يتباهى القيمون على المدارس التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت بأنها المدارس شبه الوحيدة في العاصمة التي تمكنت أن تبقى خلال سنوات الحرب اللبنانية، في منأى عن تداعياتها، فلم تنفذ اليها أفكار الحرب ولا أفعال ميليشياتها، على رغم أن مواقع معظمها تحوّل خطوط تماس. الا أن مدارس هذه الجمعية المتجذرة في مجتمع العائلات البيروتية منذ أكثر من 120 عاماً والتي تضخه بمفاهيمها وقيمها ومعتقداتها ارتأت اليوم الخضوع لمعايير جديدة باتت تحكم نسيج هذا المجتمع ولم تكن يوماً من تكوينه. الاختلاط والعودة عن تجربة تعليم مادتي العلوم والرياضيات باللغة العربية خطوتان اتخذتهما المقاصد لتباشر تطبيقهما مطلع العام الدراسي المقبل، وتبدوان للوهلة الأولى انتفاضة على التقاليد المقاصدية، لكن رئيس الجمعية النائب تمام سلام يعتبرهما استجابة للمتغيرات الحاصلة في المجتمعات على مستوى التربية والتعليم والمفاهيم التي فرضتها ثورة الاتصالات والعولمة، ويعترف في الوقت نفسه "بأن ما كانت تعتبره المقاصد انجازاً في حينه أصبح في رأي الناس اليوم تراجعاً وتقوقعاً". ويشير في حديث الى "الحياة" الى ان اعادة وزارة التربية اللبنانية النظر في هيكليتها التعليمية بعد مضي عشرات السنوات على اجترار الهيكلية نفسها "استدعى من المقاصد مراجعة جذرية لمناهجها التعليمية التي لم تتغير منذ 16 عاماً، وتقرر نتيجة ذلك التوجه نحو تجميع مدارس المقاصد في بيروت حيث هناك ثماني ثانويات وعشر ابتدائيات فأنشأنا أربعة مجمعات تعليمية تعنى بالتدريس من صف الأمومة الى الصف الثالث الثانوي، وقررنا اعتماد الاختلاط في هذه المجمعات، وأبقينا مدرسة واحدة للبنات لعل هناك بعض أولياء الأمور لا يرغبون في أن تكون بناتهم في مدارس مختلطة". ويؤكد أن القرار بجعل المجمعات مختلطة "لم يتخذ إلا نزولاً عند رغبة مجالس أولياء الطلبة التي تتكرر منذ بضع سنوات، لأن من البديهي عندما يتعلم أولادهم في مرحلة التعليم الأساسي الحضانة والابتدائي في مدارس مختلطة أن يستمر هذا الاختلاط، فالعصر يتقدم والاختلاط على قدم وساق في كل المجالات ولم يعد من معوقات في هذا الاتجاه، وقد راعينا وسائل المراقبة وضبطناها في المدارس كي لا يتحول الأمر الى شيء آخر". ويشير الى أن الاختلاط لن يتم دفعة واحدة إنما سيكون تدريجياً "لأننا نريد مراحل متوازنة، وهذا يسهل علينا خطوات أخرى تتعلق بمتابعة أداء الفتية والفتيات في الصفوف، وهناك اقتراح بأن يكون الطلاب ذكوراً وإناثاً منفصلين داخل الصف كخطوة أولى ثم تدريجياً يتم الاختلاط، والمطلوب أيضاً اعادة النظر في تجهيزات أخرى من مثل المراحيض". ولكن، الى أي مدى ينسحب هذا الاختلاط على الأداء المقاصدي؟ وأين المرأة في مواقع القرار في الجمعية؟ يجيب سلام: "يبلغ عدد أفراد هيئتنا التعليمية 1100 معلم 950 منهم اناثاً و150 ذكوراً، وفي المستشفى من أصل 500 موظف هناك 320 موظفة، أما على المستوى الإداري فيكاد يكون الأمر مناصفة إذا لم تكن الكفة راجحة لمصلحة المرأة، ولكن يبقى حضور المرأة في قطاعات حرفية ومهنية قليلاً بل نادراً، كالمطبعة مثلاً. ويعتقد أن المنافسة بين المقاصد والمؤسسات التربوية - الاجتماعية الأخرى ليست جديدة "لكنها احتدمت في المدة الأخيرة لأن هذه المؤسسات كثرت وبيروت توسعت واحتضنت، ولا تزال كثراً من اللبنانيين من كل الفئات والمناطق، لكن حصة المقاصد بقيت محترمة وكبيرة في مجتمعها بيروت. أما الحصة الكبرى هذا العام فكانت للمدارس الرسمية، وذلك يعود الى تدني الامكانات المادية لدى الناس، وشهد الكثير من المدارس الخاصة تخلي عائلات عنها لمصلحة المدرسة الرسمية ولا سيما تلك العائلات التي تضم أكثر من ولدين". من هم تلامذة المقاصد؟ - المقاصد أوجدت مدارسها لتكون في خدمة المجتمع عموماً ولخدمة غير الميسورين، أي ذوي الدخل المحدود خصوصاً، فهذه رسالة جمعية المقاصد الخيرية، ولأنها مؤسسة تعنى بتعليم الدين الإسلامي بانفتاح ومن دون تزمت، فإن عائلات بيروت ترتاح الى المقاصد وتستكين لها لتعليم أولادها أصول دينهم. مثل هذه العائلات الى أي حد يمكنها القبول بفكرة الاختلاط؟ - هي التي طالبتنا به، هذه الشريحة من الناس تصبو الى أن توفر لأبنائها ما هو موجود في كل المؤسسات الأخرى فلمَ لا يتوافر في المقاصد؟ لا تريد أن يكون أولادها في المقاصد متأخرين أو متخلفين عن غيرهم، نريد توفير الفرص الفضلى لهم. كم من خريجي المقاصد ينتقلون الى الجامعات؟ - النسبة الكبرى تدخل الجامعة، نحن نخرّج سنوياً نحو 300 طالب وطالبة ويمكن القول ان 98 في المئة منهم يتجهون الى الجامعة. من الخطوات التي اتخذتها المقاصد قبل سنوات وأثارت في حينه ردود فعل متباينة التحول في المرحلة الابتدائية الى تعليم مادتي العلوم والرياضيات باللغة العربية لا الأجنبية، كما كان سائداً، وتبدو اليوم في عودتها عن هذه الخطوات كأنها أذعنت لكل الانتقادات التي قاومتها؟ - هذا موضوع قديم وحساس وله أبعاد معنوية وعاطفية. قبل 16 عاماً اتخذنا قراراً باعتماد اللغة الأم لغة تعليم لمادتي العلوم والرياضيات في المرحلة المتوسطة، إذ ثبت علمياً لدى الكثيرين من التربويين أن تعرّف الطالب الى معادلات العلوم والرياضيات ومسائلها في أول مراحل حياته بلغته الأم يساعده على حل رموزها، ويمكن القول اننا سجلنا نجاحاً مميزاً وكنا أجرينا تجارب على طلاب درسوا هاتين المادتين باللغة الأجنبية ثم أعدنا التجربة على الطلاب الذين تلقوهما باللغة العربية، ووجدنا أن الفئة الثانية تميزت بفهمها للمادتين، ولكن ويا للأسف، وعلى رغم أنهم أعطونا نتائج جيدة جداً، لم يتفهم المجتمع هذا الأمر، واعتبر أن المقاصد لا تعلم اللغة الأجنبية أو تنازلت عن تعليمها، وأطلقوا على هذه الخطوة كلمة تعريب، وهي ليست في الحقيقة كذلك، إنما تعليم العلوم والرياضيات باللغة العربية، لا كل المواد ولا في كل المراحل. لكن هذا الانطباع طغى عند الناس وشكّل رد فعل لأننا في لبنان بالذات نعتبر أنفسنا بوابة الغرب على الشرق والجميع يطمح الى التسلح باللغة الأجنبية والتباهي بمعرفتها، فاعتبروا أن في ذلك انتقاصاً من امكان التعرف الى اللغات، ولم تكن لدينا القدرة على تبديده، فأينما كنا نذهب ونحلّ كنا نُطالب دائماً بالعودة الى اللغة الأجنبية. نشرح ونوضح ومع ذلك يعودون الى مطالبتنا بالأمر، الطلاب الذين تخرجوا لم يواجهوا مشكلة مع اللغة، وفي الوقت الذي كنا نتمنى أن تعمم تجربتنا على مؤسسات تربوية أخرى، بدونا كأننا متقوقعون ومنغلقون ومنعزلون، ولا بد من أن نعترف بذلك الواقع المنعزل إذ لم تلحق بنا أي مدرسة. وعلينا الاعتراف بأن هذا الأمر لا يفيد دورنا التربوي والتعليمي في وسط مثل الوسط اللبناني، وعلينا الاعتراف بمساوئه، فطلابنا لم يكن في مقدورهم الانتقال الى مدارس أخرى في المرحلة الابتدائية لعدم توافر هذا الأسلوب، وطلاب المدارس الأخرى لم يكن في مقدورهم الالتحاق بمدارسنا للسبب نفسه، فضلاً عن أن طلابنا شعروا ولو في شكل ضئيل أنهم يختلفون عن طلاب لبنان. ولو ربطنا ذلك مع شعور المجتمع حيال هذا الموضوع لوجدنا أن الخطوة لم تعد ايجابية ولا متميزة إنما سلبية مع الأسف. فعدنا عن هذه الخطوة مع ادراكنا أن البعض قد يتحفظ عنها. وهذا البعض قلة من التربويين والمفكرين. الى أي مدى ستتمكنون من التوفيق بين الانفتاح والحفاظ على التقاليد المقاصدية المتوارثة؟ - المعروف عن مدارسنا انها منضبطة وملتزمة، وطلابنا يتفاعلون مع ادارات مدارسهم. ففي سنوات الأحداث عندما كانت غالبية طلاب المدارس الرسمية والخاصة يتصرفون، في غالبيتهم من وحي أجواء تلك الأحداث لارتباطهم بأحزاب وميليشيات وكان بعض المدارس اضطر الى الاقفال ولا سيما منها المدارس الرسمية لأن طلابها انتقلوا الى الشوارع والى ممارسة العنف واستهدفت الميليشيات بعض المدارس الخاصة، كانت مدارس المقاصد في منأى عما كان يجري. ألم يعش طلابكم انفصاماً في الشخصية بين ما يحدث داخل جدران المدرسة وخارجها؟ - تمكنا من الحفاظ على تلامذتنا داخل جدران المدرسة في جو تربوي وتعليمي، وكان في رأيي أمراً جيداً جداً. شبابنا منفتح ويشارك في كل النشاطات. كان هناك شبيبة المقاصد والدفاع المدني المقاصدي، وشكلت مدارسنا قلاعاً وطنية. تلامذتنا تسلحوا بتعاليم دينهم ومارسوا دورهم في المجتمع في شكل ملتزم وانضباطي ووطني. يبدو أن بعض التغيرات في المقاصد تمت لاعتبارات مالية، ماذا عن استمرار هذه المدارس في ظل ما أشرت اليه من أوضاع معيشية متردية؟ - الواقع الاقتصادي يفرض علينا أعباء مالية كبيرة جداً. ولا شك في أن المساعدات والمنح التي تأتينا في شكل سخي وخصوصاً من الدول العربية والإسلامية الشقيقة تساعدنا كثيراً، وفي مقدم هذه الدول المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وغيرها، ولا بد من أن أسجل شكراً خاصاً لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الذي يعتبر المقاصد مؤسسة حيوية وأساسية في دعم المجتمع العربي والإسلامي. لكننا اليوم في وضع صعب ولا يمكننا رفع الأقساط والرسوم على رغم أن الذين يدفعون الأقساط يشكلون نسبة 30 في المئة من طلابنا فقط، والباقي مجاني، ولكن مع ذلك تراجع عدد تلامذتنا في السنوات الثلاث الماضية بنسبة كبيرة وانتقلوا الى المدرسة الرسمية. ألا تعتقد أن الخطوات التي اتخذتموها قد تتعارض مع أفكار المتبرعين؟ - المتبرعون لم يتدخلوا يوماً في شؤون المقاصد وهذه من الأمور التي نقدرها، فلم تكن المساعدات في يوم من الأيام مشروطة بطلب أو برأي أو موقف، إنما تترك للمقاصد حرية التصرف بشؤونها لما فيه مصلحتها في لبنان.