المقارنة بين حالتي العراقوايران هذه الأيام تنطوي على اجابة جديرة بالاهتمام عن السؤال المطروح هنا. في كلتا الحالتين تمثل اشكالية الحكم مناط الصراع، والسبب الرئيسي الكامن وراء الأزمة في كل منهما. لكن هناك اختلافاً واضحاً بينهما في طريقة التعاطي مع هذه الاشكالية. في الحالة الايرانية طرحت اشكالية الحكم بشكل عنيف مع بدايات الثورة على نظام الشاه عام 1978. وهو طرح اتسم بخاصية المشاركة الشعبية المباشرة في التعاطي مع الاشكالية ذاتها. ومن هنا اكتسبت الثورة الايرانية منذ بداياتها طابعها الاجتماعي. وهو طابع استمر يميزها حتى أيامنا هذه. صحيح أن الطبقة الدينية استولت على المؤسسات المفصلية للسلطة بعد الثورة. ومن الطبيعي أن تعمل هذه الطبقة على الاحتفاظ باحتكارها لهذه السلطة انطلاقا من شرعيتها الدينية، كما هو حاصل الآن في مواجهاتها المستمرة مع طلاب الجامعات. لكن مأزق هذه الطبقة يتمثل في أن وصولها الى الحكم تم في اطار شعبي. ومن هنا يبدو أنه نوع من المفارقة أن ينتهي الأمر بالطبقة الدينية الى الصدام مع القوى الشعبية نفسها التي أوصلتها الى الحكم. ليس هنا مجال تحليل الكيفية التي تم بها ذلك. ما يهمنا في هذا الاطار أن ماحصل هنا يؤكد أن سؤال الحكم في ايران لم يعد اشكالية للنخبة تحتكرها لنفسها، وتحتكر مشروعية التعاطي معها. بل اكتسب السؤال، وبسبب طبيعة الثورة، بعده الاجتماعي والشعبي الذي طالما كان غائبا في غمار صراعات جماعات النخبة السياسية بكل أطيافها الدينية والمدنية. ما يحصل في ايران الآن أن الطبقة الدينية بمحاولتها احتكار السلطة تنطلق من اعتقادها بامكانية أن تستعيد اشكالية الحكم طابعها النخبوي حصريا كما كانت عليه قبل الثورة. وأنها في هذه الحالة النخبة الوحيدة التي يحق لها على أسس دينية احتكار هذه الاشكالية. في المقابل هناك قوى، بما فيها بعض القوى الدينية، تعمل وباصرار على عدم العودة الى هذه الحالة، والدفع لأن تكون الطبيعة الشعبية والاجتماعية للثورة هي العامل الحاسم في تقرير طبيعة الدولة، وبنيتها المؤسساتية، وليس الفكر الديني كما تمثله القوى المحافظة التي لا تزال تمسك بمفاصل السلطة. وهذا هو جوهر الحركة الاصلاحية في ايران. وما حصل للدكتور الاصلاحي آغاقاجاري، خاصة الحكم القضائي باعدامه في الأسابيع الماضية، وتدخل مرشد الثورة لتغيير ذلك الحكم أمر لافت في هذا السياق. فهذا التدخل تحديدا يعكس ادراك القيادة للقاعدة الشعبية التي تتمتع بها الحركة الاصلاحية داخل المجتمع. والا فان ما يطالب به الأكاديمي الاصلاحي يمثل تحديا سافرا لسلطة رجال الدين. آغاقاجاري يعمل على استعادة طروحات الكاتب الايراني علي شريعتي، خصوصاً ما يتعلق منها بضرورة احداث ثورة في الفكر الديني في ايران شبيهة بالثورة التي أحدثتها الحركة البروتستانتية في غرب أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي. وهي الثورة التي أدت في الأخير الى انهاء احتكار الأكليروس، أو طبقة رجال الدين، لتفسير الكتاب المقدس، وجعلت من علاقة الفرد مع الله مباشرة من دون توسط الكنيسة في ذلك. بمثل هذا الطرح من الواضح أن الحركة الاصلاحية الايرانية تعمل على اعادة صياغة الاطار الثقافي والسياسي لاشكالية الحكم في ايران، وهو الاطار الذي يستند أساسا الى فكرة ولاية الفقية. مما يعني أن هذه الحركة تطمح الى تجاوز هذه الفكرة باعتبارها المستند الذي يقوم عليه احتكار رجال الدين لتفسير النص الديني. في الحالة الايرانية اذاً لم يعد سؤال الحكم معلقا من دون اجابة، ولم يعد من الممكن تجاهله. على العكس السؤال مطروح وبشكل ساخن. وهناك أكثر من اجابة لأكثر من طرف تمثل أساس الصراع الجاري في ايران هذه الأيام. والعامل الحاسم في كل ذلك هو الحضور الواضح للقوة الشعبية في هذا الصراع، أو استعادة اشكالية الحكم لبعدها الاجتماعي. وهي استعادة بدأت على يد الثورة. الحالة العراقية في المقابل كانت ولا تزال تسير في الاتجاه المعاكس. منذ بداية تأسيس الدولة العراقية بقيت اشكالية الحكم محصورة داخل طبقة النخبة، والنخبة السياسية بكل صيغها وأشكالها تحديدا. بل ان النخب السياسية عملت باصرار وبشكل مستمر على اقصاء البعد الاجتماعي لهذه الاشكالية. وفي هذا الاطار أصبح بامكان أي طرف يستولي على مقاليد الحكم سحب اعترافه بالاشكالية أصلا، واتهام كل من يحاول عكس ذلك باتهامات شتى تبدأ من اتهام بالسعي وراء السلطة، الى تهمة الخيانة. الشعب في هذه الحالة أضحى موضوعا للسلطة، وليس طرفا في معادلتها. بعبارة أخرى، تم تهميش البعد الاجتماعي لاشكالية الحكم، وبالتالي بقيت هذه الاشكالية معلقة من دون معالجة. ولعله أمر لافت حقا أن كل أطراف الأزمة العراقية لا يملك رصيدا شعبيا يمكنه الاستناد اليه في حسم الصراع. فالمعارضة لم تستطع أمورا كثيرة بسبب ذلك. فهي لا تستطيع الاتفاق ولو على الحد الأدنى من القواسم المشتركة في ما بينها. هذا بالرغم من أنها تتفق على ضرورة التخلص من النظام الحاكم. وهي لا تستطيع مواجهة هذا النظام في الداخل. وبالتالي لم يعد أمامها الا الاستقواء بقوة أجنبية تمنحها امكانية هذه المواجهة، وتدفعها الى تحييد خلافاتها ولو موقتا. ومن الصعب والحالة هذه تجنب استنتاج غير مريح هنا، وهو أن غياب البعد الشعبي أو الاجتماعي لاشكالية الحكم في العراق يتم استبداله بالقوة الأجنبية من قبل المعارضة. هذا لا يعني أن النظام الحاكم أكثر وطنية من المعارضة بالضرورة. فهذا النظام بدوره تنكر، ومنذ البداية، لأهمية البعد الشعبي لسلطته. واستعاض عن ذلك بآلية العنف والقمع. ولا يجدي كثيرا في مثل هذا الاطار الحديث عن أي الطرفين أكثر أو أقل وطنية من الآخر. لأن النتيجة تبدو واحدة في الحالتين. من جانبه لا يريد النظام الحاكم مواجهة اشكالية الحكم حتى في أحلك اللحظات التي تتهدد العراق برمته هذه الأيام على وقع الاستعدادات الأميركية لشن حرب عليه. ولا يريد مواجهة اشكالية الحكم بالرغم من أن ذلك هو الخيار الوحيد المتبقي لتلافي حرب تبدو حتمية. لماذا؟ لأن البعد الاجتماعي لمعادلة الحكم مهمش وغائب كقوة ضغط سياسية. واهتمام القيادة في الظروف الحالية محصور في بقائها، وفي مستقبلها. من ناحية، لم يعد هناك بديل في الظروف الحالية لتنحي هذه القيادة من أجل تفادي حرب كارثية على الجميع. وليس المطلوب هنا التخلي هكذا عن السلطة. بل العودة الى الشعب لاختيار قيادة بديلة، وذلك ضمن أطر واجراءات دستورية ونظامية مختلفة. لكن المأساة، من ناحية أخرى، أن هذا البديل غير مطروح في اطار الثقافة السياسية السائدة. وذلك لأن معادلة الحكم بقيت ناقصة وعرجاء من دون بعدها الاجتماعي. ولذا بقيت اشكالية الحكم معلقة لا يستطيع، أو لا يريد أي طرف مواجهتها كما هي. وبالعودة الى موقف المعارضة، لا يستطيع المرء تفادي حقيقة محزنة أيضا. وهي أن القوة الأجنبية ليست غريبة على المشهد السياسي العراقي. فالدولة العراقية الحالية تم تشكيلها على يد الحكومة البريطانية أثناء احتلالها للعراق عام 1921. وفي هذا السياق يورد مؤلف "تاريخ الوزارات العراقية"، عبدالرزاق الحسني، كيف تمكن بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق، من تحقيق ذلك بالتعاون مع الكثير من رموز النخبة السياسية العراقية الى أن استقر الأمر بتأسيس النظام الملكي بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. قبل ومع بداية النظام الملكي كانت مسألة الحكم قابلة للطرح والتفاوض، لكنها في كل ذلك بقيت مسألة محصورة بين رموز قوة الاحتلال ورموز النخبة السياسية. وحتى بعد الاستقلال بقيت المسألة نفسها مسألة نخبوية. واستمرت كذلك حتى بعدما استولى حزب البعث على الحكم. ثم عمل هذا الحزب على استبعاد المسألة تماماً كاشكالية تهم الجميع. وها هو العراق الآن يبدو وكأنه يعود من حيث بدأ، ينتظر حربا عدوانية أخرى. ويواجه احتمال عودة مندوب سام، أميركي هذه المرة. وأثناء ذلك وبعده يواجه الشعب العراقي مستقبلا غامضا لقضيته السياسية الأولى والمركزية، مسألة الحكم، ولمن تكون هذه المرة: للنخبة، أم للشعب والنخبة معاً. التجارب السابقة مع كل من النخبة والاحتلال لم تكن مشجعة. وسلوك كل من المعارضة والنظام غير مشجع هو الآخر أيضا. وفي الأخير، يبقى الشعب العراقي هو الطرف المستبعد من اللعبة، هو الطرف الضحية في كل الأحوال، ينتظر ما ستأتي به الأقدار. هل يملك الشعب العراقي الارادة لتعديل قوانين اللعبة، وتغيير معادلة الحكم في العراق، وبالتالي فرض العودة باشكالية الحكم الى طبيعتها الاجتماعية؟ هذه العودة ليست من بين أولويات الولاياتالمتحدة، كطرف جديد على الساحة السياسية العراقية. والأطراف الأخرى، أو النظام والمعارضة، لا تقدم بديلا أفضل، حتى الآن على الأقل. هل يملك الشعب العراقي بديلا آخر؟ حتى هذه اللحظة لا يبدو أنه كذلك. ومن هنا غموض المستقبل السياسي الذي ينتظر العراق، ومعه تنتظر المنطقة. الحالتان العراقيةوالايرانية تكشفان شيئاً مهماً، وهو أن السبب في بقاء سؤال الحكم معلقا في العراق يعود في الأساس الى تهميش البعد الاجتماعي لهذا السؤال، بل واستبعاده تماما من معادلة الحكم. وينبغي الانتباه الى أن العراق حالة عربية، وليس حالة شاذة واستثنائية. أما في ايران فان العودة الى طرح اشكالية الحكم تعود الى استعادة هذه الاشكالية لبعدها الاجتماعي هناك، الأمر الذي أعطى ايران امكانية تجاوز هذا المأزق التاريخي. في حين أنها في العراق بقيت على حالتها الأولى. ما حصل في ايران يشكل سياجا متينا يساعد على أن تبقى اشكالية الحكم، والصراعات حولها شأنا داخليا لا يسمح بتدخلات أجنبية مباشرة. أما ما حصل في العراق فيكشف أن استبعاد البعد الاجتماعي لسؤال الحكم يشكل، ولو بعد حين، تهديداً خطيرا للحكم ذاته. كما أنه يفتح باب التدخلات الأجنبية على حساب المصالح الوطنية. * كاتب سعودي.