Viviane Forrester. La Dictature du Profit. ديكتاتورية الربح Poche/ Fayard, Paris. 2001. 222 Pages. قبل الحديث عن هذا الكتاب، لا بد من الحديث عن مؤلفته. ففيفيان فورستر كانت أصابت بالكتاب الذي أصدرته عام 1996 تحت عنوان "الفظاعة الاقتصادية" شهرة عالمية. فقد ترجم الى 25 لغة، بما فيها العربية. واعجب ما في الشهرة التي نالتها مؤلفة "الفظاعة الاقتصادية" أنها هي نفسها ليست باحثة اقتصادية ولا اجتماعية، بل هي روائية، وما فتئت تصدر منذ العام 1970 رواية جديدة كل سنتين أو ثلاث. والواقع أن كتابها لم يكن، بخلاف ما يوحي عنوانه، دراسة في الاقتصاد، بل كان عبارة عن "أهجية" بكل ما هذه الكلمة من معنى. وبما أن موضوع هذه الأهجية كان العولمة وايديولوجيتها المفترضة: الليبرالية المتطرفة، فقد وجد الكتاب، بصورة مسبقة، الجمهور القارئ الذي كان ينتظره. فالعولمة هي شيطان العصر الجديد المطلوب رجمه بالقوة نفسها وبالنزق نفسه الذي كان يرجم به الشيطان القديم المسمى "الامبريالية"، أو "الرأسمالية العالمية" في الزمن الذي كانت فيه الماركسية تحتفظ بمصداقيتها كاملة بوصفها "ايديولوجيا العصر". كتاب فيفيان فورستر الجديد "ديكتاتورية الربح" لا يكاد يتميز عن كتابها السابق "الفظاعة الاقتصادية" لا بموضوعه ولا بأسلوبه: فهو استمرار للأهمية نفسها تحت عنوان جديد. وربما من زاوية جديدة أيضاً، وذلك بقدر ما أن مؤلفة "ديكتاتورية الربح" تحاول أن تفرق، لا أن تجمع، بين العولمة والليبرالية المتطرفة. فالعولمة يمكن أن تكون ظاهرة تاريخية موضوعية. وبوصفها كذلك يمكن أن يكون لها خيرها وشرها، ايجابياتها وسلبياتها. أما الليبرالية المتطرفة فظاهرة ايديولوجية ذاتية، تدعي لنفسها حق تسيير العولمة، وتسعى إلى أن تفرض نفسها على مستوى الشعور، كما اللاشعور الكوني، وكأنها مرادفة للعولمة ومحتومة مثل حتميتها. ما المقصود ب"الليبرالية المتطرفة"؟ إنها ذلك النظام الايديولوجي المؤسس على الاعتقاد، أو على وهم الاعتقاد، بأن اقتصاد السوق هو النموذج الاقتصادي الأصلح للبشرية، وأن هذا النموذج ناظم لنفسه بنفسه، وفي غنى بالتالي عن كل تدخل من خارجه، لا سيما من جانب الدولة. وبعبارة أخرى، ان الليبرالية المتطرفة هي بمثابة "يوطوبيا اقتصادية" خالصة تلغي العامل الأساسي وتؤكد على ضرورة "كف يد" الدولة، لأن اقتصاد السوق، إذا ما اطلقت الحرية تامة لآلياته، كفيل بأن يقود البشرية إلى الفردوس الأرضي. ضد هذا "الوهم" الاقتصادي تشن فيفيان فورستر حربها. ولكن كما في جميع الحروب ضد الأوهام، فإنها لا تفلح دوماً في تماشي السقوط في مطب الدونكيشوتية. فعلى فرض أن الليبرالية المتطرفة هي فعلاً شيطان العصر الرجيم، فما علاقة مبدأ الربح به، وهو مبدأ عتيق عتق البشرية، وقد عرفته اقتصادات البشرية في جميع أطوار تطورها، ولم تتمكن من إلغائه أو التنكر لمشروعيته حتى الأنظمة الموصوفة بأنها "اشتراكية"؟ وفيفيان فورستر لا تتحفظ في مفرداتها: فعندها أن مبدأ الربح الليبرالي "جنون"، "عصاب"، "وحش كاسر" يمارس ديكتاتوريته على البشرية جمعاء، فيتسبب في بطالة مئات الملايين، ويحكم على نصف البشرية بأن تعيش تحت عتبة الفقر، ويدمر القيم الديموقراطية، ويخرب القطاعات الأكثر لزوماً للحضارة مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة. ثم ان أفظع ما في "ديكتاتورية الربح" أنها لامنظورة ولامسماة. ومن هنا أصلاً طابع الغلو في عنوان الكتاب وفي أسلوبه الهجائي. فمؤلفته تريد، بأي ثمن، أن تظهر تلك الديكتاتورية وأن تسميها، ولو من دون أن تنفذ إلى عمق آلياتها الاقتصادية الموضوعية: فهذه مهمة متروكة للاختصاصيين! ومع حرص مؤلفة "ديكتاتورية الربح" المعلن على التمييز بين العولمة كظاهرة تاريخية وبين الليبرالية المتطرفة كآيديولوجيا سائدة و"متنكرة في ثياب العولمة"، فإن نقدها لما تسميه ب"الشعبذة الليبرالية الجديدة" ينزع دوماً إلى أن يكون نقداً للعولمة نفسها. وعلى هذا النحو تصب جام غضبها على سياسة ترحيل المصانع التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات، مثل "سوني" و"اكاي" و"طومسون" و"الكاتيل"، وتحمّلها مسؤولية ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل ومعدلات البطالة في البلدان الأوروبية المركزية. والظاهرتان كلتاهما لا مماراة فيهما: ترحيل المصانع وارتفاع نسب البطالة. ولكن أهذا شر مطلق، كما تحاول تصويره مؤلفة "ديكتاتورية الربح"؟ ولماذا لا ترى الوجه الآخر من الميدالية؟ فالعولمة، التي تخلق بطالة، في بلدان المركز، تخلق أيضاً عمالة في بلدان الأطراف. والمصانع التي تغلق في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية يعاد فتحها في أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، فضلاً عن آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية التي غدت في العقود الأخيرة المستفيدة الأولى من ظاهرة العولمة وترحيل مراكز الانتاج. وعلى رغم الطابع الاقتصادي المفترض لكتابها، فإن فيفيان فورستر لا تورد فيه من أرقام سوى تلك التي تتعلق بتسريح العاملين في بعض الشركات الفرنسية والدولية الكبرى، وسوى تلك التي تتعلق بأعداد الفقراء ومعدلات الحياة تحت عتبة الفقر في بعض البلدان الأوروبية المركزية والولاياتالمتحدة. وفي ما يتعلق بتسريحات العمال، فإنها تورد الأمثلة الآتية التي تعود جميعها إلى شهر آذار مارس 1996. ففي السابع من ذلك الشهر أعلن عملاق الهاتف الأميركي "تي. ان. تي" عن تسريح 40 ألف عامل. وفي التاسع من ذلك الشهر أعلنت شركة "سوني" اليابانية عن إلغاء 17 ألف وظيفة عمل، وكذلك فعلت شركة "الكاتيل" الفرنسية التي أعلنت يوم 11 آذار عن تسريح 12000 عامل، مما جعل مجموع الذين استغنت عن خدماتهم يصل إلى ثلاثين ألفاً في مدى أربع سنوات. وفي يوم التاسع عشر أعلنت "تلكوم" الألمانية، عقب خوصصتها، عن نيتها الاستغناء عن خدمات 70000 عامل خلال السنوات الثلاث المقبلة. وفي ذلك اليوم نفسه أضافت شركة الطيران السويسرية إلى قائمة المسرحين، التي كانت طالت 1200 عامل، قائمة جديدة طالت 1600 عامل. وازاء هذه الأرقام لا يمكن للمرء إلا أن يتساءل: هل يعود السبب في هذه التسريحات إلى "ديكتاتورية الربح" والممارسات "العولمية في ترحيل المصانع ومراكز الانتاج كما تفترض الكاتبة، أم إلى أزمة النصف الأول من التسعينات، وهي واحدة من أقصى الأزمات الدورية التي مرت بها الرأسمالية العالمية منذ أزمة 1929 الكبرى؟ ثم ان عدة من الشركات المشار إليها كانت تنتمي إلى القطاع العام مثل "الكاتيل" الفرنسية و"تلكوم" الألمانية و"سويس إير" السويسرية. ومعلوم أن شركات القطاع العام هي دوماً مترهلة بفرط العمالة والتضخم البيروقراطي. فهل التسريحات في إطار مثل هذه الشركات تنم عن شراسة ووحشية السياسات الموصوفة بأنها متطرفة، أم أنها تعكس الحاجة الى التصحيح البنيوي لأوضاع شركات القطاع العام، بعد خصخصتها واعادة القدرة على المنافسة اليها، وهو شرط البقاء بالنسبة الى أي شركة عاملة في اطار النظام العالمي للرأسمالية؟ وقل مثل ذلك عن الأرقام التي تسوقها مؤلفة "ديكتاتورية الربح" عن معدلات الحياة تحت عتبة الفقر في البلدان الرأسمالية المركزية. فالميدالية الذهبية تعود في هذا المجال الى الولاياتالمتحدة التي ترفع نسبة الذين يعيشون تحت عتبة الفقر من مواطنيها الى 1،19 في المئة طبقاً للمعطيات الاحصائية للتقرير العالمي عن التنمية البشرية، الصادر عن برنامج الأممالمتحدة للتنمية عام 1998. أما الميدالية الفضية فتعود إلى بريطانيا: 5.13 في المئة، بينما تستأثر فرنسا بالميدالية البرونزية: 5.7 في المئة فقط. والسؤال الذي يطرح نفسه ههنا أيضاً: هل ظاهرة الحياة تحت عتبة الفقر هذه في البلدان الرأسمالية المركزية هي من افراز عصر العولمة ونتيجة وخيمة من نتائج السياسة الليبرالية المتطرفة، أم أنها ثابت بنيوي دائم في النظام الرأسمالي العالمي الذي ما ادعى في يوم من الأيام أنه يلغي قسمة الناس إلى اغنياء وفقراء، وإن تكن ميزته على جميع الأنظمة الاقتصادية الطبقية التي تقدمته تاريخياً هي أنه أنمى إنماء غير مسبوق إليه في التاريخ تعداد الطبقات الوسطى التي باتت تشكل ثلثي السكان في بلدان الرأسمالية المركزية النامية ديموقراطياً؟