للعشق احياناً سمات الجنون والرومانسية، لكن الجنون هنا خلاق ومبدع صنع ذات يوم سينمانا العربية من خلال رائدات مسكونات بهاجس الفن أرادت ماريان الخوري توثيقهن في فيلمها التسجيلي "عاشقات السينما"، لكنها اختارت في عشقها الرومانسية هدوءاً متمثلاً في عناصرة عدة بدءاً من حركة الكاميرا والانتقال من مكان الى آخر وصولاً إلى بطلة الفيلم التي تندمج معها في كثير من الأحيان. لكن الهدوء والرتابة أفقدانا، إلى حد ما، حيوية الفيلم، وفي المقابل فإن "الرائدات" بجنونهن أعدن لنا الحيوية والفضول للبحث مع المخرجة عن تاريخهن وحياتهن اليومية التي لا تنفصل عن الفنية. "عاشقات السينما" فيلم تسجيلي بصبغة روائية، أوجدت المخرجة نفسها فيه كمشاركة، من خلال فتاة تطمح الى صنع فيلم سينمائي ودفعها عشقها للسينما الى تصوير العاشقات الحقيقيات للشاشة الكبيرة، فاختارت الرائدات وبدأت البحث على رغم الصعوبات بعد تحريض من عاشقة محبطة أكدت لها، نتيجة التجربة، أن لا وجود لعقبات خارجية، "كل العقبات نابع من داخلنا"، لذا عليها الاستمرار. بداية الرحلة بدأت ماريان خوري تحت ملامح الفتاة ناديا رحلة بحثها التي اتى محورها الشخصيات - الرائدات العاشقات - المتمثلات في عزيزة أمير، بهيجة حافظ، فاطمة رشدي، أمينة محمد، آسيا داغر، ماري كويني وجمعتهن في فيلم من جزءين على رغم عدم ضرورة ذلك... فنياً. لكن الباحثة أثناء عملية البحث واجهت عجزها عن قراءة الشخصية بمعزل عن زمنها وظرفها التاريخي، ماجعل بحثها يأخذ منحى أوسع ليشمل الفترة بأبعادها. واللافت هو انطلاقها دائماً من المكان بدلالاته وربطه بموضوعها. ففي الفيلم أماكن عديدة ابتداء من بيت الفتاة، إلى المكتبة، إلى المقاهي والأسواق ولبنان ومصر.... المكتبة كانت انطلاقة بحثها، ولبنان الذي كان دعاها الى حضور مؤتمر عن النساء في العشرينات تمهيداً للحديث عن الشخصيات التي تناولتها وميلاد الوعي في ذاك الزمان. غير ان مرحلة العمل الحقيقي الفعال بدأت في محل بيع الكتب والمجلات القديمة حيث التقت بمحب للسينما وباحث في الفن وكان سؤالها عن رائدات السينما مفتاح الحوار بينهما ومفتاح الحديث عن تلك النساء... ذهبا معا لرؤية استوديو عزيزة أمير القديم ومن ذلك المكان بدأ الحديث عنها وعن سينماها. انطلقت المخرجة في حديثها عن عزيزة أمير وبهيجة حافظ وفاطمة رشدي وأمينة محمد وغيرهن... من أماكنهن ومواطنهن الأصلية دمياط، الإسكندرية... طارحة في طريقها فكرة البحر وعلاقته بالشخصيات، وكان البحر سؤالاً ضمن مجموعة تساؤلات أثارتها شخصية الفتاة ضمن بحثها يقول: "ما السبب في كون الاسكندرية محطة مهمة كمدينة في تاريخ السينما؟". تتلخص الأجوبة في كون الاسكندرية البوابة الحقيقية الرسمية لمصر، فكرة الطيران لم تكن موجودة، البحر هو المطروح لذا كانت العلاقة به أقوى، وكل ما هو وافد إلى مصر كان يفد عبر بوابة الإسكندرية. وبديهي ان هذا الانفتاح الذي يوفره المكان على صعيد العلاقات والاختلاط بالآخر ينعكس على الشخصية فيتسع أفقها وخيالها، وهذا ما ميّز "العاشقات" في الفيلم. كذلك الأمر عند حديث الفيلم عن آسيا داغر، وابنة اختها ماري كويني اللتين انطلقتا من لبنان من ضيعة تنورين تحديداً. فإذا بالكاميرا تزورها وتصور ميزاتها المتمثلة بجمال الشكل والأصوات الموسيقى وكان المجال هنا جيداً لذكر سمة مهمة في الضيعة "ابن تنورين يقف على الحجر" وهي عبارة تعكس طبيعة المكان الجبلية أولاً، ثم حيوية الشخصيات الصلبة الواثقة من نفسها المعتزة بكبريائها... إضافة إلى الخليط الديني الكبير المنصهر في ذاك المكان والذي يكسب الشخصية انفتاحا على الآخر. الموسيقى وأبواب اخرى لقد أرادت المخرجة ايصالنا الى رؤية المكان بعلاقته بالشخصيات وعلاقة الشخصيات به، بدأت بنفسها حين انطلقت في البحث من محلٍ للكتب والجرائد القديمة لتعود إلى الماضي. وهي طبقت ذلك على شخصياتها: بهيجة حافظ مثلاً دخلت السينما من باب الموسيقى ومن صالونها الموسيقي الذي كانت تعزف فيه مؤلفاتها، عزيزة أمير من الاستوديو الذي عملت فيه، أمينة محمد من علاقتها باستوديو كاستروس، ثم استئجارها سطحاً لتصور فيلماً، أما آسيا داغر فقد نشأت في مكان ثقافي في مصر هو بيت عمها أسعد داغر الصحافي المرموق في "الأهرام"... وهي لم تمكث في مصر طويلاً حتى أتت بابنة أختها ماري كويني التي أنشأت مع زوجها أحمد جلال في ما بعد استوديو صغيراً كانت تعتبره ابنها الثاني باعتراف ابنها نادر جلال، وكان "ابناً" خشيت دائماً فقدانه إلى أن أخذه التأميم كما فعل بأملاك بقية الشخصيات. تعود المخرجة دوماً إلى الزمن الحاضر لتعرض سينمائيات شابات يجلسن في مكان ضيق مخنوق، تكثر أمامهن فناجين القهوة والمشروبات التي تدل الى طول الجلسة نتيجة الفراغ والملل. اللافت في الفيلم هو علاقة الأمكنة بهذه الشخصيات، لقد أصبحت الأخيرة منسية في أماكنها، لا يعرف أحد ديارها الأصلية وإن كانت من سكان المنطقة نفسها. وهكذا بعد جهد وعناء واضح على الشاشة تصل المخرجة إلى الأماكن ذات الدلالة سواء في انطلاق الشخصيات ام قبل مماتها، وربما كان هذا الأكثر قسوة وحزناً في الفيلم. أهمية المكان مرتبطة بالضرورة بالزمن وتغيراته السياسية والاجتماعية المتقلبة والتي نرى انعكاساتها على السينمائيات. فانتعاشهن كان نتيجة انتعاش عام للمجتمع بعد ثورة 1919 في مصر، وهن على رغم ذلك واجهن صعوبات مجتمعية مجحفة آنذاك، كأن تعتبر كل محترفة للفن فاسدة، عار عليها البقاء بالإسم نفسه، لذا لا بد لها من اسم فني ولا بد لجواز سفرها من المرور على "الآداب" قبل السفر. ولقد تطورت الأمور يومها لتصدر فتوى اسلامية تحرم من اعتنقت الفن على الرجل المسلم! وظل الوضع كذلك الى ان دخل الفن يوسف وهبة ابن الباشا الذي شجع الكثير من الشبان والشابات أبناء الذوات على دخول عالم التمثيل والفن. بيد ان انعكاسات الظروف المحبطة تشمل فتيات يومنا هذا اللواتي يعانين احباطات عدة لقلة الفرص المتاحة على رغم توافر الموهبة، وعدم توافر الجهة المنتجة... والجانب الأخطر هو انحسار عدد النساء في عالم الفن والتمثيل. يقول أحد الممثلين المسرحيين في الفيلم: "سابقاً ان أردنا ممثلة كان المدرج يمتلئ بالمتقدمات، الآن نجد صعوبة في ايجاد واحدة". وتصرح الشابات في أحد المشاهد بوجود توجه عام تتخذه كل ممارسة للفن اليوم بعدم اظهار جسدها أو تعريته، ورفضها للقبل على الشاشة. ربما يدلنا هذا الى وضع وتوجه لمجتمع كامل يؤكده تصريح احداهن عن موقف مأسوي روته بسخرية تامة حول دخولها معهد السينما... فماذا قال لها العميد يومذاك؟ لقد نصحها بالعدول عن دراسة الإخراج فنهاية "الفتاة بيت زوجها وتحديداً مطبخه"... هذا ما قاله عميد المعهد ولم يقله رجل جاهل من بيئة شعبية. فهل نستغرب... لماذا وصلنا إلى هنا؟ يطرح الفيلم السؤال ثم يستطرد: إن الثورة... والتأميم لم يخمدا عزيمة العاشقات، بل أثبتا حقيقة عشقهن وعدم وهمهن بذلك. فهن على رغم تأميم أملاكهن جميعاً بقين وبعن ما تبقى لصنع أفلام، منها ما صودر ومنع ومنها ما لم ينجح. كان هناك استمرار على رغم صعوبة الظروف: "التأميم كان ثورة عسكرية وليس شعبية" لذا نرى انعكاسها على السينما كما أشار الناقد سمير فريد في الفيلم، مضيفاً: "استبدل السينمائيون في أفلامهم الباشا بالضابط". سمير فريد كان واحداً من مجموعة دعمت شهاداتها فيلم ماريان خوري، كان جميلاً في الفيلم أنها أدخلتهم بطريقة فنية واستخدمتهم بشكل متنوع، هم دخلوا اللعبة ليس فقط للإدلاء بشهاداتهم كما في الأفلام التسجيلية المعتادة بل أشركتهم ماريان في الفيلم كممثلين باحثين معها يشاركونها ويساعدونها في رحلة بحثها: سمير فريد مثلاً مثّل معها كمحب للفن والسينما وباحث يحمل هماً شخصيا وقام بإرشادها ومساعدتها ومناقشتها. أما الناقد علي أبو شادي فقد أظهرته، بعد كل سؤال كانت تطرحه، وراء شاشة السينما يجلس في قاعتها، صورته من الخلف أولاً كمتفرج ناقد للأفلام ثم يلتفت ليتحدث ويقول رأيه، من دون نقاش كما يحدث مع سابقه سمير فريد. أما كمال أبو العلا الذي تظهره دائماً أمام آلته القديمة للمونتاج ويوسف شاهين فقد أخذت شهاداتهما كاثنين من اهل المهنة، نموذجين للذين عاصروا الرائدات وعملوا معهن وربطتهم بهن علاقة انسانية حميمة، وتعلموا منهن فكانوا تلاميذ... يصرح كمال أبو العلا أنه تعلم المونتاج على يدي بهيجة حافظ، كما أنها كانت أول من أحضر يوسف شاهين ليعمل يوم كان مفلساً بعد عودته من السفر. ويضيف شاهين أن آسيا داغر أحضرته لإخراج فيلم قبل أن تعرف شيئاً عن فنه. ويضيف: "جرأة المرأة وحب المغامرة لديها كانا يفوقان ما لدى الرجل بكثير". أما أمينة رزق فقدمت تفاصيل شخصية وخصوصية تغنينا في فهم طبيعة الشخصيات اضافة الى كونها قريبة لأمينة محمد ما مكنها بالتالي من ان تكون الأعرف بطباعها... اما من تبقى من أناس مروا في الفيلم فكانوا دليلاً للفتاة في بحثها، موضحين ببساطة وضعاً اجتماعياً كان سائداً وربما لا يزال إلى الآن. وجهات النظر المتنوعة هذا التنوع اللافت الذي قدمته ماريان خوري نوّع في وجهات النظر وجعلنا أكثر إحاطة بشخصيات "العاشقات" وبالبيئة المحيطة بهن ومدى تحررهن الذي نوهت به في بداية الفيلم، وقدمت البراهين عليه بعرض سيرتهن الجريئة الواعية. لقد تحدث من في الفيلم من نقاد وممثلين ومخرجين... عن تاريخ كل واحدة منهن وما فعلت، كأن يشيرون إلى تمثيل عزيزة أمير في أول فيلم روائي في مصر "ليلى" سنة 1927، "وهذا لوحده كان انجازاً" كما قال علي أبو شادي. أما بهيجة حافظ فكانت أول مؤلفة موسيقية مصرية، ألفت الموسيقى التصويرية لفيلم "زينب" ليس هذا فحسب بل مثلت ومنتجت وأخرجت في بعض الأحيان. المخرجة السينمائية الأولى في مصر كانت فاطمة رشدي الممثلة المسرحية الكبيرة التي أنشأت في ما بعد فرقة مسرحية تنافس، وبشراسة، فرقة يوسف وهبة. وكان المسرح أيضاً بداية أمينة محمد التي انطلقت منه لتمثل في السينما وتنتج على رغم عدم توافر مالٍ كافٍ لديها... و"سيدة الإنتاج الرفيع" لقب حملته آسيا داغر التي أسست لصناعة السينما، يوم كانت تكلفة أكبر فيلم لا تتجاوز 20 ألف جنيه فأنتجت "صلاح الدين" بتكلفة 120 ألف جنيه، أثبتت نفسها كممثلة دخلت السينما من بابها وليس من المسرح أو الموسيقى... وكذلك الأمر بالنسبة الى ابنة أختها ماري كويني التي بدأت ممثلة وانتهت بالإنتاج. وكان أول استخدام للأفلام الممغنطة في الاستوديو الخاص بها وبزوجها أحمد جلال والذي فقدته في التأميم كما تفقد أمٌ طفلها... كلهن خسرن لكنهن استمرين من دون توقف، بعن ما يملكن لصنع فيلم، لم يفكرن بالنتائج واحتمال الخسارة، همهن كان الاستمرار، ولولا استمرارهن وصدق عشقهن لما رأينا سينماهم ولا سينمانا. هذا ما تحدث عنه النقاد عن تاريخهن وحياتهن وفنهن. كما تحدثت المخرجة عن مؤسسات السينما الحقيقيات اللواتي قادتهن الظروف الى اتخاذ قرارات حاسمة "التي باعت فيلتها والتي رهنت بيتها والتي تركت أسرتها والتي تزوجت مريدها لكي يمولها...". ثم تنهي الباحثة رحلة بحثها بنتائج شخصية تحمل ذاتية المخرجة وتعبر عن اعجابها ورغبتها في الارتقاء بعشقها للسينما ول"العاشقات" الاسثنائيات، على رغم صعوبة ما يعترضها وأمثالها من السينمائيات الشابات من عقبات واحباطات، لذا أنهت مشوارها عندهن لتطرح اشارة استفهام عنهن في النهاية...؟ سبقت ذلك مجموعة محاولات منها لربط الماضي بالحاضر موضحة العلاقة بينهما عبر التشابه في حين والمقارنة في حين آخر ولا سيما من حيث الأمكنة التي تعرضها في شريط من الماضي ثم تأخذنا إليها اليوم لترينا قدمها وخواءها بعد أن كانت تضج بالحياة... كذلك كان هناك التداخل الذي أحدثته في حديث من الحاضر عن فنانة ما ثم يأتي الرد من قبلها في جملة من أفلامها... ويتجسد هذا التداخل بوضوح في مشهد تدخل فيه الفتاة صانعة الفيلم إلى صيدلية وبدل أن تأخذها الكاميرا داخل الصيدلية غاصت في لقطة مشابهة من فيلم سابق للممثلة آسيا داغر... هذا التماهي الجميل الذي حاولت المخرجة الوصول إليه ظهر بوضوح في الموسيقى المأخوذة دائماً من الأفلام القديمة والتي كانت تقود الانتقال من مشهد الى آخر، يعيدنا إلى الماضي لتعود المخرجة بكاميرتها فترينا الحاضر في شخصيات الشابات السينمائيات وهن مسكونات بكل ما يحملن من سكون ويأس وإحباط شبيه بخواء الأمكنة اليوم. لكن الاستمرار قائم وأكدت عليه ماريان خوري بآلة العرض التي تدور باستمرار وصوتها المكرر في الفيلم. وفي النهاية أليس من الأمور ذات الدلالة ان تشتري الفتاة العصرية عاشقة السينما آلة للعرض في مزاد علني؟ في نهاية الرحلة أغلق بائع الجرائد محله الذي بدأت الفتاة بحثها منه اعلاناً من المخرجة عن انتهاء البحث. اما الفتاة الباحثة فتقفل عائدة إلى المنزل الذي خرجت منه في بداية الفيلم لتعرض على شاشة الكومبيوتر الخاص بها "نسخة عمل" تندمج مع شاشة السينما ليكون الفيلم الذي صنعته هو الفيلم الذي عرضته لنا المخرجة. وننهي قراءة الفيلم بسؤال طرحته ماريان خوري، الفتاة، "هل كان زمنهن أسهل من زمننا، أم ان حماستهن هي الأكبر؟".