ما يحدث في ايران هذه الأيام يشبه في أوجه كثيرة منه الأيام الأولى للثورة التي انفجرت أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي. التظاهرات الشعبية، بروز الطلاب الى واجهة الأحداث، الاعتقالات والمحاكمات، وفوق ذلك ضخامة الهدف الذي يدور حوله الصراع: الدولة ومن الذي سيفوز بالسلطة لتقرير طبيعتها ووجهتها الاجتماعية والسياسية. الا أن أهم أوجه الشبه بين المرحلتين هو أن العامل الذي أدى الى سقوط نظام الشاه يهدد الآن باسقاط التيار المحافظ الذي قاد الثورة ضد ذلك النظام، وذلك العامل هو "خسارة القاعدة الشعبية". فالانتخابات التي تمت منذ العام 1997، انتخابات الرئاسة، والانتخابات البلدية، والانتخابات البرلمانية الأخيرة، كلها تؤكد بشكل قاطع أن التيار المحافظ خسر خلال حكمه الذي استمر لعقدين من الزمن القاعدة الشعبية لصالح التيار الاصلاحي. واذا جاز لنا أن نأخذ الاحصاءات التي أفرزتها تلك الانتخابات كمؤشر هنا، فانه يمكن القول بأن التيار الاصلاحي يمثل ما بين 75$ الى 85$ من الشعب الايراني في مقابل 25$ الى 15$ للتيار المحافظ. وهذه، اذا صحت، أرقام كبيرة تمثل نذير شؤم بالنسبة الى مستقبل المحافظين. ولعله تجدر الملاحظة في هذا الصدد أن القاعدة الشعبية الواسعة للتيار الاصلاحي تتركز بشكل خاص بين الشباب والنساء، وهما الفئتان اللتان تمثلان معاً النسبة الأكبر من الشعب الايراني. بل ان طبقة البازار التي كانت من أهم حلفاء رجال الدين المحافظين إبان الثورة بدأت تنحاز الى التيار الاصلاحي أيضاً. يعني ذلك ببساطة أن الكثير من القوى الاجتماعية والسياسية، بمختلف توجهاتها وألوانها، كانت منخرطة بحيوية وفعالية في حركة المجتمع الايراني منذ ما قبل الثورة وحتى الآن. وهذا يشير الى أمرين مهمين في مسار الأحداث، وهما الطبيعة الاجتماعية للثورة وتأثيرها في ما يحدث حالياً. والأمر الثاني هو أنه بسبب هذه الطبيعة الاجتماعية فإن المواجهة بين التيار المحافظ والتيار الاصلاحي يتوقع لها أن تكون طويلة ومريرة. عوداً الى موضوع الطبيعة الاجتماعية للثورة يُلاحظ بشكل لافت محافظة هذه الطبيعة على حضورها وفعاليتها في الأحداث على رغم مضي أكثر من عشرين سنة على اندلاع الثورة. كان الاعتقاد أنه بعد المخاض الثوري الطويل والعنيف، وبعد الحرب مع العراق التي امتدت لثمان سنوات، وبعد نجاح الثورة الباهر في تأسيس وترسيخ دولتها، كان الاعتقاد أن كل ذلك كفيل بأن يدفع الشعب الايراني الى الراحة والخلود. لكن على العكس أثبتت الأحداث الأخيرة أن القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع الايراني لا تزال يقظة وحيوية، وتملك أكثر من سبب لأن تشارك وبفعالية في صياغة الأحداث والتغيرات التي ما فتىء المجتمع الايراني يمر بها. هذه هي الطبيعة الاجتماعية التي يبدو أن التيار المحافظ لم يدرك خطورتها ومتطلباتها والتبعات التي يمكن أن تترتب عليها، خصوصاً بعد وفاة الإمام الخميني، قائد الثورة والأب الروحي للتيار المحافظ بالتحديد. تميزت الثورة الايرانية منذ بدايتها بأنها كانت ثورة اجتماعية، وهي صفة أصبحت تعرف بها في الأدبيات السياسية، خصوصاً الأدبيات التي تبحث في ظاهرة الثورة في المجتمعات الحديثة. وصفة اجتماعية هنا يقصد بها الثورة التي لها جذور شعبية، وتترتب عليها تغيرات واسعة تتعدى مجرد تغيير الطاقم الحاكم لتشمل تغيير البنى الاجتماعية والسياسية والايديولوجية للمجتمع. بهذا المعنى تختلف الثورة الاجتماعية عن مفهوم "الانقلاب العسكري" الذي لا يغير شيئاً في بنية السلطة أو في مفهومها، ولا في بنية المجتمع. لأن كل ما يتغير في مثل هذا الانقلاب هو المجموعة التي تتربع على سدة السلطة. وظاهرة الانقلابات العسكرية في العالم العربي أوضح مثال على ذلك. من ناحية أخرى تختلف الثورة الاجتماعية عن "الثورة" التي تحدث في قمة السلطة حيث تكون بدايتها مماثلة للانقلاب، لكنها مع الزمن قد تؤدي الى تغير في بنية المجتمع، وهو ما حدث في مصر العام 1952، ما يجعل من المقبول عملياً استخدام مصطلح "ثورة يوليو" لوصف ذلك الحدث. في الحالة الايرانية نجد أن الطبيعة الاجتماعية للثورة تداخلت مع الطبيعة الكاريزمية للامام الخميني. فقد كان الخميني، بوصفه قائد الثورة وأبوها الروحي من دون منازع، هو المرجعية الأعلى ومحور التماسك لجميع قوى الثورة بمختلف ألوانها، ولأن هذه الثورة انطلقت في الأساس من الأيديولوجيا الشيعية، وقامت على المفهوم السياسي الشيعي ل"ولاية الفقيه"، لم يكن الخميني، وهو الفقيه والسياسي اللامع، قابلاً لأن يكون مع كل تلك المواصفات عرضةً للتصويت والانتخاب. وبالتبعية لم يكن المنصب الذي شغله الامام مرشد الثورة قابلاً للانتخاب أيضاً. بهذه الوضعية وبتلك المواصفات استطاعت الطبيعة الكاريزمية للخميني أن تحيد، ولو موقتاً، الديناميكية السياسية لطبيعة الثورة الاجتماعية. تضاف الى ذلك طبعاً الحرب مع العراق والتي شكلت عامل تكتل والتفاف حول القيادة في وجه خصم خارجي يهدد الثورة والدولة معاً. في هذا الاطار كانت الشخصية الكاريزمية للخميني السند القوي الذي تنامت في ظله القوى المحافظة فقهاء وعلماء وتكنوقراط وخطباء، الخ، وبمباركته بسطت هذه القوى سيطرتها على مؤسسات الدولة. وفي السياق نفسه كان الخميني هو الدرع المتينة التي وفرت الحماية لتلك القوى في مقابل خصومها ومنافسيها. بهذه الطريقة تشكلت الطبقة الحاكمة في الدولة الدينية الجديدة في ايران. وهي طبقة تختلف في تكوينها وفي علاقاتها وتوجهاتها السياسية والايديولوجية عن الطبقة التي حكمت في دولة الشاه. لكن هذه الطبقة ليست الا أبرز رموز النخبة الجديدة التي أفرزتها الثورة في معرض مقارنته بين دولة الشاه ودولة الثورة الايرانية يذكر الاكاديمي الايراني شاروغ آخافي بأن دولة الشاه كانت تقف فوق المجتمع وتفرض نفسها عليها بقوة الجهاز البيروقراطي، خصوصاً الجهاز الأمني. وبالتالي كانت دولة نخبوية بامتياز. في المقابل جاءت دولة الثورة لتعكس الوضع بحيث أصبح المجتمع هو الذي يفرض نفسه على الدولة، لتبدو هذه دولة شعبية وكأنه لا نخبة لها. بعد وفاة الخميني، وانتهاء الحرب مع العراق، عادت الأمور والأحداث في إيران إلى سياقها العادي لتنكشف القوى المحافظة أمام النقد والتدقيق فتبدو، خصوصاً لمن هم خارج السلطة، مثل أي نخبة أخرى، بل مثل نخبة دولة الشاه، تعمل على تحقيق مصالحها وعلى الاحتفاظ بمواقعها في السلطة. وبما أن الدولة التي دشنتها الثورة هي "دولة الفقهاء"، وتقوم على مفهوم "ولاية الفقيه"، كانت الآلية التي اعتمدت عليها القوى المحافظة للاحتفاظ بمواقعها في السلطة هي استبعاد أهم مؤسسات الدولة عن عملية الاستحقاقات الانتخابية وجعلها تعمل بالتعيين فقط، أو بالانتخاب من داخل تلك المؤسسات، وذلك بما يسمح للفقهاء بتدوير أنفسهم بين المؤسسات نفسها. وأهم هذه المؤسسات مكتب الفقيه، أو "مرشد الثورة" ومجلس الخبراء، ومجلس المحافظة على الدستور، ومجلس القضاء الأعلى. تبدو آلية تدوير الفقهاء هذه قانونية من حيث الشكل، لكنها في العمق آلية أيديولوجية تؤسس لاحتكار السلطة من قبل هؤلاء الفقهاء. وهو ما يكشفه تأكيد الخميني أن دستورية الحكومة الإسلامية لا تعني أن صلاحية القوانين ونفاذها مشروطان بمصادقة الغالبية عليها. دستورية الحكومة الإسلامية تعني، كما يقول، أن الحكام أنفسهم خاضعون لمجموعة الشروط والمعايير التي جاءت في الكتاب والسنة حول مسألة الحكم. وبما أن الفقهاء يدعون بأنهم وحدهم الذين يمتلكون شروط معرفة ما جاء في الكتاب والسنة وتفسيره، فليس من المقبول منطقياً أن تخضع مراكزهم وأدوارهم للانتخاب والتصويت من جانب العامة الذين يجهلون المعايير الشرعية التي يجب أن يتم التصويت وفقاً لها. من هنا نجد أن الخميني في وصفه للدولة الإسلامية كان دقيقاً من حيث أنه كان دائماً يتجنب وبشكل واع استخدام صفة "الديموقراطية"، وبدلاً من ذلك يستخدم باستمرار صفة "الدستورية" بالمعنى المشار إليه. ولذلك كان من الطبيعي أن الدستور الإيراني الذي تمت صياغته وتبنيه تحت إشراف الخميني يحصر مسؤولية تفسير الدستور ب"مجلس المحافظة على الدستور" الذي يعين نصف أعضاؤه من الفقهاء من قبل المرشد أو الفقيه، وليس بمجلس الشورى أو البرلمان الذي ينتخب أعضاؤه بواسطة الشعب. بل إن مجلس الشورى هذا لا يملك إلا حق تفسير القوانين العادية التي، وعلى العكس من الدستور، لا تمس جوهر الدولة "الإسلامية" والأصول التي تقوم عليها. عندما نأتي إلى الأمر الثاني الذي تفرضه الطبيعة الاجتماعية للثورة نجد أننا أمام إمكانية فعلية وهي أن التحولات الأخيرة في المجتمع الإيراني وما رافقها من انتخابات وصدامات واعتقالات تنبئ بمخاض ثوري مرير. لأن التحول في اتجاهات الطبيعة الاجتماعية للثورة مؤخراً، أو انحياز القاعدة الشعبية إلى التيار الإصلاحي هو الذي أتى بهذا التيار إلى السلطة. لكن القاعدة الشعبية تنتظر أكثر من ذلك. من هنا فإن سيطرة التيار الإصلاحي على مؤسسة الرئاسة وعلى مجلس الشورى لا يعني إلا البداية الفعلية للصراع، وأن مشوار الإصلاحيون سيكون مع ذلك طويلاً قبل أن يكون في إمكانهم السيطرة على الدولة، هذا إذا افترضنا إمكان تحقيق ذلك. فالتيار المحافظ لا يزال يهيمن على مؤسسة الفقيه أو مرشد الثورة، وعلى مجلس المحافظة على الدستور ومجلس الخبراء، وعلى مؤسسة القضاء، عدا عن سيطرته على المؤسسة العسكرية، وخاصة حرس الثورة. وهذه كلها، وكما أشير أعلاه، مؤسسات خارج إطار العملية الانتخابية، ومن ثم لا علاقة لها بالقاعدة الشعبية. التيار المحافظ يدرك بأنه خسر القاعدة الشعبية التي مكنته من إسقاط نظام الشاه وأتت به إلى الحكم. ولذا فإن مهمته هي إيجاد الوسيلة التي بواسطتها يمكنه إيقاف المد الإصلاحي في المجتمع. أما التيار الإصلاحي فيدرك بدوره أن كسبه للقاعدة الشعبية، وسيطرته على المؤسسات المنتخبة ليس إلا مكسباً كبيراً في مسيرته الطويلة. ومن ثم فإن السؤال الذي يشكل تحدياً حقيقياً لهذا التيار هو كيف ينبغي التعامل مع مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها المحافظون، والتي تقع خارج اللعبة الانتخابية. بعبارة أخرى، الانتخابات هي الآلية الوحيدة التي أضفت الشرعية على الدور السياسي للتيار الإصلاحي ومنحته دعم القاعدة الشعبية. لكن الدولة التي ضمن إطارها حصل التيار الإصلاحي على شرعيته هي دولة ذات طبيعة مزدوجة: طبيعة سياسية ودينية في الوقت نفسه. وأبرز ملامح هذه الازدواجية يتمثل في وجود مركز ولاية الفقيه الذي يتم شغله بالتعيين إلى جانب مركز الرئيس الذي يتم شغله بالانتخاب. والطبيعة السياسية هي التي سمحت للاصلاحيين بالسيطرة على مؤسسات الدولة السياسية، وذلك من بوابة العملية الانتخابية. لكن طبيعة الدولة الدينية تسمح للمحافظين بالإبقاء على سيطرتهم على المؤسسات ذات الصبغة الدينية الأوضح. من هنا فإن الرهان الذي يدور حوله الصراع الحالي هو رهان كبير. بل إن هذا الصراع وبالصيغة التي يبدو عليها الآن يسمح بالنظر إلى الثورة الإيرانية على أنها مرت بطورين رئيسين: طور تأسيس الدولة، وطور إعادة صياغة هذه الدولة. لأنه إذا كانت الثورة في بدايتها استبدلت دولة الشاه "العلمانية" بدولة دينية، وأعادت بناء السلطة وفق آليات جديدة، فإن الذي يحدث الآن هو مخاض ثوري آخر داخل الثورة نفسها. إنه مخاص إعادة صياغة مفهوم الدولة، وذلك على أسس تختلف عن تلك التي قامت عليها إبان نجاح الثورة. لذا فإن مهمة التيار الإصلاحي لا يمكن أن تكتمل، طال الزمن أو قصر، إلا بالقيام بمهمة إعادة الصياغة هذه. والذي يبدو حتى الآن أن القاعدة الشعبية مرة أخرى سوف تدعم الإصلاحيين في هذا الاتجاه إذا ما أحسنوا معالجته بطريقة تتلاءم مع دقة الموقف وحساسيته. ألا يمكن القول بأن عملية إعادة صياغة مفهوم الدولة قد بدأت بالفعل؟ أحد المؤشرات على ذلك أن فكرة جعل منصب ولاية الفقيه منصباً منتخباً من الشعب أصبحت مطروحة في الشارع الإيراني، حتى وإن لم يتبناها زعماء الإصلاح بشكل مكشوف. مؤشر آخر هو موقف آية الله حسين منتظري أحد الذين أسسوا لفكرة ولاية الفقيه، ونائب الخميني كمرشد للثورة في سنواتها الأولى. هذا الإمام عزل من مسؤولياته بأمر من الخميني في العام 1987م، وذلك بسبب التغير الذي طرأ على موقفه من مسألة "ولاية الفقيه". كما يبدو. ففي مقابلة معه في جريدة الحياة العدد 12559 يرى منتظري ضرورة الفقيه لمراقبة التزام الحكومة بموازين الإسلام. لكنه في الوقت نفسه يرى ضرورة تقليص دور الفقيه بحيث لا يتجاوز "مجال تخصصه". ثم يضيف قائلاً بأن "ولاية الفقيه المطلقة، وكون الفقيه فوق القانون، وكونه يستطيع التدخل في جميع الأمور من دون حساب وكتاب، وامتلاكه حق التشريع فيها، تعتبر في عرف الشرع والعالم هي الاستبداد بعينه. وأن الاستبداد في عالمنا المعاصر لا يمكن أن يستمر ويدوم. وان الاصرار على ذلك سيؤدي إلى أن تزول أرضية إشراف الفقيه على كيفية إدارة الدولة". الغريب أن آية الله منتظري لم يتحول إلى الأب الروحي للتيار الإصلاحي، كما كان الخميني بالنسبة للتيار المحافظ. هذا قد يعني أن قادة الإصلاح لا يريدون الارتباط بشخص استبعده الخميني، قائد الثورة والأب الروحي لها. لكن ذلك قد يعني أيضاً أن التيار الإصلاحي لا يريد الخروج من عباءة فقيه ليدخل في عباءة فقيه آخر. * كاتب سعودي.