"بنت الهوى والريح، لا ورقة ولا تصريح". أغنية تتردد في "عرايس الطين"، فيلم نوري بو زيد الأخير على شفتي ربح الفتاة الجميلة المتمردة المتعطشة الى الحرية والتي لا تطيق حبساً بعد أن أمضت طفولتها في خدمة البيوت. تختفي ربح تاركة المنزل الذي تخدم فيه، ويبدأ عمران، الشاب الذي يعمل في جلب الخادمات إلى المدينة من منطقة ريفية تمتهن نساؤها تشكيل الطين وتحويله إلى فخار، البحث عنها. عمران نفسه، كان خادماً قبل أن يبدأ مهنته الجديدة. عانى العنف الجسدي من مستخدمه، ولهذا السبب يحاول حماية الفتيات اللواتي يستقدمهن من مواجهة المصير نفسه الذي خضع له طفلاً. عمران هو نموذج لتناقضات المجتمع ولواقعه. في الفيلم شخصيات معقدة تبحث عن "منفذ" ولا منفذ لها إلا الانعتاق "كنسمة الهواء وريح الحرية". في مشاهد سريعة الإيقاع، متقنة ومنفذة بأسلوب جديد يعتمد على الاختزال في الزمن نتابع الفيلم الذي قام بأدوار البطولة فيه هند صبري وأحمد الحفيان. بعد "رجل من رماد" فيلمه الأول الذي أخرجه عام 1986 و"صفائح من ذهب" و"بيزنس" و"بنت فاميليا" عام 1997، يطل المخرج التونسي نوري بو زيد في هذا الفيلم الجديد، في أسلوب تميز به وينتمي إلى "سينما المؤلف". لا يحب كلمة إخراج ويرى أنها لا تعبر عن عملية "تحويل الحقيقة إلى حلم"، ولذلك يفضل عليها الكلمة الفرنسية "تحقيق" rژalisation. لديه الكثير ليقوله عن السينما ودورها والتلفزيون وتأثيره. في ما يأتي حوار معه على هامش مشاركته في مهرجان "نانت" السينمائي حيث عرض فيلمه في المسابقة الرسمية ونال جائزة الجمهور. سألك الجمهور الفرنسي عن بعض التفاصيل في الفيلم، فقلت ان من الصعب على كاتب النص أن يشرح كل شيء. فهل لك مع ذلك أن تشرح لنا ما قصدته بعنوان الفيلم "عرايس الطين"؟ - قد يكون من غير اللائق تفسير كاتب النص لما كتبه. المقصود هو أن البُنيَّة حين خرجت الى الخدمة في بيوت المدينة، من قريتها التي اشتهرت نساؤها بصناعة الفخار العتيق، حملت معها كتلة من الطين تمثل ماضيها، أرضها وتراثها. ومن خلال تمليسها الطين وصنع العرايس، كانت تعبر عن حريتها، وعن علاقة محبة وإبداع بهذه الكتل التي تشكلها. هذه قراءة أولى. أما على مستوى القراءة الثانية، فالكلمة تعني بالفرنسية عاهرة ولعبة وأيضاً بنية صغيرة. وقد رمزنا بها هنا إلى استخدام جسد المرأة كلعبة وهي صورة مجازية. فالعرايس هي من الطين الذي هو مادة هشة، ومن الأرض في الوقت نفسه. واختلاط المادة بالروح صورة تظهر بجلاء حين تمرغ الصغيرة وجهها بعروستها. كان العنوان بالعربية "بين مغرب وعشاء" وبناء على طلب المنتج قررنا اعتماد العنوان الفرنسي بعد ترجمته. نهاية لغة الأنا أين تضع الفيلم بالنسبة الى أفلامك السابقة؟ هل هو تتويج لمرحلة أم خروج منها؟ - لقد تجاوزت فيه مرحلة الحديث بلغة الأنا. في فيلمي الأولين كنت في جسد البطل، آخذ وجهة نظره، ولكن في الواقع لم أكن أتكلم عن حياتي. قد يبدو الأمر وكأنه حديث عن حياتي لأنني ملتصق جداً بشخصياتي. كانت ثمة محاسبة للماضي، خض للذاكرة، بل تعنيف لها لمحاسبتها. أردت أن أصبح شاهداً على ما يجري أمامي وارتبط ذلك بنظرتي الى الحياة. مثلاً: علاقتنا بالغرب. في فيلم "بيزنس"، تطرقت إلى هذه المسألة من زاوية لسنا معتادين على رؤيتها: الجسد وكل ما يمس كيان الفر، وليس كموضوع سياسي عن الامبريالية. فإن لم يكن لك كيان، فليس بإمكانك أن تقوم بعمل موضوع سياسي. "عرايس الطين" هي تتويج للمرحلة الثانية، إذ أنا غائب حاضر، اهتمامات الشخصيات ليست اهتماماتي، بيد أنها تشبهني وتحمل أحاسيسي الخاصة. تقدمت خطوات في هذا الفيلم من دون أن أصل إلى مبتغاي وأكون راضياً تمام الرضى عن العمل، لأنني عندما أصل إلى هذه المرحلة، أي إلى القمة أتوقف أو أبدأ بالهبوط. أحسست بأنني بدأت بلوغ لغة سينمائية، وخطاب سينمائي فيه إحساس وكتابة عصرية. ثمة اختزال في الزمن، قفزة فيه. اختزال الوقت من مشهد إلى مشهد ليل نهار، الانتقال من مكان إلى آخر أمر يقوم به الجميع والسينما مبنية عليه أصلاً. ولكنني اختزلت اللقطات في المشهد نفسه وهذا متبع في سينمات متقدمة، إنما لم تتعود عليه عين المشاهد والناقد العربيين بعد. الكتابة هكذا أكثر عصرية. وقد يقال لي: "ما بك أنقصت حاجات!" يحبون أن يكون المشهد أطول لأنهم معتادون على أن نوصلهم. السينما ليست تاكسي. ثمة دورة دموية في الفيلم، أحب التحرك. في دروسي مع طلبتي أريهم لقطة من التلفزيون وأسألهم رأيهم. يصفون شخصيات ويرون أحداثاً، ولا يرون لقطات. المتفرج قد لا يكون مطلوباً منه أن يرى اللقطة بالتفصيل ولكن المتفرج المهيأ الذي يحب السينما عليه أن يكشف أسلوب التنفيذ لأن في ذلك متعة إضافية. وقد يقوم المؤلف بهذا المجهود لعشرة أشخاص فقط. ودور النقاد إعطاء المفاتيح للمتفرج ليدرك الأشياء وتعتاد عينه على رؤيتها. فعين المشاهد العربي مظلومة. وعلى عاتقنا مسؤولية تربية العين العربية لأننا اخترنا هذه المهنة. يتهم النقد المواضيع التي تتطرق إليها، وليس فقط اللغة السينمائية، بأنها غربية. - عندما تكلمت عن الاعتداء على الأطفال في فيلم "ريح السد" كان هذا الموضوع محرماً في أوروبا. اتهموني بالصهيونية وبأنني قد اعتدي علي بالفاحشة. العناوين ما زالت عندي ولا سيما في الصحافة المصرية. ومن هاجم الفيلم لم يره. مئتا مقالة تهاجم فيلماً لم يعرض إلا في "كان"! أَوجِدَ مئتا صحافي مصري في "كان"؟ ثمة تحامل، وتحامل ضد ما هو جديد والجديد يخيفهم. وثمة نظام مفروض من المنتجين والسوق وليس من المتفرج. هل تحلم بتغيير المجتمع من خلال أفلامك؟ وهل تعتقد بقدرة السينما على ذلك؟ - هذا ادعاء كبير إن ادعيته. الأميركيون اكتشفوا قدرة الروائي على التأثير في حياة الناس، لأن المتفرج يقبل بالدرس إن لم يكن درساً. التأثير؟ ما تأثيرنا نحن أمام التلفزيون؟ ما أبنيه أنا في ساعتين يمضون سنوات وهم يهدمونه في المسلسل المصري. يلزم تغيير. إذ في مقدور السمعي البصري تغيير نظرة الناس وتهيئتهم لمجتمع آخر من خلال شخصيات عصرية وممارسات عصرية: عدم التدخل، الحرية ليست أن تفعل ما تحب... إنها أمور لا تأتي في فيلم. إنه عمل يومي يستطيع التلفزيون القيام به. وهي مسؤولية المسلسلات التي تمس الناس كلهم، لأنها لحظة يجب أن تستغل وتدخل فيها تدريجاً ممارسات عصرية جديدة. تكتب الأفلام، ألا تفكر بكتابة المسلسلات بناء على ما ذكرته من تأثيرها الكبير؟ - مبتسماً لا. أنا لا أكتب باللغة التلفزيونية. إذا قمت بعمل للتلفزيون فسيكون فيلماً، وشرط أن أصوره بنفسي. قد أفعل ذلك عندما أكبر وأتقاعد! في السينما التونسية ثمة تراكم قد يغير أشياء ويعوّد الناس على أشياء، ولكنه قطرة في الواد يقصد النهر الذي هو المسلسل المصري أو المكسيكي. أمتشائم أنت أم متفائل بدور هذه القطرة؟ - الدراما التي نعيشها نحن هي أن المسؤول عن التخلف هو السمعي البصري المصري. والوحيد الذي يستطيع إخراجنا منها هو السمعي البصري المصري. إذا أدرك المصريون يوماً أنه يجب تغيير نظرة الجمهور وفتح الباب أمام المخرجين من الذين لديهم الشجاعة ليقولوا الأشياء، أمثال مرزاق علواش والأخضر حامينا ومحمد ملص وميشيل خليفي وبرهان علوية وغيرهم، نكون دخلنا في مرحلة احترام الجمهور. فلا تأتي مثلاً وتقدم "السكرية" في فيلم تمحي منه كل الشخصيات المهمة كالإخونجي والشيوعي والشاذ! لقد أردت تحقيق هذه الرواية المعاصرة، على رغم قدمها، لأجل هذه الشخصيات. بين الورق والتنفيذ هل أنت راض عن فيلمك الجديد؟ - ثمة ما كان يمكن إنجازه في شكل أفضل. بين الورق والتنفيذ تبقى مسافة لم أحققها. ولكن نسبة رضاي تصل إلى 75 في المئة. أفلامك السابقة كانت أكثر قوة وتأثيراً في معالجتها وأسلوبها. ما تقول؟ - لا، لأنك عندما تشاهدين فيلمي هذا ففي ذهنك أفلامي الأخرى كلها. لم تعد قوة المفاجأة التي أتت مع الفيلم الأول حاضرة. هذا الفيلم بالنسبة اليّ هو أنضج لجهة أنني تخلصت من كل ما هو تكرار وإلحاح وإعطاء دروس، كما أن فيه تعبيراً سينمائياً شاعرياً عصرياً. ولو أنه سيكون من باب الادعاء لو تكلم أحدهم عن نفسه على هذا النحو. وربما من الأفضل القول ان ذلك كان هدفي. في المهنة لا مساندة للشريط الناجح، بل ثمة مساندة للشريط الفاشل. ما موقفك من النقد السينمائي الموجه إليك؟ - في بعض الأحيان يمسني بشدة رددها ثلاث مرات وأحياناً يثير سخريتي. يعذبني حين يكون بسوء نية ومضر. ليس لأحد الحق في المساس بحياة الإنسان. يستطيع نقد العمل وليس الشخص. لقد عشت كذلك آلام زملاء، مثل مفيدة التلاتلي وفريد بو غدير، ومعاناة ممثلين. هوجمت هند صبري لأنه كان عليها أن تقبّل في الفيلم. خمسون سنة ونحن نرى القبل في السينما المصرية. لقد أظهرت مفاتنها في الفيلم. - لم تقم بشيء ممنوع والدليل أن الرقابة لم تقص شيئاً. هل المتفرج أصعب من الرقابة؟ هي تعمل الآن في أفلام مصرية، ألا تفكر بالاستعانة بممثلات مصريات في أفلامك؟ - هند صبري تتحدث المصرية في تلك الأفلام. إذا كان باستطاعة الممثلات المصريات التكلم باللهجة التونسية فلمَ لا. فكرت بميرفت أمين للعمل في "بنت فاميليا" ولم يتحقق ذلك. هل تعتبر أنه أسيء فهمك من النقاد العرب بصورة عامة؟ - ثمة جهل تام بالسينما عند بعض النقاد. عندما تأتي صحافية تونسية، أو ناقد، ويقولان: "عرايس الطين" هو كمسرحية لأن شخصياته قليلة، فهذا معناه أنهما لم يفهما شيئاً. فيلمي مسرحية؟! لقد أسيء فهمي، ولا اعتبار للكثير من المجددين لأسباب نجهلها. قد تكون سياسية، إيديولوجية من ذوي الفكر المتخلف، أو لخوف على السوق. ثمة نقاد جديرون بالاحترام، بيد أن النقد اليومي وما يتناهى إلي من التلفزيونات يؤكد أن ثمة سهولة في تحطيم الفيلم أو البحث عن نقاط ضعف فيه. عن فيلم "صفائح من ذهب" سئلت: "أين برنامجك السياسي؟! لم يظهر في الفيلم!". لم يطلبوا ذلك من السياسيين، فكيف يأتون ويطلبونه من الفيلم؟! أو يقولون عن الفيلم انه سينما صهيونية! أو أن الفيلم ليس من واقع الحياة... لكنك نلت جوائز في المهرجانات العربية. - لا. فقط في أيام قرطاج 86 عن "ريح السد" وجائزة في المغرب. في القاهرة لم يعرض أي فيلم من أفلامي ولا في سورية. لقد استدعوني مرة إلى هناك وألقوا علي محاضرة ورفضوا الأفلام. قاطعنا المهرجان وغادرنا. وعندما أعطاهم المنتج "بنت فاميليا" لم أذهب معه. لقد كتبوا في صحيفة "تشرين" السورية: "نوري بو زيد صهيوني منذ الولادة" ضاحكاً ومردداً: منذ الولادة! وشارون إذاً؟ في أوروبا وأميركا نلت العشرات من الجوائز. "بنت فاميليا" حصد 17 جائزة، "بيزنس" 7 جوائز و"صفائح من ذهب" عشر جوائز... أترى ذلك شأناً طبيعياً، أي تكريمك في كل البلاد وليس في البلدان العربية؟ - بالطبع لا. لست معادياً للعرب. والدليل هو نجاح أفلامي في تونس. لو رفض فيلم لي في تونس لاستطعنا القول انه على الذوق الأوروبي. لقد كتبت سيناريوات أفلام أخرى غير أفلامي ونجحت كثيراً، مثل "حلفاوين" و"صمت القصور". إن علاقتي قوية بالجمهور التونسي. ولكن ثمة مواقف من بلدان عربية ولا سيما من المشرق تبقى غير مفهومة. تحب أن تكرم أشخاصاً ومواقف وأشياء أخرى في أفلامك. ما الذي يدعوك إلى ذلك؟ - لأنها أشياء لها قيمتها في تراثنا ونحن نرفضها. مثل لغبابي الراقص. أكرمته وأظهرته في فيلمي لأن ثمة نظرة احتقار للرجل الذي يرقص. أو تكريم ممثلة منسية أو مغن شعبي يهودي. أو إعادة اعتبار الى شكل معماري كالبرج جرت فيه أحداث "ريح السد". إذ قمنا بترميم برج قديم تماماً. كما خططنا على الحائط في "صفائح من ذهب" اليوسفية حركة صالح بن يوسف لاختراق الممنوعات في تاريخنا. لا يجب منع قول الحقيقة وأيضاً ثمة أشياء من الضروري قبولها وإعطاؤها اعتبارها كالشخصيات المغبونة والمسحوقة. وحين انتقد لاختيارها، أرد: وهل تريدون أن أتكلم عن البرجوازية؟ لا تدعوني أفعل ذلك! اذكر لنا بعض الأسماء التي تلفت نظرك من بين السينمائيين العرب. - مخرج "بيروت الغربية" زياد الدويري. ثمة حركة نلمسها في لبنان وفلسطين لأنها شعوب تشتتت ولم يعد هناك من ضغوط للمجتمع عليها. في فيلم إيليا سليمان الأخير "يد إلهية" شيء من الوقاحة الثقيلة الظل، وقد شعرت بالضجر خلاله مرات عدة، إنما لديه كتابة سينمائية جديدة. أسامة محمد كان رائعاً في فيلمه الأخير "صندوق الدنيا". فيه جمالية لم أشبع منها. ولكن الموضوع صعب، فاختياره لم يكن سرداً كلاسيكياً للأحداث. ولكن فيلمه كان شيئاً رائعاً على المستوى التعبيري والجمالي والأسلوبي. أما السينما المصرية فقد أضاعت الفرصة عندما جاء داود عبدالسيد ومحمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة. كتّاب يقصد مخرجين كانت لديهم الشجاعة للكتابة، ليس بالضرورة عن السياسة، إنما عن الفرد. ولكن المتحكمين في السوق، ولا نعرف نياتهم، أعادوهم الى الخط. كانت لديهم موهبة ومعرفة ونظرة تجديد الى مجتمعهم ولكن لم يشجعوهم على التقدم. من الضروري أن تأخذ الدولة المصرية موقفاً وتنشئ صندوقاً لدعم بعض الأفلام التي ترغب بالخروج من نطاق السوق وهذا دفاعاً عن تراث مصر وعن الجمهور العربي الذي يحب الفيلم المتقن. ثمة تقصير والقطاع الخاص هو المهيمن. والمشكلة تتجاوز السينما بكثير. إنها مشكلة الثقافة والمجتمعات العربية وتربية الأجيال. سيأتي يوم ويصبح العمل الإبداعي فيه بدعة وهذا ما يخيف.