أفلام الابيض والاسود. ربما ذلك هو الحضور الاقوى للراقصة سامية جمال، التي توفيت قبل 8 سنوات. تظهر غالباً شابة، في افلام السينما المصرية في الخمسينات وما بعدها من القرن الماضي التي يهواها كثير من جمهور التلفزيون وفضائياته. تظهر في رقصة او اكثر، قليلاً ما يكون الرقص هو "مقصد" الفيلم. في الافلام مع فريد الاطرش، يلاحظ بسهولة ان الغناء هو "قلب" الفيلم، او حجته الاساسية. البقية هي ما يصاحب الغناء. الكوميديا، سواء مع اسماعيل ياسين ام مع عبدالسلام النابلسي ام مع غيرهما، هي مجرد تنويع. الرقص يصاحب الغناء. وفي كثير من افلامها، ظهرت الراقصة سامية جمال وهي تمثل دور الراقصة! ينطبق ذلك على "الرجل الثاني"، "حبيب العمر"، "آخر كدبة" و"ما تقولش لحد"، آخر فيلم جمعها مع فريد الاطرش، وحتى "الشيطان والخريف"، آخر فيلم مع زوجها رشدي اباظة. تمثل الراقصة في الافلام التي تظهرها كراقصة، فهل هو رقص ام تمثيل؟ ذلك السؤال ينطبق خصوصاً على تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف. وصنعن ثلاثتهن صورة الراقصة في السينما. واثرن في صورة الراقصة في المخيلات. هل كن "راقصات"؟ وما هو المحل "المختلف" الذي صنعه اجسادهن ورقصهن؟ السينما مصنع الرقص وفي كثير من أفلامها، تحدق سامية جمال مباشرة في الكاميرا. تبتسم وهي تنظر اليها. يتلوى جسدها في "بلاتوه" التصوير. يفرض عليها السيناريو ان تمر قرب هذا الممثل او ذاك، أو أن تصل برقصها الى نقطة ما. ذلك رقص اساسه القوي هو الكاميرا. وتصلح سيرة جمال نموذجاً لرقص لم يعد "رقصاً"! ابتدأت الممثلة في كازينو الراقصة الشهيرة بديعة مصابني في عمر الخامسة عشرة من عمرها. بعد اربع سنوات انتقلت الى السينما. ومنذ الثلاثينات، شرعت صناعة الترفيه تتغير بقوة بأثر التكنولوجيا. كان اختراع الاخوة لوميير السينما، يأسر الاعين والعقول على نحو متزايد. واتجهت اعداد متزايدة من نجوم الترفيه الى الاداة التقنية الجديدة، او بالاحرى الى الترفيه الجديد. ولم تكن السينما وحدها. فالحال ان الثلاثينات والاربعينات شهدت ظهور مجموعة من التقنيات الجديدة في صناعة الترفيه، غيرت وجهها نهائياً. وربما كان الابرز في هذه القائمة هو الراديو، ثم السينما. وتسيدت الاخيرة صناعة الترفيه كلها منذ الاربعينات. وصار عبدالوهاب وام كلثوم يعرفان جيداً ان النجاح هو نجاح الفيلم، وأغنية الراديو. وهو امر عبر عنه عبدالوهاب بوضوح في احاديث كثيرة. ومن يراجع المجلات الفنية في تلك الفترة، مثل "الكواكب"، يقرأ الكثير من التصريحات التي تتحدث فيها الراقصات عن الاهمية القصوى للسينما في صناعة حياتهن. هل كن يدركن انها ستصنع صورتهن حتى بعد موتهن؟ انتقلت سامية جمال اذاً من المحل الذي صنع الرقص الشرقي طويلاً، اي الكازينو، وتركت الرقص الذي كان يؤدى في علب الليل والعوامة النيلية، لتتفرغ الى رقص الافلام، والتمثيل فيها ايضاً. وفي ظل سيادة مفهوم "نظام النجم" في السينما، بدا مناسباً لاهل صناعة الترفيه البحث عن راقصة لاداء دور الراقصة. ويعني هذا ان صورة الممثل كانت تبدو وكأنها شديدة التطابق مع حياته. من يمثل دور الشرير هو نفسه شرير. وما ان يظهر استفان روستي او محمود المليجي في الفيلم، مثلاً، حتى "يعرف" الجمهور انه سيأتي بعمل سيئ او مخادع. فاذا ظهرت كاريوكا او عاكف، فماذا سيظن الجمهور انها ستفعل، سوى الرقص؟ والحال ان راقصة من وزن بديعة مصابني، وهي ممن صنعن فن الرقص الشرقي، لم تعط السينما أهمية مماثلة. بقيت في الكازينو الذي يحمل اسمها اسيرة صورة الجسد الذي يتلوى رقصاً بين جمهور يقصد الكازينو والعوامة طلباً لنوع "خاص" من الترفيه. ثمة تفاعل مباشر بين الرقص، وبين جسد الراقصة وفنها ومزاجها، وبين الجمهور الحاضر بجسده ومزاجه في الكازينو والصالة وعلبة الليل والعوامة. ذلك الرقص الشرقي، كما كانه قبل السينما. وقدر للشاشات أن تغيره الى الابد. لم تعد مجدية براعة رقص مصابني في "رقصة الشمعدان" التي ابتدعتها بنفسها. ولم يعد الامر يتعلق ببقاء اللهيب مشتعلاً، فيما هي تتنقل بجسدها ورقصها بين الطاولات. تغير هذا الترفيه كلياً. ظهرت السينما، واخذت الصالات تنتشر في كل بلدان العرب. وتكاثرت بسرعة البرق. وصار جمهورها هو جمهور تلك اللحظة، التي ستمتد الى حين اقصى التلفزيون السينما عن الموقع الاول. ترقص سامية جمال في الافلام. يتلوى جسدها، من القدم الصغيرة المنمنمة الى الكتف المغناج، في البلاتو، في ظل صفارة المخرج واوامره، وصدى الكلاكيت، ومرور عمال الكهرباء، واولئك الذين يجرون السلالم وقطع الديكور. ويقضي السيناريو ان يترافق اهتزاز الخصر، او حركة القدم او انكشاف الرجل، مع تعبير محدد في الوجه والشفتين. كم مرة يصرخ المخرج "ستوب" او "سكوت، حنصور" قبل ان يكتمل مشهد الرقص؟ ذلك رقص جمهوره الاقوى هو... عين الكاميرا، هذا الوحش المرعب. الارجح انه رقص لن يشاهده الجمهور ابداً! الجمهور، بجسده، غائب. ربما يحضر في مخيلة صناع الفيلم، او في ظلام قاعات السينما. ما يشاهده لاحقاً هو ما صنع في الاستوديو، وفي آلة المافيولا، حيث المونتاج النهائي. ربما بدا غريباً القول ان جسد الرقص، الذي كونه الثلاثي كاريوكا وجمال وعاكف، اتى من محل هو غير الرقص. والحال انه هز الرقص الشرقي برمته، وغيره بقوة. بداية استعراض مختلف كتب الناقد الراحل عماد الحر عن رقص سامية جمال وحياتها، وقارنها بكاريوكا وعاكف. لفت نظره انها شاركتهما في وصف الايام الاولى لحياتهن. وفي سيرة حياتها، التي كتبتها في العام 1954، تحدثت كثيراً عن فقرها. وصفت الجوع المضني والمذل الذي عانته. وبحسب الحر، فان ثلاثتهن يتشاركن في جعل الفقر سبباً لاندفاعهن الى الرقص. ولاحظ ان جمال تختلف عن كاريوكا وعاكف في انها جمعت حبها للرقص، مع الفقر كسبب لامتهانها الرقص. وربما كانت تلك ملاحظة قابلة للنقاش ايضاً. وأياً كان الامر، فان حياة الراقصة الشرقية تغيرت بعد السينما. وفي مصر الناصرية، على سبيل المثال، كانت الراقصة جزءاً من صناعة السينما التي وصلت الى ذراها، واثرت بقوة في الرأي العام. وصارت ركناً اساسياً في المجلات الفنية والجرائد اليومية ومن نخبة فنية مؤثرة، لها طابع حداثي قوي. وفي ذلك الزمان، كان حضور المرأة وجسدها وتحررها قوياً في المجتمع، كما في تعبيراته الفنية والادبية والثقافية. ولم تستطع السلطة السياسية البقاء بعيداً من ذلك كله. وفي العام 1954، توصلت السلطة الناصرية الى "تسوية" مع مطالب محافظة متعددة المصادر. واصدرت قانوناً لمواصفات بدلة الرقص. ومنعت اجزاء من جسد الراقصة من الظهور، وسمحت باخرى. ولعله نموذج آخر لتعامل عقل الشرق الذكوري مع الجسد النسوي. وأياً كان الامر، فان فوران صناعة السينما ترافق مع فورانات في اكثر من مجال فني. تغيرت الاغنية بأثر من ألحان عبدالوهاب ومحمد الموجي والاخوين رحباني ورياض السنباطي وغيرهم. واندفع فن الرواية بقوة مع اعمال نجيب محفوظ. ومثلت سامية جمال احدى روايات محفوظ "زقاق المدق". والارجح ان استعراض الرقص الشرقي، كما يظهر في افلام سامية جمال، هو مزيج من تلك الذائقة كلها. في تصريح لها، أعلنت سامية جمال ان في امكانها الرقص على صوت نشرة الاخبار. وربما يعكس ذلك مزاج لحظة يسودها الابداع، اي حين يكون الاحساس العام هو ان المجال مفتوح امام اي نوع من التجريب، والى اقصى حد. ودخلت على الرقص الشرقي عناصر من رقصات غربية كانت سائدة مثل السامبا والباسادوبللي. كيف نصف رقصة سامية جمال المنفردة، على لحن خاص، التي حملت اسم "حبيبي الاسمر"، بغير هذه الاشياء. انه تحول الرقص استعراضاً يستهدف كاميرا السينما. اما لحظة التلفزيون في الرقص الشرقي، فانها تحتاج الى نقاش آخر. سيرة وجيزة ل"الراقصة الحافية"... ولدت سامية جمال في قرية "بونا القس" في محافظة بني سويف في صعيد مصر، عام 1923. وسرعان ما هاجرت اسرتها الفقيرة الى القاهرة، لتعيش فقراً مدقعاً. عملت في كازينو الراقصة بديعة مصابني، وكان عمرها 15 سنة. ولقبت ب"الراقصة الحافية" بعد ان رقصت في اول ظهور ناجح لها في الكازينو، من دون حذاء. ظهرت في السينما للمرة الاولى عام 1942، في فيلم "ممنوع الحب" مع محمد عبدالوهاب. دخلت الى النجومية في السينما بعد ان لعبت دوراً اول الى جانب المطرب فريد الاطرش في فيلم "حبيب العمر" في العام 1947. وكونت مع الاطرش ثنائياً فنياً استعراضياً استمر حتى العام 1952، حين مثلت معه للمرة الاخيرة في فيلم "ما تقولش لحد". مثلت للمرة الاولى مع رشدي اباظة في فيلم "الرجل الثاني" في العام 1959. ومن المصادفات ان المطربة صباح مثلت في الفيلم نفسه. لاحقاً تزوج اباظة سامية جمال وبقي معها فترة طويلة. ولم يمنعه ذلك من الزواج من عدد من الفنانات، ومنهن صباح. ولم تعمر تلك الزيجات طويلاً. استمر زواجها من اباظة، الذي اشتهر بوسامته الذكورية الساحرة، الى ما قبل وفاته بسنوات قليلة. توفيت في العام 1994، بعد اعتزال دام طويلاً، وبعد صراع مرير مع مرض السرطان.