مساء الاربعاء 23 كانون الثاني يناير توفي المفكر الفرنسي بيار بورديو، بعد ان حاول، خلال أربعة عقود، وانطلاقاً من تكوين فلسفي أصلي وأصيل، ان "يقيم سوسيولوجيا للسوسيولوجيا"، وان يرسي "طريقة جديدة للنظر الى العالم الاجتماعي"، ويتجاوز التعارضات التقليدية بين المادي والمعنوي، بين التفسير والتأويل، بين الفرد والمجتمع، بين البنية والتاريخ، بين الذاتي والموضوعي... من خلال أبحاث قديمة انصبت أساساً على حقل التدريس والممارسات الثقافية والفنية وحقل الاعلام، حاول بورديو ان يعالج قضية كبرى، كيف تعمل الهيمنة؟ وكيف يتشرب الضحايا هذه الهيمنة ويقبلونها على أنها أمر طبيعي مشروع؟ ضمن مؤلفات اساسية: "الورثة"، "إعادة الانتاج"، "التمييز"، "الانسان الاكاديمي"، "محبة الفن"، "بؤس العالم"، "الهيمنة الذكورية"، حاول بورديو ان يحلل الآليات التي تتقبل عن طريقها المعايير والقيم التي تضمن استمرار منظومات الهيمة ودوامها. ان هذه الآليات غالباً ما تفلت من وعي الفاعلين بها و"تحتها"، فالتلاميذ الذين يخفقون في الدراسة، والأوساط الشعبية التي لا يمكن ان ترتاد المتاحف والمسارح وقاعات السينما والموسيقى... هذه المجموعات حتى وان كانت لا تشكو من اخفاقها واستبعادها الثقافي، فإنها قلما تربط وضعها بمنظومة من القواعد والاحكام والسلوكيات التي تشكلت اجتماعياً لخلق الاختلافات، وسن الإكراه، وتكريس الهيمنة. ذلك ان الفاعلين "يطبقون على البنيات الموضوعية للعالم الاجتماعي بنيات للادراك والتقويم منحدرة من تلك البنيات ذاتها، وتتجه، بفعل ذلك، نحو ادراك العالم على انه أمر بديهي". ينفصل بورديو عن التحليل الماركسي الذي لا يرى في تقبل ضحايا الهيمنة لنظام الهيمنة اللامفعول للاستلاب والتشيوء والوعي المغلوط، واضعاً بدل واقع الاستغلال، الصورة المقلوبة للايديولوجيا، ان ما عجز التحليل الماركسي ان يبرزه، في نظر بورديو، هو ان الهيمنة تتخذ على الدوام، شكلاً عنيفاً حتى وان بدت "هادئة". ذلك ان العنف لا يكون بالضرورة مادياً، وهو غالباً ما يكون عنفاً رمزياً. غير ان العنف الرمزي ليس مجرد عنف معنوي لا تجليات جسدية له. يعتقد بورديو ان العنف، حتى وان كان رمزياً، فهو يؤشر على الاجساد و"يعمل" فيها: "فالقوة الرمزية هي شكل من أشكال السلطة التي تعمل في الاجساد عملها مباشرة، وذلك في غياب كل قهر جسدي". ذلك ان ما يميز "حقول الانتاج الرمزي" هو ان علائق القوة بين الفاعلين لا تمثل الا محولة الى علائق بين معانٍ ودلالات". ان ما يتجلى من اجماع في "العالم الاجتماعي" ليس "صوراً مقلوبة" وانما تواطؤاً بين أفراد، بين نفوس وأجساد، أو على الأصح بين أجساد "طيّعة" تشربت علائق القوة، وخضعت لسلطة الرمزي الذي يعمل بطريقة سحرية تهيمن من دون قهر كي تمارس عنفها الظريف.