اكتسب مفهوم التنمية البشرية رواجاً كبيراً منذ العام 1990 بتبني برنامج الأممالمتحدة الانمائي مضموناً محدداً ومبسطاً له. وبحسب توجه هذا البرنامج فإن هذا المفهوم شمل ثلاثة أبعاد: الاول خاص بتكوين القدرات البشرية مثل رفع مستوى الرعاية الصحية وتطوير القدرات المعرفية. والثاني يتعلق باستخدام البشر لهذه القدرات للاستمتاع أو الانتاج. والثالث ينصرف الى نوع ومستوى الرفاه الانساني بجوانبه المختلفة. وفي وقت نجحت الدول المتقدمة في تأمين معدل مرتفع من التنمية البشرية لمجتمعاتها، فإن الدول النامية لم تستطع تحقيق مثل هذا التقدم. ويرجع هذا الى أسباب عدة يمكن اختصارها في رشادة السياسات المتبعة في الدول المتقدمة مقابل افتقاد هذه الصفة في الدول النامية، ما يجعل هذه الأخيرة في مستوى متدنٍ من حيث مؤشرات التنمية البشرية المختلفة. ولكن هذا لا يعني أهمية عنصر الوفرة الاقتصادية كمدخل لتحقيق التنمية البشرية، فإشباع الحاجات الأساسية للمواطن يتطلب أن تكون الدولة ذات موارد ملائمة. فنقص هذه الموارد ينعكس سلباً على مدى قدرة هذه الدولة على إشباع تلك الحاجات، وإن بقيت أهمية عنصر الكفاءة في صوغ السياسات العامة وفي القلب منها السياسات الاجتماعية كشرط يتمتع بأهمية قصوى لتحقيق أقصى استخدام ممكن للموارد الاقتصادية التي هي وبحكم طبيعتها تتمتع بخاصية الندرة. ويبدو الوضع في العالم العربي شبيها بنظيره في الدول النامية التي تندرج الدول العربية في إطارها في ما يتعلق بالمشاكل التي تواجه عملية التنمية البشرية في كل منهما، إذ أن ثمة مؤشرات كثيرة تدل على ضعف عملية التنمية البشرية في العالم العربي استناداً الى معظم، إن لم يكن كل، مؤشرات هذه العملية، وإن كان ذلك بطبيعة الحال بدرجات متفاوتة، فهناك مجموعة من الدول الغنية التي استطاعت تأمين مستوى معيشي مرتفع لمواطنيها، مقابل مجموعة أخرى تتعثر حقا في توفير مجرد الحياة الكريمة لها. والمؤشرات التي تؤكد وجود اختلالات هيكلية في عملية التنمية البشرية في العالم العربي عديدة وربما تستعصي على الحصر. والجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة. لكن الفقر في الحقيقة ليس سوى جزء من المشكلة. فإلى جانبه هناك مؤشرات كثيرة على ضعف مستوى الرعاية الصحية، وثمة انحسار واضح في فرص التعليم الجيد، وهناك غياب كامل أو ضعف مزمن في سياسات الأمان الاجتماعي أو غيابه بالكامل. أما الحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، فهما اكثر استشراءً من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية. إذ تشير الاحصاءات الى أن نسبة الحرمان بمعايير التنمية الانسانية الأساسية تبلغ حوالي 4،32 في المئة من إجمالي السكان في الوطن العربي، ويشير تقرير الأممالمتحدة عن التنمية البشرية العام 2002 الى أن غالبية الدول العربية تأتي في المرتبة المتوسطة في هذا المؤشر، الذي يضم 173 دولة وتأتي اسرائيل في المركز ال 22 فيه. وفي تصوري أن أهم تحدٍ يواجه التنمية البشرية في العالم العربي يتمثل في مشكلة الديموقراطية في النظم العربية. فالمقارنة تكشف عن تقدم خطى المشاركة والتعددية السياسية في مناطق أخرى من العالم أكثر منها في البلاد العربية. فقد طورت معظم بلدان اميركا اللاتينية وشرق آسيا في الثمانينات وبلدان شرق أوروبا وأخرى في وسط اسيا في اواخر الثمانينات واوائل التسعينات نماذج ديموقراطية حديثة، وفي المقابل ما زالت الدول العربية متعثرة على هذا الدرب. وبينما تنص الدساتير والقوانين على قيام الحكم في الدول العربية على المبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان، فإن التطبيق العملي يخالف هذه النصوص النظرية. فكثيراً ما يتسم نمط الحكم في العالم العربي بجهاز تنفيذي قوي يسيطر على كل أجهزة الدولة، بحكم محورية دور رئيس الدولة أو ملكها أو أميرها، والمشاركة السياسية ضعيفة للغاية، ما أدى الى اللامبالاة. أما أسباب هذه الأزمات التي تعاني منها عملية التنمية البشرية في العالم العربي، فهي عديدة وتعود بالأساس الى عدم كفاءة السياسات الاجتماعية للدولة العربية. وهذا هو الجزء الظاهر من سبب المشكلة، التي هي في حقيقة الأمر أكثر تعقيداً، وتمتد لتشمل السياسات العامة كافة التي يتم صنعها في العالم العربي. ذلك أن الدولة العربية ورغم مرور حوالي نصف قرن على تأسيسها في صورتها الحديثة، أي منذ حصولها على استقلالها عن الاستعمار، فإنها ما زالت تواجه، وفي وقت واحد، تلك الأزمات التي تواجه الدول حديثة الاستقلال والتي تحول دون أن تعمل هذه الدولة بشكل استراتيجية يتسند الى مؤسسات راسخة. وهنا يمكن الحديث عن أزمات طاحنة تواجه عملية صنع السياسات العامة في الوطن العربي. وهناك أمثلة عديدة على ذلك في مجالات مختلفة. فعلى الصعيد الاقتصادي ورغم التوجهات العربية لدعم سياسات الخصخصة ونظام اقتصادي السوق الحرة، فإن هذه التوجهات ما زالت مترددة حجول حسم خيار النظام الاقتصادي الذي ينبغي اتباعه، ناهيك عن المشاكل لجوهرية التي واجهت عملية الخصخصة ذاتها والتي خلفت احتكارات لفئات معينة على قطاعات اقتصادية بعينها بعضها بالغ الدقة والحيوية في الاقتصاد القومي. وعلى المستوى السياسي، رغم عمليات الانفتاح التي طالت النظم السياسية العربية بدرجات متفاوتة، إلا أن هذا الانفتاح ظل عاجز عن التبشير بديموقراطيات حقيقية. وفي هذا الإطار فإن قدراً لا بأس به من الفساد ما زال متجذراً في هذه النظم على النحو الذي يلقي بآثار شديدة السلبية على مختلف مناحي الحياة العربية. وعلى الصعيد الثقافي، فإن الدول العربية ما زالت تعيش في معركة التصادم بين ما يسمى بالخصوصية والعالمية، ولم تستطع ان تحسم خياراتها لجهة الاندماج في تيار العولمة، ولم تحدد إلى أي مدى يمكنها أن تعيش في عزلة أو بأي قدر يجب ان تندمج في النظام العالمي الذي أصبح بالفعل بمثابة قرية واحدة لا تعرف الحدود. ومن المؤكد ان تفعيل أداء الدولة العربية على صعيد السياسات الاجتماعية أو غيرها يتطلب في المقام الأول حسم هذه الاشكاليات الكبرى أولاً، وهو ما سيؤدي الى تمكين هذه الدولة من العمل بشكل استراتيجي يحدد أهدافاً واضحة وآليات محددة لتحقيق هذه الأهداف. أما السير بعشوائية نحو المستقبل فلن يكون إلا سيراً متردداً ومتخطباً، غير قادر على صنع ما نتمناه لأبناء هذه الأمة. واذا كانت قضية الديموقراطية تمثل أحد المحاور المهمة للتغلب على مشاكل التنمية البشرية في الدول العربية. فعملية التنشئة الاجتماعية بدورها لها دورها المهمة جداً في هذا الصدد. فالتنشئة في الصغر هي بداية التكوين الحقيقي للقوى البشرية. ولا شك أن الأسرة تقع على عاتقها مهمة التنشيطة السليمة لابنائها. وهي تنشيئة يجب أن تستند الى مجموع القيم الدينية والمجتمعية السليمة التي تسهم في تكوين الشخصية السوية. ويقع على وسائل الاعلام المختلفة مهمة صوغ هذه الشخصية جنباً الى جنب مع الأسرة. وهناك أهمية قصوى لموضوع التدريب كآلية لاكتساب المعارف الجديدة التي تتغير يوما بعد يوم في ظل ثورة المعلومات التي نحياها. والتدريب قضية تتكامل مع قضية التعليم في تزويدها للقوى البشرية بالمهارات التي ترتبط بتكنولوجيا الادارة الحديثة بما يحمله ذلك من إتقان استخدام الكمبيوتر وإجادة اللغات الاجنبية، وكذلك المفاهيم الحديثة للإدارة وتطوير المنظمات. وعلى هذا النحو يمكن القول إن هناك حاجة ملحة لبلورة استراتيجية محددة في العالم العربي للتعامل مع أزمات التنمية البشرية، وتنهض هذه الاستراتيجية على تلك المحاور التي من شأنها تعظيم تمتع الفرد بأقصى قدر ممكن من حاجاته الأساسية، سواء التي تتعلق بالحاجات المادية أو التي تنصرف الى ما يتعلق بالحريات والحقوق السياسية. * نائبة سابقة في البرلمان المصري.