في نهاية روايته "ليل البلاد" دار الآداب - 2002، يحوّل الكاتب العراقي جنان جاسم حلاوي شخصية روايته المركزية، عبدالله، الى شبح، يهيم بين انقاض مدينته البصرة، بأسماله المخرّقة وسحنته المرعبة ويديه المشوهتين. أما كيف تحول ذلك المواطن العراقي البسيط، المستقل الانتماء، الفاشل في دراسته الجامعية، ابن البصرة الطيب، الى شبح، فهذا ما يستدعي الدخول الى مملكة عبدالله، أي متن هذه الرواية المرعبة التي كتب على بابها مثل جحيم دانتي: أيها الداخلون أطرحوا عنكم كل أمل. فهي رواية اللاأمل، ورواية الموت، والانسحاق البشري، وتحول الإنسان الى دودة في مسلخ المعسكرات العراقية، ابان الحرب الأولى التي تفجرت في الثمانين من القرن العشرين بين العراقوايران واستمرت ثماني سنوات. وعبدالله مواطن عادي فاجأته الحرب في بدء علاقته بحبيبته نوال. يود التخلص من تهمة انه مدني. ففي زمن الجنون الجماعي من الصعب الاحتفاظ بالعقل، فيسلّم روحه الى الجيش، حيث الحياة لم تعد سوى معسكر كبير، يدرّب فيه البشر ليذهبوا الى المحرقة، في البصرة والعمارة وخانقين والسليمانية وسواها من مدن أصبحت جبهات حرب. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فلكي تكون جندياً ينبغي عليك أن تزحف تحت أقدام من هم أعلى مرتبة منك. وينبغي لك أن تعتمر شاربين كثين رمز الرجولة، وتودع كل لون سوى لون الكاكي المغبر، الشبيه برمال ممحلة منذ قرون. يصف الكاتب شعرياً مثل رسام ماهر، مستلزمات أن يصبح عبدالله جندياً في جيش الوطن. الحالات المكانية التي يجد فيها عبدالله نفسه مرسومة بألوان أخاذة تنبض بالضوء. سواء في ام البروم، الساحة الشهيرة في البصرة أو بيته في محلة الداكير أو في معسكر التدريب لاحقاً. وصف المكان شعرياً، يخرجه من ثقله الجارح والمميت، يحوّله الى مادة لغوية ذات ثراء وغنى، على رغم بؤس الواقع وتفاصيله المرعبة. ثمة استحضار لدقائق المعسكر العراقي: روحية الضباط، المراتب الأخرى، الجنود وانسحاقهم واذلالهم، طرائق عيشهم الشبيهة بعيش البهائم، وذلك الروتين القاتل العبثي في السجن والعقوبة والاجازة. يلتحق عبدالله بالمعسكر، ويدخل السجن كونه حليق الشاربين، فالشوارب أصبحت في زمن الحرب رمزاً للرجولة والقوة، وكأن ذلك المواطن النكرة، ما ان ولج الى جحيم العسكر حتى صار يتقلّى من رعب الى آخر، فكان سجنه فصلاً مهولاً في تحولاته كإنسان. لم يتخيل في حياته السابقة انه سيسجن لأنه بلا شاربين، ولم يتخيل يوماً أن أحداً سيضع له رأسه في المراحيض عقوبة، لا لشيء إلا بسبب كونه مستقلاً لا ينتمي الى حزب السلطة. وفي كل ذلك وظف جنان لغته الزلقة المملوءة بالظلال والمعاني والتساؤلات، في رصد تحولات عبدالله وكيف استحال الى دودة ما ان دخل في الملابس العسكرية، ثم لاحقاً كيف صار شبحاً بعد ست سنين من ذلك التاريخ. وظف الحال المكانية والانسانية للشخصيات، سواء عبدالله أو المحيطون به، ليجعل من السرد ذا تموجات موسيقية خفيفة الايقاع، تحتاج الى تركيز العين والأذن والذهن لسماعها والاحساس بها. إذ امتلك الكاتب قدرة فائقة على توليد الصور، وتداخل الانتقالات ونثر الأحاسيس للشخصيات، بالتلازم مع حركة المكان وتغيراته. وعبدالله لولا انحداره من عائلة بسيطة تسكن البصرة مكونة من اب وأخ متأتئ وأم فلاحة وثلاث أخوات، لظن القارئ انه شبح كتب عليه العذاب، نازل من سماء بعيدة الى هذه الحياة كي يختبر ضلالاتها ودماءها ونذالاتها وقسوتها. في هذه الحياة فقط يتحول البشر الى حيوانات تفتك ببعضها بعضاً، تنهش بعضها بعضاً ولا ترحم الضعيف أبداً. والحرب لا ترحم. هكذا فهم الجندي المكلف عبدالله جلال ما يدور حوله، لذلك كره الحرب والعقداء والضباط والانتصارات والسجون. الحلم والحرية كان انساناً دائم الحلم بحرية فائقة سيعيشها ذات يوم في جزيرة نائية أو في عالم الأرواح، حيث كان مقدراً عليه الموت لولا أعاجيب القدر. انه ابن البصرة بتاريخها العريق، ذلك الذي يراه في الشناشيل وتمثال السياب وشط العرب، ومنعرجات النخيل وسفن البحارة الهنود والايرانيين وآثار القرامطة الذين مروا ذات زمن، حيث كل بلاطة تحمل ضحكة امرأة أو تبجحات واحد من الباشوات. ومن ذلك التاريخ الثري البعيد، ومن الواقع الغرائبي في تفاصيله ويكاد لا يصدق، ينحت جنان لغته الثرية، ويشكّل قاموسه، ولعبه الأسلوبية في الحلم واليقظة والتهاويم والسخرية والحوار. المكان والحال والانسان الذي بلغ حساسية فائقة في التقاط العذابات والمشاعر والأفكار، كل ذلك معجون في روح الكاتب وأبطاله ومدنه وتداعيات أفكاره، التي ظلت تغذ سيرها، خطياً، نحو مصائر محتومة رسمتها أحداث العراق، وهي غير قابلة للعب الخيال. وحين يصعب البقاء تحت وطأة كل ذلك، كثيراً ما ينتقل الكاتب ببطله الى سماء الحلم، لكنه حلم شاذ وغرائبي، مملوء بالكوابيس والأشباح. نعم وببساطة، من تهمة جندي بلا شوارب الى السياسة، ثم الهروب، في متاهة لم يعد عبدالله يعرف كيف يفلت منها. يُسجن، يهرب، يعود الى السجن، يُنقل الى جبهة الحرب، يرجع الى أهله بحثاً عن حبيبة مرت مثل طيف، وليس هناك من أمل في هذه المملكة الجحيمية التي حولت هذا الإنسان المسالم الى شخصية مهشمة بكل معنى الكلمة. في جبهة الحرب يدخل المواطن الطيب عبدالله الى فرن كافكوي، الى مقصلة بشرية، الى معصرة للأحلام والعظام والأيام، وآفاقه كلها مشتعلة، من البصرة جنوباً وحتى حاج عمران شمالاً. رواية حرب بامتياز؟ أجل، بل رواية حروب أخذت بخناق بعضها. وما يميز رواية جنان هذه عن روايات الحرب العراقية التي كتبت في الثمانينات، دعماً للمعركة، انها لا تحترم البطل، اذ ان الحرب لا بطولة فيها، بينما أكدت تلك الروايات المستوحاة من البيانات السياسية للحزب القائد على بطولة الجندي العراقي الخارقة، الجندي الذي لا يهزم. لكن عبدالله كان جندياً عراقياً مهزوماً، شخصية مهشمة، لكنها لا تموت. دافع الحياة لديها يجعلها تقاوم الاذلال والخوف والقذارة والخراب. بسبب الموت العام يتفجر دافع الحياة، قوياً عميقاً هائلاً. ولعل التفاصيل العسكرية: أنواع الأسلحة والمصطلحات والأماكن المسماة بأسمائها، وبلاغات الحرب التي صدرت في تلك الفترة، كلها تفاصيل نادراً ما يؤكدها الخيال، فهي نتاج خبرة الكاتب، وقد عاش مشرداً في فترة من حياته ما بين بغداد وشط العرب، لا يمتلك من الحياة إلا هوية مزورة ورأساً عنيداً. والرواية في الوقت ذاته خبرة ملايين العراقيين، أمثال المواطن الطيب عبدالله، الذي تحول الى دودة. المواطن الذي لم يمتلك أي موقف سياسي من الحرب، سوى رفضها، لأنها قتل للحياة، ولأنها عذاب، ولأنها تقمع رغبات المرء في المتعة والشبع والانطلاق والتنفس من هواء غير ملوث بالبارود، ورؤية مناظر خيالية من الدم والأشلاء وحفائر الأرض. هي حرب بين كراسٍ وصفقات وبترول وولاءات وأحقاد بعيدة. لذلك لم تكن حرب عبدالله فكرهها. ومن تلك الحرب اللعينة المملوءة بالخبرة، لم يخرج إلا معوقاً، بعرج خفيف نتيجة اصابته بشظية كادت تودي بروحه في واحدة من هجومات الايرانيين. وجاءت فرصة الخلاص حين نقل الى القاطع الشمالي، حيث الجبال والثوار المناوئون للسلطة، في منطقة الأكراد العصية. جبل قنديل وحصار وست وبشتاشان ومشارف سردشت الايرانية. وكان النفق يضيق قليلاً قليلاً. يتحول عبدالله الى أسير لدى الفصائل الشيوعية، ثم الى مقاتل معهم ليعيش تجربة أخرى تختلف كلياً هذه المرة. فهو اليوم في التيه، في تلك المنطقة الفاصلة بين الموت والحرية، بين المعسكر ومقر الثورة الخارجة على قوانين الحروب والقمع والارهاب. ان المصائر تمتزج والاقدار تختلط، وتصبح الحياة قوة تقاوم ظلام الموت. وهنا ترصد الرواية واحدة من أهم التجارب العراقية التي حدثت في ثمانينات القرن العشرين، ألا وهي تجربة الأنصار الذين رفعوا في تلك الفترة شعار اسقاط النظام بالقوة. تسير الرواية في طريق توثيقي، وتدخل في تفاصيل محلية بحتة، لها علاقة بتغير التحالفات مع ايرانوالعراق وتركيا، وبصراع القوى الكردية للهيمنة على أكبر قدر من الأراضي المحررة من السلطة العراقية. توثيقية أنقذها عبدالله بقدره المظلم، الدائم الفوران، لكنه يرتد أبداً الى فرن تحولاته البشرية. جاءت محاولته للسفر الى سورية فاشلة. اعترضتهم الجندرمة التركية ليلاً، ففضل الرجوع الى مدينته البصرة. لم يعد يثق بأحلامه. حلم الجبل والثورة وطائر الحجل تاه في وديان ناوزنك وممرت كلي علي بيك ومدينة بارزان. أصبح عبدالله مخلوقاً محبطاً بجدارة تستحق التهليل. لكنه لم يرجع انساناً سوياً الى بيته في البصرة المخربة. لقد مرت سنون أخرى، توقفت حرب ايران وتحول عبدالله الى شبح يهيم في خرائب محلة الداكير، قرب تمثال السياب. لقد كان شبحاً يقرأ منشورات تدعو جنوداً جدداً للاستسلام، في حرب ثانية، لم تبقِ هذه المرة ولم تذر...