يشعر المتابع لأحوال جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت بثقل السنين ال125 التي تحتفل الجمعية بمرورها على تأسيسها. فالدور السياسي الذي لعبته "المقاصد" على مدى عشرات السنين انكفأ بعد استقالة النائب السابق تمام سلام من رئاستها إثر خسارته المدوية في الانتخابات النيابية عام 2000. فيما انحسر الدعم المالي الذي كان يمدها بامكانات الاستمرار والتطور في شكل شبه كلي بعد توقف المساعدات العربية وتقلص الواردات من الاستثمارات العقارية، اذ ان قسماً كبيراً من هذه العقارات يقع في الوسط التجاري الذي استملكته شركة "سوليدير". وطرح نداء "الاستغاثة" الذي وجهه رئيس الجمعية أمين محمد الداعوق قبل نحو شهرين الى البيروتيين والقادرين لمديد العون الى "المقاصد" جملة اسئلة عن مصير هذه الجمعية التي تدير 49 مدرسة في لبنان، ويبلغ اجمالي عدد طلابها نحو 16 ألفاً بينهم 14 ألفاً في المدارس المجانية ذات الريع المخفوض، كما تدير مستشفى يضم 200 سرير ويستقبل نحو 50 ألف مريض سنوياً الى جانب مستوصفات ومساجد ومعاهد للتعليم العالي والمهني وصولاً الى وحدة مدافن المسلمين في بيروت. ولا شك في ان نيل النائب السابق تمام سلام نحو ثلاثة آلاف صوت سني فقط في الانتخابات النيابية الاخيرة اعتبر في حسابات المراقبين "غدراً بيروتياً" بوريث زعيمها صائب سلام الذي تنحى عن رئاسة "المقاصد" في بداية الثمانينات لنجله، واعتزل العمل السياسي الى منفاه الطوعي في جنيف، تاركاً الامانة لتمام لمواجهة أعباء العمل السياسي والعمل التربوي على وقع طبول الحرب. لكن هذه الخسارة اظهرت في الوقت نفسه ان ثمة خطراً يتهدد "المقاصد" ايضاً، بعدما تمكنت "محدلة" رئيس الحكومة رفيق الحريري التي قلبت الموازين في بيروت لمصلحته انتخابياً من الدخول في النسيج الاجتماعي البيروتي، فلم تعد "المقاصد" وحدها من يجسد حلم الأسلاف في "تعليم ابناء الطائفة الاسلامية وتطبيبهم"، بعدما باتت الساحة البيروتية تعج ب"المنافسين"، و"مؤسسات الحريري" منهم. ولا تكشف جمعية المقاصد عن الرقم الحقيقي للعجز المالي الذي تنوء تحت ثقله، ويفضل الداعوق التحدث عنه من وجهة نظر متفائلة "فهو لا يساوي عشْر املاكنا، وحتى الآن لم تطالبنا المصارف التي نستعين بها باغلاق حساباتنا. ونحن اليوم نقترض محلياً لنسدد ديوننا، لكن لدينا وسائلنا لتسديد هذه المستحقات، واذا الجمعية باعت قطعة ارض واحدة تسدد قرضها". ولكن هل ثمة من يريد انقاذ "المقاصد" من دون مقابل؟ يقول الداعوق: "اعرف ان المقاصد لها اهمية اجتماعية لا سياسية، كانت هذه الاهمية مرتبطة بشخص اسمه صائب سلام، وبعد رحيله تدنت قيمة المقاصد السياسية كثيراً، ولأن الحظ عاكس رئيسنا تمام سلام لم تعد الجمعية مرتبطة بشيء اسمه سياسة. اهمية المقاصد ان كل فرد في لبنان يحبها. لكن الجمعية لا تستطيع ان تجيّر شيئاً لأحد. نحن مؤسسة نظيفة لم ولن نتعاطى المواضيع البخسة التي تعاطت بها مؤسسات اخرى. المقاصد ليست مرهونة لأحد". ولا ينكر القيمون على المقاصد ان الجمعية لم تعد طرفاً في اللعبة السياسية بعدما صارت هذه اللعبة "آحادية"، لكن استبعاد المقاصد كقطب يبدو لهؤلاء خطوة مريحة "فمن كان يحاربنا لم يعد يفعل ومن لم يمد لنا المساعدة لم يعد يحاربنا". ولا يقلل الداعوق من مقدرة الرئيس الحريري على انقاذ المقاصد "اذا اراد ذلك. فنحن حين نطلب مساعدته لا يقصّر عندما يستطيع". لكن الداعوق يستبعد ان يكون الثمن السيطرة على المقاصد "فنحن لا نضع انفسنا امامه لابراز هويته البيروتية اذ ان له وسائله في ذلك، كما اننا لا نتنكر لزعامته في بيروت". و"المقاصد" كما يقول الداعوق "لا تتوجه الى النخبة ولا الى الميسورين. المقاصد يختارها من يعرف رسالتها، لدينا من اغنى الاغنياء الى افقر الفقراء، والوضع لم يتغير الا خلال الحرب عندما جاءت الى بيروت مجموعات من خارجها. وغادرت مجموعات بيروتية الى خارج لبنان، واليوم عاد الينا نحو 400 تلميذ من غير الميسورين، وفي الوقت نفسه غادر "المقاصد" طلاب بعدما اصبح اهاليهم ميسورين فانتقلوا الى مدارس أخرى، لكن هذا التحرك الذي يحصل في المدارس لا تؤخذ منه العبر وإلا دخلنا في دوامة". ورسالة "المقاصد" كما يقول الداعوق هي "الاعتدال الذي يتجسد في مساجدنا. ومفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني يعتبر ان لديه حصناً مقاصدياً هو مساجدنا ولم يسأل يوماً ماذا يحصل في مدارسنا او جوامعنا. من الناحية الدينية المقاصد حصن المسلمين، على ان نصف المتطرفين دينياً عاشوا حياتهم في المقاصد وثلاثة ارباع اهاليهم من المقاصد وفيها وكلهم في النهاية ستدفنهم المقاصد". ويؤكد الداعوق ان موجة التطرف الديني في بيروت لم تبدأ من المقاصد "فهذه طفرة سياسية وليست دينية. هناك كثر ممن تركوا المقاصد الى هذا التطرف وعادوا اليها لأنهم لا يريدون الاستمرار في تلك الاجواء". ولا يقلل الداعوق من زمن شهد نوعاً من التحرك السياسي ضد "المقاصد" من مجموعات اسلامية متطرفة "ولكن بالاخراج اللبق الذي قام به تمام سلام بتنحيه من رئاسة الجمعية ازال الحواجز وقطع الدرب امام هؤلاء ولم نعد نسمع بهم. وليس لنا اي توجه مع هذه المجموعات او ضدها. المجتمع المسلم متكاتف اجتماعياً لكن هناك مشكلة سياسياً. هناك مدارس اصولية ومساجد اصولية، لكن المستشفى الاسلامي الوحيد في بيروت هو المقاصد، واذا قصدناه سنجد الجميع هناك لأنهم يعتبرونه لهم، هذه المجموعات لم تعد تلعب بالمقاصد سياسياً لأنه لم يعد للجمعية دور سياسي". ولا يتوقع الداعوق من هذه المجموعات التي تستفيد من المقاصد ان تدعمها فلهم مؤسساتهم التي يدعمونها "وأعتقد ان من يريد السيطرة على المقاصد يجب ان يكون شجاعاً جداً، خصوصاً عندما ينظر الى عجزها المالي". "استغاثة المقاصد" تترافق مع خطة وضعتها الجمعية لتدارك الوضع القائم والذي "يمكن ان يستمر لخمسين سنة مقبلة من دون ان تهتز مؤسسات الجمعية" على حد قول الداعوق. وتقضي الخطة باعادة جدولة الديون وتحويلها قروضاً طويلة الأمد "وكنا عرضنا هذا الامر على الرئىس الحريري منذ سنتين وطلبنا وديعة نضبط بها اوضاعنا ونعيدها واستحسن هذا الحل، لكن تعاقب الاحداث لم يمكنه من مساعدتنا". والجزء الثاني من الخطة "تكوين وقفية مقاصدية بقيمة مئة مليون دولار، ما يعني تسييل بعض املاك الجمعية لفترة خمس سنوات، تجمع خلالها التبرعات من داخل لبنان ومن الدول العربية". أما الحل الثالث الذي تقترحه الجمعية فهو طرح كفالة تلميذ مقاصدي على خمس سنوات بمقدار دولار في اليوم ويقول الداعوق: "اذا استجاب اصدقاء المقاصد نستطيع ان نقطع وقتاً نكون خلاله شكلنا الوقفية وبعدها لن نعود في حاجة الى احد".