تشهد ألمانيا منذ سنوات إعادة نظر في مواقفها تجاه إسرائيل. وحدث في هذا الإطار تغير في لهجة المسؤولين ووسائل الإعلام الألمانية تجاه الدولة اليهودية. وعلى سبيل المثال لم يعد انتقاد هذه الدولة محرماً، ولا تأييد إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، كما كان عليه الحال قبل بضع سنوات خلت. ومع وصول آرييل شارون إلى الحكم ازدادت حدة هذا الانتقاد في أحيان كثيرة. ووصل الأمر بجريدة واسعة الانتشار مثل "فرانكفورتر الجيماني تسايتونغ" Frankfurter Allgemeine Zeitung إلى نشر مقالات تحت عناوين جريئة مثل "كل فلسطين في السجن" أو "المشكلة أسمها إسرائيل". ووصف يورجن موليمان نائب رئيس الحزب الديموقراطي الحر ما يقوم به شارون بأنه إرهاب دولة. وطالب موليمان الحكومة الإسرائيلية بدفع تعويضات جراء تخريبها مدرج مطار غزة والمؤسسات الفلسطينية الأخرى التي تم بناؤها بأموال ألمانية وأوروبية. وشهدت برلين أخيراً ندوة لمناقشة سياسة ألمانيا الشرق أوسطية وآفاقها. وجاءت الندوة لمناقشة ما جاء في كتاب صدر في الخصوص، وشارك في تأليفه، إلى جانب فولكر بيرتس، الباحث الألماني المعروف والمتخصص في الشؤون العربية، عدد من أعضاء البرلمان الألماني مثلوا مختلف الأحزاب السياسية الفاعلة. ولكن ما يؤخذ على الجديد في الموقف الألماني تجاه إسرائيل أن جرأة الانتقاد العلني لم تصل بعد إلى ممثلي الفئة السياسية العليا، من وزن المستشار وأعضاء حكومته أو أعضاء حكومات المقاطعات الألمانية. والتغير المذكور لم يؤثر فعلياً في التزامات ألمانيا ودعم إسرائيل عسكرياً وسياسياً. ودل على ذلك أخيراً موقف وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر حزب الخضر تجاه البضائع الإسرائيلية التي تصدر إلى الاتحاد الأوروبي من المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد عطل فيشر قراراً أوروبياً يقضي بعدم السماح لهذه البضائع دخول سوق الاتحاد. ويبدو أن إسرائيل بدأت تخشى موجة الانتقادات المتزايدة لها في مختلف المحافل الألمانية. ويزيد من مخاوفها الصدى الإيجابي لهذه الموجة في الرأي العام. وعلى هذا الأساس بادرت الجهات الإسرائيلية المعنية للقيام بحملة مضادة ومكثفة ضد الأصوات المطالبة بسياسة ألمانية متوازنة، بحجة أنها معادية للسامية، ولا تقدر خطورة الإرهاب الذي تعانيه الدولة اليهودية على يد العرب. وتقود سفارة إسرائيل في ألمانيا هذه الحملة بواسطة سفير وأكاديميين وسياسيين يتقنون اللغة الألمانية، ويظهرون على شاشات التلفزيون الرئيسة وفي وسائل الإعلام الأخرى. وفي المقابل لم تظهر ردود فعل عربية قوية على التغيرات الإيجابية التي تشهدها ألمانيا حيال القضية الفلسطينية والحقوق العربية. وتستثنى من ذلك مبادرات، لا تزال محدودة الفاعلية، كتلك التي يحاول القيام بها مكتب الجامعة العربية في برلين، وعدد من الإعلاميين والمثقفين العرب في إطار مجموعات صغيرة أو في شكل فردي. ويأخذ الأصدقاء الألمان على الجهات العربية الفاعلة في الساحة الألمانية، وفي مقدمها السفارات سفارات الدول العربية ضعف روح المبادرة. وإن دل ذلك على شيء فعلى عدم فهم أهمية التغيرات الحاصلة في الساحة الألمانية. وازدادت أخيراً دعوات المسؤولين الألمان الى تكثيف الحوار المشترك، العربي والالماني، خصوصاً في المجال الاقتصادي. ويعكس هذا الأمر وعي ألمانيا بأهمية المنطقة العربية وسوقها المستقبلية، على حد تعبير وزير الاقتصاد والتكنولوجيا الألماني فيرنر موللر في كلمته التي افتتح بها الملتقى الاقتصادي العربي الألماني صيف العام 2001. ولكن المشكلة تكمن في ترجمة الدعوات المذكورة إلى واقع عملي. وقد بادرت مؤسسات مشتركة، مثل غرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية، الى تنظيم لقاءات تجمع عدداً مهماً من صناع القرار العربي والألماني دورياً، ولكن نجاحها في حاجة إلى عمل سياسي مواكب ينبغي على السفارات ومكتب الجامعة العربية القيام به في شكل مشترك بغية كسب ما يمكن تسميته مجموعات برلمانية وحكومية متفهمة للموقف العربي وداعمة للتعاون المشترك. والمصالح الاقتصادية العربية والألمانية تتنامى في شكل مضطرد. وعلى سبيل المثال وصل حجم التبادل التجاري العربي - الألماني إلى حوالى 22 بليون يورو عام 2000م، ما يعادل أكثر من أربعة أمثال مثيله الإسرائيلي - الألماني البالغ 4.8 بليون يورو. ويقدر حجم الاستثمارات العربية في ألمانيا بما لا يقل عن 50 بليون دولار. ومع تحقيق السوق العربية المشتركة تتاح للشركات الألمانية مجالات تصريف لسلع ومنتجات بعشرات البلايين من الدولارات سنوياً. برلين - ابراهيم محمد