"إننا الآن نواجه منافسة ضخمة وعنيفة وعسيرة لا بد أن نخوضها برباطة جأش إذا كنا نريد المحافظة على مكانتنا في مواجهة بلاد ودول ليست صديقة لنا. يجب علينا فتح اسواق جديدة وفي الوقت نفسه نستمر في الاحتفاظ بالاسواق القديمة مفتوحة أمامنا. إننا الأمة الأكثر ليبرالية وانفتاحاً بين كل الدول التي عرفها العالم مطلقاً، مع ذلك فإننا ايضاً الاكثر معاناة من كراهية الآخرين لنا. هؤلاء الآخرون يكرهوننا ويحسدوننا ويشهرون بنا بأساليب فاضحة وبغيضة ومخزية. إنهم يشوهون سمعتنا ويشعرون بالارتياح من اعتقادهم أننا في طريق السقوط من منزلتنا الرفيعة". هل هذا اقتباس من الرئيس الأميركي جورج بوش وتساؤلاته المستمرة منذ 11 ايلول سبتمبر عن: لماذا يكرهوننا؟ هل هو اقتباس من جوقة كتاب اليمين المتطرف في الولاياتالمتحدة الذين ألحوا على المواطن الأميركي بأن ما جرى في 11 ايلول سبتمبر هو من فعل "الآخرين" ولمجرد "انهم يحسدوننا"؟ هذا جرى فعلاً منذ 11 ايلول سبتمبر الماضي حتى الخطاب الرئاسي الاخير لجورج بوش عن "حالة الاتحاد" الذي أعلن فيه حرباً بلا هوادة من الخير ضد الشر، ومن "نحن" ضد "الآخرين" الرافضين للقيم الأميركية وربما ايضاً للحضارة الغربية. لكنه ليس كلاماً لجورج بوش ولا 11 ايلول سبتمبر ولا لعرب أو مسلمين. فالشكوى هنا من كراهية الآخرين جرت علناً قبل مئة سنة على لسان جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني من كراهية سكان المستعمرات لبريطانيا وتشويههم لسمعتها، ولم يكن هؤلاء سوى الأميركيين اساساً والألمان في الوسط والفرنسيين لاحقاً. في ظاهر الامور لم يكن لدى بريطانيا في سنة 1902 سبباً واحداً للتذمر والشكوى. بريطانيا امبراطورية لا تغرب عنها الشمس والاراضي التي تسيطر عليها حول العالم تتجاوز 12 مليون ميلاً مربعاً بسكان يبلغون ربع تعداد العالم، وبريطانيا بمفردها نسبتها 23 في المئة من اجمالي الانتاج الصناعي العالمي ونصيبها من التجارة العالمية 2.23 في المئة وعملتها الخاصة - الجنيه الاسترليني - هي السائدة عالمياً وبنوكها وشركات التأمين لديها تكاد تسيطر على الاقتصاد العالمي. لكن بريطانيا تشكو: انهم يكرهوننا ويشهرون بنا بينما نحن اكثر دول العالم انفتاحاً وليبرالية وحرصاً على التجارة الحرة. هؤلاء "الآخرون" الكارهون لبريطانيا وقتها مجرد دول بازغة صناعياً كالولاياتالمتحدة وألمانيا وفرنسا، بل أن معظم التجارة الخارجية الأميركية كانت تجري بالجنيه الاسترليني، واستثمارات بريطانيا الخاصة في تلك الدول "الجاحدة" هي الاكبر، لكن مع اتجاه تلك الدول لحماية صناعاتها الناشئة واجادتها اللعبة نفسها التي بدأتها بريطانيا نشأ احساس بالغضب داخل جزء من "المؤسسة" البريطانية قفزاً على جوهر المشكلة باختصارها في حكاية: الآخرون يكرهوننا، مع الوقت ومزيد من الدراسة والفحص اكتشف جزء آخر من المؤسسة الحاكمة أن الاصلاح الحقيقي للاقتصاد البريطاني يجب أن يبدأ من الداخل. فمع سنة 1902 كانت بريطانيا العظمى استنفدت ما يحققه لها تفوقها البحري وسيطرة اساطيلها على أعلى البحار بما يحتم المراجعة. هذا يعيدنا الى أميركا، فلنترك إرهاب 11 ايلول سبتمبر موقتاً لنتأمل إرهاباً تالياً له. إنها حالة الهوس التي خلقتها رسائل متتابعة مجهولة المصدر موجهة الى شخصيات وعناوين مهمة - معظمها داخل أميركا وبعضها حول العالم. رسائل تحمل مسحوق الانثراكس - الجمرة الخبيثة - أو ما يشبهه. بالطبع نشأت حالة عامة من الذعر تعطلت فيها مصالح ملايين من الناس وجرى اغلاق مباني عامة موقتاً في مقدمها الكونغرس واسبوعاً بعد اسبوع حامت الشبهات حول العدو نفسه الذي يجري الترويج ضده: العرب والمسلمون ولأكثر من شهرين عاش كل أميركي في توجس من الخطر، ليس فقط توجساً من مجرد جار يحمل ملامح شرق أوسطية، ولكن ايضاً من بطاقة معايدة تجيىء اليه بالبريد. طوال هذا كله لم يفصح احد للمواطن الأميركي أن الحكومة الأميركية ذاتها هي الاقل مفاجأة في القصة كلها. فمبكراً في شهر تموز يوليو سنة 1998 عقدت السلطات الأميركية المختصة اجتماعاً سرياً قرب واشنطن العاصمة ضم عشرة من رجال الاستخبارات والاطباء وكبار الخبراء الأميركيين في الحرب الجرثومية، محور المطروح في الاجتماع كان السؤال الآتي: ما هو نوع الإرهاب البيولوجي الذي توجد فرصة معقولة لممارسته ضد أميركا خلال السنوات القليلة التالية؟ في الاجابة على السؤال وضع الخبراء سيناريوات عدة، اولها كان يتعلق بمسحوق الانثراكس تحديداً وامكان استخدامه ضد حشد من المواطنين في سوق تجاري مكتظ بالزبائن، الاعراض هنا لا تظهر فوراً ولكن خلال ايام، ومقابل كل شخص مصاب سيكون هناك عشرة يهيئ لهم الرعب أنهم ايضا مصابون فعلاً بالمسحوق القاتل ومن هنا تنشأ حالة عامة من الرعب تحاصر السلطات الطبية والامنية من كل جانب. لكن السؤال الآتي هو: من له مصلحة في إشاعة مثل هذا الرعب الجماعي؟ واجابة الخبراء كانت هي: بالتأكيد لن تكون حكومة اجنبية او حركة سياسية وإنما الاحتمال الاغلب هو مجموعة صغيرة منعزلة هدفها الاساسي اثبات عجز الحكومة الفيديرالية في واشنطن من خلال مثل هذا النوع من الإرهاب حيث الضحايا قليلون لكن الاثر المروع في النسيج السياسي والاجتماعي الأميركي سيكون ضخماً. في الخلاصة: ابحثوا اولاً في الغرب الاوسط داخل أميركا قبل أن تبحثوا في الشرق الأوسط. تلك كلها معلومات نشرت في حينه على مستوى النخبة، لكن حينما جرت الواقعة فعلاً ونشأ هوس رسائل الانثراكس - الجمرة الخبيثة - داخل أميركا اتجهت العيون الغاضبة الى كل مكان، إلا إلى أقرب مكان، وحين اتضح ان المعامل العسكرية الأميركية هي وحدها في العالم كله التي قامت سابقاً بتخليق الانثراكس في شكل بودرة ومسحوق، توارت المعلومة في صفحات داخلية حتى لا تشوش على التساؤل الكبير منذ 11 ايلول سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟ الأسوأ من السؤال نفسه كان حصره تحديداً في العرب والمسلمين وبمدفعية اعلامية وسياسية كاسحة أرغمت كثيرين بيننا فعلاً على التصرف كمذنبين، لم يعد السؤال: لماذا العرب والمسلمون؟ وإنما اصبح: كيف يدلل هؤلاء المذنبون المسلمون - شعوباً وثقافات بالكامل - على أنهم أبرياء من خلال التكيف والاذعان والتدليل على حسن السير والسلوك. للدول العظمى ثقلها الخاص في الحياة الدولية بما يعطي كلماتها فعل صواريخ "كروز" فإذا كان الحديث عن دولة عظمى منفردة بعرش القوة عالمياً منذ عشر سنوات على الاقل تصبح مراجعتها اشبه بالكفر والزندقة. في الحياة الواقعية على ارض الواقع لا تمضي الامور هكذا. في الواقع، كثيراً ما تصبح القوى العظمى هي بذاتها كوارث عظمى. لن ارجع هنا الى بعيد. سأرجع فقط الى سنة 1995 حين صدر كتاب مهم لروبرت ماكنمارا وزير الدفاع في سنوات جون كينيدي وجزء من سنوات ليندون جونسون. ماكنمارا كان نجم حرب فيتنام بمؤتمراته الصحافية واحصائياته الدورية التي تؤكد للشعب الأميركي انتصار قواته المسلحة في فيتنام. في إحدى النقاط استقال ماكنمارا - أو اقيل - لأسباب لم يكشف عنها الا في مذكراته بعد وقت طويل. إنما الأهم من الأسباب هو الحقيقة المرعبة التي كشف عنها ماكنمارا في مذكراته. حقيقة أن أميركا ذهبت الى فيتنام وهي جاهلة وعمياء تماماً بحقائق الموقف هناك. وحسب ماكنمارا فإن كل الخبراء الأميركيين بتلك المنطقة من آسيا كان قد جرى التخلص منهم مبكراً في حمى الكارثية مطلع الخمسينات بشبهة أنهم ليسوا صقورا بدرجة كافية ضد الخطر الشيوعي الأحمر. وبعد 55 ألف قتيل أميركي وهزيمة مهينة ومليونين من القتلى الفيتناميين اكتشفت أميركاب بأثر رجعي أن فيتنام لم تمثل في أي وقت خطراً يهدد اسيا بالشيوعية وان هوشي منه كان زعيماً وطنياً فيتنامياً وليس الألعوبة التي تصورها الأميركيون في ايدي موسكو وبكين. في الحوارات التالية عن كتاب ماكنمارا في سنة 1995 يبدو أن هذا الاكتشاف فاجأ ايضا الجيل الجديد من الأميركيين. عندها قال لهم ماكنمارا: دعوني أضرب لكم مثلاً حياً من الحاضر وليس من الماضي. البعض يتحدث في واشنطن احياناً عن العرب والمسلمين. دعوني اقولها لكم صريحة: إنني اتحدى أن يوجد الآن في البيت الأبيض بجوار الرئيس أو في مكتب وزير الدفاع أو وزير الخارجية أي خبراء في شؤون العرب والمسلمين، خبراء يعرفون فعلاً اولئك الناس وأوجاعهم وطموحاتهم وثقافاتهم. لكن تحذيرات ماكنمارا ذهبت هباء، بدليل الهوس الذي نتابعه أميركياً ضد العرب والمسلمين منذ 11 ايلول سبتمبر الماضي، هوس لخصه تساؤل رئاسي هو: لماذا يكرهوننا؟ الحقيقة الأولى هنا هي أن لا أحد يكره أميركا، والمواطن الأميركي يستطيع أن يسير آمنا في شوارع القاهرة أو الرياض او دمشق بأكثر مما هو آمن في شوارع نيويورك او شيكاغو او هيوستون. الحقيقة الثانية هي ان المواطن العادي، وليس حتى المثقف، في أي بلد عربي لديه من الحس البديهي ما يجعله يفرق بين المواطن الأميركي والسياسة الأميركية. في السياسة الأميركية، ومن بين الغث الكثير الذي تابعناه اعلامياً في أميركا منذ 11 ايلول سبتمبر اقتبس هنا بعضاً من مقال رصين في "الواشنطن بوست" كتبه كاي بيرد ومارتن شيروين. في المقال يقول الكاتبان: "بالنسبة الى الأميركيين وما يتعرضون له من أخطار في هذا العالم فإنهم بغباء يبددون اول وأقوى خطوطهم الدفاعية: سمعتهم باللعب النظيف النزيه. بهذا المعنى فإن 11 ايلول سبتمبر هو الفشل النهائي لسياسة خارجية لطخت بانتظام سمعة الولاياتالمتحدة. فطوال نصف قرن رضيت مؤسسة السياسة الخارجية عن نفسها بما جعلها تفترض ان أميركا تستطيع التصرف في العالم الثالث بغير عقاب. لقد خاض الأميركيون الحرب الباردة في ميادين العالم الثالث بما يجعل قائمة التدخلات الأميركية التي جرت فعلاً مذهلة: ايران، كوريا، غواتيمالا، الكونغو، فيتنام، تشيلي، نيكاراغوا. بالطبع - كل الشرق الاوسط، لقد سقط ملايين من القتلى". ويضيف الكاتبان الأميركيان ايضاً: "تحتاج الولاياتالمتحدة الى سياسة خارجية ذكية تخاطب المواجع الكامنة التي تغذي الغضب الانتحاري. الأميركيون في أمس الحاجة الى العودة خلفاً الى البلد الذي كانوا عليه في سنة 1945 قبل هيروشيما وقبل أن يسلكوا طريقهم الى الدولة ذات الأمن القومي الدائم. معظم الأميركيين الآن لا يذكرون رؤى فرانكلين روزفلت وأصحاب الصفقة الجديدة وأفكارهم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في ما بعد الحرب، حقوق الانسان، تقرير المصير، نهاية الاستعمار، نزع السلاح النووي، القانون الدولي، محكمة العدل الدولة، الأممالمتحدة - تلك كلها كانت أفكار الجناح اليساري التقدمي للحزب الديموقراطي، بما فيها أن على الأميركيين أيضاً الإذغان لقرارات الأممالمتحدة ومحكمة العدل الدولية" انتهى الاقتباس. بالطبع، هذا لم يحدث حتى الآن. واذا احتكمنا الى خطاب جورج بوش الأخير عن "حال الاتحاد" فإنه لن يحدث، ما يحدث هو فقط شعار مستمد من قاموس الانبياء والقديسين: الخير ضد الشر. من ليس معنا فهو مع الإرهاب. ما يحدث هو صواريخ "كروز" ومحاكم عسكرية سرية واعتقال بلا تهمة والمعتقل مذنب الى أن يثبت العكس. إنهم حتى لم يوجهوا كلمة شكر واحدة الى كل الدول التي تضامنت معهم وساعدتهم بعد 11 ايلول سبتمبر مسلمين ومسيحيين. بدلا من ذلك، الإلحاح مستمر على ذلك السؤال المدهش: لماذا يكرهوننا. وحينما استقريء التاريخ الآن اندهش. في الأمبراطوريات السابقة خلق الله لها عقلاً اولاً وبعدها جاءت العضلات. أما في الحالة الأميركية فقد جرى العكس. العضلات أولاً، وبعدها ربما يجيىء العقل. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية