كان أول من طرح شعار الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، كحل واقعي للمسألة الفلسطينية واليهودية، كان "عصبة التحرر الوطني الفلسطيني". فهي دعت الى اقامة حكم وطني ديموقراطي مستقل، يضمن حقوق سكان فلسطين جميعاً، وذلك في المذكرة التي رفعتها في تشرين الأول أكتوبر 1945 الى رئيس الوزراء البريطاني. وعارضت العصبة في مذكرة الى الأممالمتحدة مشروع تقسيم فلسطين، إذ ان تطبيقه سيؤدي الى القضاء على امكانات التفاهم بين العرب واليهود. واعتبرت "العصبة" ان قيام الدولة اليهودية من شأنه أن يجعلها قاعدة للامبريالية في الشرق الأوسط. بيد ان مستجدات الصراع وصدور قرار الأممالمتحدة الخاص بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية وضعا "العصبة" أمام خيار صعب. فعلى رغم اقرارها بالاجحاف الكبير الذي ألحقه قرار التقسيم، الا ان البديل الواقعي عن القبول به - كما يقول الروائي الفلسطيني إميل حبيبي - "هو كارثة مهولة تحل بالشعب العربي الفلسطيني". لذا غيرت العصبة من موقفها من التقسيم ووافقت عليه. بعد حزيران يونيو 1967 تجددت المناقشات في شعار الدولة الديموقراطية العلمانية .... فحين طرحته "فتح" في أواسط العام 1968، أثار نقاشاً فلسطينياً وعربياً. وطرح الدولة الديموقراطية العلمانية حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون واليهود آل إلى عملية فصل بالغة الأهمية بين اليهود، كأصحاب ديانة يهودية سماوية، وبين الصهيونيين كأصحاب مشروع استعماري امبريالي. وهو ما شكّل قفزة نوعية في الفكر السياسي الفلسطيني إذا استثنينا الشيوعيين - العصبة صدمت، بدورها، أصحاب النظرة التقليدية الفلسطينية والعربية، وسندها مقولة عدم وجود أي فارق بين اليهودي والصهيوني. وبعد قيام اسرائيل واغتصابها الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، بموجب قرار التقسيم، هذا فضلاً عن وجودها غير الشرعي، وبعد تشريد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني وسلسلة الحروب، ومع تعميق العداء والكراهية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وبعد أن أصبح 60 في المئة من يهود اسرائيل من مواليدها - بات بعد كل ذلك على الفكر السياسي العربي والفلسطيني ونفر قليل جداً من الاسرائيليين، أن ينظروا بتروٍ الى أطروحة الدولة الديموقراطية العلمانية.وذلك لأن الظروف السياسية التي دعت فيها "عصبة التحرر الوطني الفلسطيني" الى الأخذ بشعار الدولة الديموقراطية العلمانية قبل نكبة فلسطين مختلفة كل الاختلاف. ان قيام اسرائيل قوض اي امكان لقيام دولة ديموقراطية علمانية تقوم على أساس الصوت الواحد للمواطن الواحد، بغض النظر عن أصوله العرقية أو الاثنية أو الدينية. فما بالنا بعد خمسين عاماً ونيف من النكبة نعيد احياء ما هو في عداد الأموات. ان الدعوة الجديدة/ القديمة الى قيام دولة ديموقراطية علمانية على كامل مساحة فلسطين الانتدابية يحمل في طياته اشكالية هوية الدولة المنتظرة. فلا هي فلسطينية، تجمع تحت لوائها العرب الفلسطينيين حصراً، وتخرج من صفوفها اليهود الاسرائيليين، ولا هي اسرائيلية يهودية تلفظ من نطاقها الاقليمي السياسي العرب الفلسطينيين. بل هي دولة تذوب فيها القوميتان "الاسرائيلية" و"الفلسطينية" في بوتقة الدولة ذات الصبغة الديموقراطية العلمانية. ثم كيف يمكن اقامة دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين من دون تقويض المشروع الصهيوني برمته، أي من دون شطب اسرائيل من الجغرافيا والتاريخ والسياسة؟ ألا يشكل خيار الدولة الديموقراطية العلمانية دعوة متأخرة نصف قرن ونيف عن امكان تطبيقها؟ لعل أي محاولة استشرافية لمستقبل الصراع تشير الى حال يمكن وصفها بانسداد الآفاق. فلا الحل القومي، أو الثنائي، أو الاندماجي، يملك رصيداً ممكناً للممارسته ضمن اطار الممكن، اللهم الا معالجته نظرياً خارج "فن الممكن". دمشق - عبده الأسدي باحث فلسطيني مقيم