينية والأصول والفقه التي تثقف المتعلم وتجعل منه مواطناً صالحاً منسجماً مع بلاده في صبغتها الإسلامية العربية... وعلى أولئك الذين توافرت لهم ترضية المعاش ان يستريحوا ويتركونا للعمل النافع المثمر...". وفي أول آذار مارس عام 1961أصدرت الحكومة التونسية أمراً بإحداث "كلية الشريعة وأصول الدين" داخل الجامعة التونسية، وكان الشيخ محمد الفاضل بن عاشور أول عميد لها.