جددت فرنسا مساعيها لاقناع بلدان شمال أفريقيا بضرورة احياء الاتحاد المغاربي وتحسين المناخ الاقليمي من دون المغامرة بعرض الوساطة بين الرباطوالجزائر لأنها تدرك بخبرتها الطويلة في شؤون المنطقة أن الأوضاع ليست ناضجة لتسوية سياسية لقضية الصحراء. وأظهر الفرنسيون من خلال عودتهم القوية الى المسرح المغاربي، والتي جسدتها زيارات وزير الخارجية دومينيك دوفيلبان الأخيرة الى كل من الرباطوطرابلسوتونس، اضافة الى اللقاء المهم الذي جمع الرئيسين جاك شيراك وعبدالعزيز بوتفليقة على هامش القمة الفرانكوفونية في بيروت، انهم يسعون الى استعادة ما ضاع في العقد الماضي ومجابهة المنافسين إن كانوا أميركيين أم شركاء لها في الاتحاد الأوروبي. وهكذا عكست الحركة الديبلوماسية الكثيفة في اتجاه عواصم المنطقة ضيقاً شديداً من الاهتمام الأميركي المتزايد بتطوير العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى التربوية مع بلدان شمال أفريقيا، فيما ألقت الخصومات التي فتحها الاشتراكيون مع كل من الجزائر والمغرب وتونس طوال سنوات حكمهم، ظلالاً كثيفة على الوجود الفرنسي في المنطقة وأضعفت - بحسب ما يعتقد "الشيراكيون" - من وزنها الاستراتيجي ليس فقط إزاء الولاياتالمتحدة وانما حتى إزاء شريكاتها في الاتحاد الأوروبي اسبانيا والمانيا وايطاليا. ولعل الخطوة اللافتة في هذا المجال كانت في اتجاه ليبيا التي مرت علاقات فرنسا معها طوال العقدين الماضيين في ظل الحكومات الاشتراكية بأزمات عاصفة. ويبدو أن الأكثرية الحالية تسعى الى اقفال قوس الأزمات. إذ زار دوفيلبان طرابلس أخيراً في أول زيارة لوزير خارجية فرنسي منذ 20 عاماً. وشكل تنشيط العلاقات الثنائية وتسوية الملفات العالقة، وفي مقدمها ملف ضحايا طائرة الشركة الفرنسية "يو تي آي" الذي أوقع 170 قتيلاً بينهم 53 فرنسياً عام 1989 فوق صحراء النيجر، والتي تنفي ليبيا أي مسؤولية لأجهزتها في التخطيط لها، العنوان الرئيسي للمحادثات التي أجراها دوفيلبان مع العقيد معمر القذافي وكبار المسؤولين الليبيين. وتعزز التقارب بعقد اللجنة المشتركة للتعاون أول اجتماعاتها في باريس في 21 و22 من الشهر الماضي برئاسة وزيري الخارجية، وبدا واضحاً ان الفرنسيين يسعون الى استعادة مواقعهم التي خسروها في ليبيا إن في المجال النفطي أو التجاري بعدما تقدم عليهم الايطاليون والألمان والاسبان والتونسيون يحتلون الآن المرتبة الرابعة. وقال مصدر ليبي: "نشعر ان الفرنسيين لا يسابقون الأميركيين وحسب وإنما الايطاليين والألمان والاسبان أيضاً، خصوصاً بعدما زار رئيسا وزراء ايطاليان ماسيمو داليما وسيلفيو برلوسكوني ليبيا منذ تعليق العقوبات الدولية في حقها العام 1999. حوار طرشان مع ذلك لا يزال ملف طائرة "يو تي آي" يلقي ظلالاً كثيفة على العلاقات الثنائية، وهو شكل إحدى نقاط الخلاف الرئيسية في اجتماع اللجنة المشتركة، إذ جدد الليبيون وعدهم بالتعويض لمن لم يحصل على تعويضات عام 1999 "لكن على أساس ما تحدده القوانين"، فيما لوح الفرنسيون بمذكرة الاعتقال التي لا تزال سارية في حق ستة عناصر ليبية من ضمنهم صهر العقيد القذافي دينوا غيابياً في القضية وصدرت في حقهم أحكام بالسجن المؤبد عام 1999. ووصفت مصادر فرنسية الحوار الذي دار في اللجنة بكونه "حوار طرشان" لأن الجانبين لم يتوصلا الى اتفاقات في شأن الملفات الرئيسية التي بحثت فيها. وعليه فإن مشروع "الشراكة الدائمة" الذي كان يفترض ان تبلوره اللجنة لا يزال مؤجلاً الى ان ترفع الأحجار من طريقه. وفي معلومات مصادر مطلعة أن العقبة الرئيسية تتمثل بالاحتكاك بين فرنسا وليبيا في أفريقيا الوسطى وتشاد. وأفيد في هذا السياق ان الرئيس شيراك استقبل أمين وزير الاتصال الخارجي الليبي عبدالرحمن شلقم في شكل غير رسمي على هامش اجتماع اللجنة المشتركة وأبلغه ضيق باريس الشديد من المناكفة الليبية للسياسة الفرنسية في وسط أفريقيا. ومع الجزائر انتقلت العلاقات سريعاً من حال الى حال. ومن علامات هذه النقلة مشاركة الرئيس بوتفليقة للمرة الأولى في القمة الفرنسية - الأفريقية الأخيرة ثم في القمة الفرانكفونية في بيروت، ما دل على زوال تحفظات الجزائر الكبيرة عن هذين الإطارين اللذين حاربتهما في شدة منذ الستينات. ومن المؤشرات القوية على فتح صفحة جديدة في العلاقات، الزيارة "التاريخية" التي من المقرر أن يؤديها الرئيس شيراك الى الجزائر في الثلث الأول من السنة المقبلة والتي ستكون الأولى منذ زيارة الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان للجزائر عام 1977. وتمهيداً لها يزور الجزائر قريباً كل من وزير الخارجية دوفيلبان والداخلية نيكولا ساركوزي في شكل منفصل لمحاولة تسوية الخلافات العالقة وتعبيد الطريق لنجاح الزيارة الرئاسية، فيما يزور رئيس الحكومة الجزائرية علي بن فليس باريس مطلع السنة المقبلة على رأس وفد وزاري كبير في زيارة هي الأولى في هذا المستوى منذ زيارة بوتفليقة لفرنسا قبل عامين. محور الجزائر - مدريد وتشير مصادر مطلعة الى ان باريس زادت اقتناعاً بضرورة تحسين العلاقات مع الجزائر بعد زيارة بوتفليقة الى اسبانيا الشهر الماضي والتي كرست قيام "محور بين مدريدوالجزائر" على حد ما قالت وسائل اعلام فرنسية انطلاقاً من التوقيع على معاهدة للصداقة والتعاون وحسن الجوار، والاتفاق على مد أنبوب ثان لنقل الغاز بين وهران والمرية في اسبانيا واتفاقات اقتصادية أخرى. وفي هذا الاطار تشكل مبادرة "سنة الجزائر" في فرنسا التي أطلقت أخيراً "فرصة لإحلال الانسجام في العلاقات الثنائية بدل سوء الفهم" مثلما قال رئيس اللجنة المسؤولة عن تنظيم "السنة" مدير التلفزيون الفرنسي السابق أرفيه بورج، فيما اعتبر شيراك في رسالة بعث بها أخيراً الى نظيره الجزائري أن زيارته للجزائر وإقامة "سنة الجزائر" في فرنسا "من شأنهما أن يصلا بالعلاقات الثنائية الى المستوى الممتاز الذي يليق بها". ويبدو ان الجزائريين حريصون بدورهم على انجاح المبادرة الثقافية الجديدة، إذ قدموا مبلغ 12.6 مليون دولار مساهمة في تمويل الفاعليات، ما أثار انتقادات عدة داخل الجزائر. على أنقاض الاشتراكيين وفتحت تونسوفرنسا صفحة جديدة في علاقاتهما منذ سقوط حكم الاشتراكيين في باريس كرستها زيارتا وزيري الداخلية ساركوزي والخارجية دوفيلبان لتونس أخيراً. ولخص دوفيلبان النقلة التي تحققت بالإشارة الى أن ما أنجز خلال الأشهر الستة الماضية فاق ما حققه البلدان طوال سنوات، وتوقع أن يقطع الجانبان "خطوات كبيرة الى الأمام في كثير من الملفات الصعبة". وتبوأ التنسيق الأمني موقعاً مركزياً في التعاون بين الحكومتين، إذ لوحظ ان أجهزة الأمن الفرنسية اعتقلت بعد ساعات من عودة ساركوزي الى باريس، ثمانية تونسيين يشتبه في كونهم على علاقة بمنفذ عملية تفجير كنيس "الغريبة" في جزيرة جربة جنوب نزار نوار الذي قتل في الحادثة. وفي هذا السياق أوضح دوفيلبان ان الجانبين يحرصان على أن تكون المسائل الأمنية في قلب اهتماماتهما في اطار التنسيق لمكافحة الارهاب، علماً أن أحداث 11 أيلول سبتمبر ساعدت في ترطيب الأجواء بين تونس وباريس منذ أيام حكم الاشتراكيين، إذ سارع وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين لزيارة تونس. ولوحظ ان المحادثات التي عقدها مع كبار المسؤولين أحيطت بدفء غير مسبوق في العلاقات الثنائية. ومن المؤشرات الى هذه النقلة الجديدة الإعلان عن عزم الرئيس شيراك زيارة تونس العام المقبل، وهي ستكون الأولى من نوعها منذ عام 1995. وكذلك الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة جان بيار رفاران لاحقاً، علماً أن سلفه الاشتراكي ليونيل جوسبان أرجأ زيارته لتونسمرات عدة بسبب الأجواء الملبدة بين العاصمتين الى أن غادر الحكم، إضافة الى زيارة مبرمجة لوزراء عدة في الحكومة الحالية أعلن دوفيلبان انهم سيأتون الى تونس في الأشهر المقبلة. كذلك من المتغيرات التي استوقفت المراقبين ان الوزراء الذين يزورون تونس لم يعودوا حريصين على الاجتماع الى المعارضة وناشطي حقوق الإنسان مثلما كان يفعل أسلافهم الاشتراكيون، علماً أن هذا النوع من العلاقات كان مصدراً لاحتكاكات بين الحكومتين، خصوصاً كلما عبّر الحزب الاشتراكي الفرنسي عن انتقادات رسمية لأوضاع حقوق الإنسان في تونس. ودأب على ابداء هذا النوع من الملاحظات، ما أدى الى إعلانه قطع الاتصالات مع "التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم في حزيران يونيو العام ألفين. موقع متقدم أما مع المغرب الذي تعتبر طريق التعاون سالكة معه منذ فترة وتحديداً بعد مجيء الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي الى رئاسة الحكومة، فتسعى باريس الى المحافظة على موقعها المتقدم وتحاذر الدخول على خط الخلاف بين الجزائروالرباط في شأن الصحراء الغربية محاولة اعطاء الانطباع بأنها تقف على مسافة متساوية من العاصمتين الغريمتين. كذلك تحاول باريس البقاء على الحياد في الخلاف بين مدريدوالرباط وإن كانت تبدي قلقاً صامتاً من التقارب السريع بين اسبانياوالجزائر. وكان دوفيلبان أوضح خلال زيارته للمغرب أواخر الشهر الماضي أن "فرنسا لا تقوم بوساطة بين البلدين كونها قريبة الى الجارين لكن يمكنها تمرير الرسائل بينهما". والثابت ان باريس تسعى مع الرباط كما مع العواصم المغاربية الأخرى الى ترك انطباع بأنها المدافع الأول عن مصالحها داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع فتح الباب أمام انضمام عشرة أعضاء جدد الى الاتحاد، وهي ما انفكت بالمنطق نفسه تنظر بريبة الى جهود الولاياتالمتحدة لتعزيز حضورها في شمال أفريقيا. وفي هذا الإطار أكد دوفيلبان في الرباط حرص بلاده على مزيد من الانفتاح على بلدان الجنوب و"التزامها الاهتمام بالضفة الجنوبية لأوروبا واستمرار هذا الاهتمام". لكن النسق الأميركي يبدو أعلى وتيرة من الخطى الفرنسية والأوروبية، خصوصاً بعد تطوير التعاون الأميركي مع عواصم المنطقة في المجالات الأمنية والعسكرية، اضافة الى الاستعدادات الجارية لتكثيف العلاقات الاقتصادية إن على صعيد الاستثمار في الجزائر أم على صعيد المبادلات مع كل من المغرب وتونس بعد التوقيع على اتفاقين لتحرير التجارة معهما، وعليه لا يمكن الجزم الآن بنتائج "الهجوم" الفرنسي لخطب ود العواصم المغاربية. * من أسرة "الحياة".