قررت روسيا التخلي عن ترسانتها النووية وصواريخها العابرة للقارات وطائراتها الاستراتيجية، طوعاً ومن دون وجع دماغ في مفاوضات تضني موسكو وتزعج الاصدقاء الاميركيين. من لا يصدق ان الكرملين اقدم فعلاً على هذه الخطوة "الشجاعة" ما عليه الا ان يقرأ الخطاب الذي القاه الرئيس فلاديمير بوتين امام كبار قادة القوات المسلحة قبل ايام، حيث اكد ان المهمة الرئيسية للجيش والاسطول والطيران في الدولة التي تحتل المرتبة الثانية في العالم نووياً تنحصر في... مكافحة الارهاب. وفي هذه الحال فإن صواريخ "توبول 2" برؤوسها النووية القادرة على محو دول كاملة لا تصلح ل"معالجة" كهوف تورا بورا، والغواصات غير المجهزة للابحار في ادغال وادي بانكيسي تغدو عبئاً عند استعمالها لضرب شيشانيين يتخندقون في جورجيا، وطائرات "باك فاير" قد لا تكون أداة مناسبة لتصفية محتجزي الرهائن. تأسيساً على ذلك كان يمكن الافتراض بأن روسيا ستنزع من جانب واحد اسلحتها الاستراتيجية وتحول الجيش الذي يضم 1.2 مليون عنصر الى كتائب كوماندوس. لكن بوتين طلب في الواقع من قيادة وزارة الدفاع وضع نظرية عسكرية جديدة تعبئ الجيش والاسطول والطيران لمكافحة الارهاب في ضوء فهم جديد للموازنات الاستراتيجية وفحواه ان الغرب لم يعد خطراً او خصماً محتملاً، على رغم ان حلف الاطلسي كان قبل ايام من ذلك قرر ان يمد "لحافه" ليغطي الدول المجاورة لروسيا ويضع قواته على ابوابها. وفي ضوء التغيير الذي بدأ تنفيذه فعلاً سيعاد ترتيب اولويات السياسة الخارجية والاستراتيجية العسكرية، ولن يكون مستغرباً ان تضغط الولاياتالمتحدة من اجل جعل روسيا "انكشارياً" يشارك في مواجهة محتملة مع الصين النووية او مع دول ترفض السير في ركاب "الحضارة" الاميركية ويحولها اداة ضاربة لاستخدامها ضد اهداف في الجنوب والشرق. وثمة في موسكو "لوبي" متنفّذ يدفع في هذا الاتجاه مستنداً الى ذرائع بينها ان دول الشمال الغنية والمتطورة هي المصدر الوحيد للحصول على استثمارات وتكنولوجيات للنهوض بالاقتصاد الروسي. ويجري ايضاً الترويج لفكرة مؤداها ان روسيا رغم كونها دولة اوروآسيوية من الناحية الجغرافية فانها تنتمي حضارياً، الى الكتلة الاوروبية الغربية عموماً وبالتالي فهي ملزمة بالانضمام الى الائتلاف الذي تقوده اميركا ضد "الارهاب الدولي". بيد ان هناك معارضة قوية لهذا التوجه في الاوساط السياسية والعسكرية، ويرى المعترضون ان واشنطن تسعى الى فرض الهيمنة الكاملة على روسيا، وهي لم تقلص ترسانتها من الاسلحة النووية والتقليدية، وكان توسيع الاطلسي اداة اخرى تستخدمها للضغط على الكرملين. وعلى رغم اقرار هؤلاء بخطر الارهاب فإنهم يشيرون الى ان 100 الف مواطن روسي يُقتلون او يُفقدون سنوياً بسبب "اصلاحات" يفرضها الغرب ويرعاها، وهذا الرقم لا يقارن بالخسائر المترتبة عن عمليات ارهابية. وقد تكون زيارة بوتين الحالية الى الصين محاولة للايحاء بأن الكرملين لم يضع كل بيضاته في السلة الاميركية وانه ما برح يريد الحفاظ على نوع من التوازن في علاقاته. ولكن هل يمكن ل"ريشة" تضعها روسيا في كفة الصين وسائر دول العالم ان تعادل "رطلاً" من التنازلات تكومها على الكفّة الاميركية؟