يكاد الاجماع يحصل بين مغازلي الرأي العام الشعبي على حصر اسباب تعثر الأمة في عامل وحيد هو عدم نجاعة النخبة السياسية العربية، فهم يؤكدون تفاهة فعلها في الداخل والخارج مستدلين بعدم التأثير في الاحداث الجارية، ما جعل شعوبنا تصبح موضوعاً منفعلاً وفاقدة لكل ذاتية مؤثرة. هذا الفهم أصبح سائداً منذ ان بات الحل والعقد في توعية الرأي العام أمراً مهملاً يباشره كل من هبّ ودبّ فيتصدر النقد السياسي والخبرة الاستراتيجية ويغسل يديه من المسؤولية الخلقية عن العجز الذي يمثل السمة الغالبة على كل الوجوه الأخرى من حياتنا. وما يهمنا هنا هو نخب الفكر التي اضحت تكتفي بالاحالة على عجز ساحتنا السياسية، العجز الذي من أهم علاماته عربدة شارون فضلاً عن عجرفة بوش. كان في وسع المرء ان يسكت أمام التشخيص السهل لخطباء الفضائىات العربية من المثقفين ومعلقينا الاستراتيجيين من الصحافيين لو لم يكن السكوت سبيلاً الى الاسهام السلبي في الإعداد للحلول الخطرة التي تنقلب في غالبية الحالات الى مأزق أعسر من المأزق الحالي. قد تدخل المنطقة العربية في فوضى من الانقلابات شبيهة بنصف القرن السابق فتتمكن أميركا واسرائيل من وأد النهضة والصحوة الى الأبد. فاتهام النخب السياسية وحصر الداء فيها، غالباً ما يجعلان الحل مستنداً الى ضرورة التغيير السياسي العنيف باسم أي ايديولوجية يجد فيها الديماغوجيون الذين هم في الغالب عملاء متنكرون بشعارات تغازل العواطف الشعبية محفزات لتأليب الجماهير وتوجيهها نحو الحلول الوهمية. لذلك فنحن نريد ان نسأل عن الاسباب العميقة للعجز التي تتحمل مسؤوليتها النخب الفكرية الناقدة للنخب السياسية، ما يجعل حصر المشكل في اخلاص الساسة أو عدم اخلاصهم اقتصاراً على رؤية الوجه السطحي من العجز. لا بد من ان نسأل السؤال الأساسي: ما الذي يجعل كل النخب السياسية ذات المواقف المسؤولة حقاً والتي يصعب ان يشكك المرء في اخلاصها ولا ينكر وجودها الا معاند على رغم اننا لا ننكر ندرتها تتشبث بشعرة معاوية بمعنى يفهمه جميع العرب، أعني رمزاً للمناورة السياسية مع أميركا وتكبت شعرة سيدنا علي بمعنى مغربي صرف، أعني رمزاً للغضب للحق والاستماتة في الدفاع عنه أياً كانت الكلفة؟ اذا لم نجب عن هذا السؤال بالصراحة العقلية والجرأة الخلقية الواجبتين نكون قد تخلينا عن مسؤوليتنا الروحية التي نستمدها من دور العقل ذي العزم في معركة القيم والمعاني غايات للفعل الانساني، وفي معركة الحقائق والأفعال أدوات له. فليس للفكر من سلطة معنوية تؤثر في الرمز اذا لم يكن ذا سلطة فعلية تؤثر في الواقع: انه لا يستمد تأثيره الرمزي الا من تأثيره الفعلي. كذلك كان شأنه دائماً حتى في عصور الفكر الاسطوري. ليس للفكر من أثر رمزي على ارادات البشر وسلوكهم الا في حدود ما له من أثر مادي على عطالات الأشياء وسلوكها على الأقل، بحسب ما يعتقد المتأثرون بالمفعول الرمزي. ومن هذا الجنس يكون تأثير السحرة لمن يعتقد في تأثير السحر. ولعل من أعجب الأمور ان المثقف العربي يعجب من عدم تأثيره الرمزي من دون ان يسأل عن العلة التي هي عينها علة العجز الذي يحمل السياسي مسؤوليته. يعي الجميع ان السياسي، مهما نسبنا اليه من سلطة، لا يتجاوز دوره الحقيقي: تصريف الموجود من الأمور وانه ليس صاحب عصا موسى: لا يستطيع ان يصرف العدم. والأمور التي يصرفها السياسي ليتصرف بصورة مؤثرة تعود كلها الى الأثر الفعلي الذي يمكن ان يعود الى أثر العقل في عطالات الاشياء جسراً الى التأثير في ارادات البشر. وهذه الأمور قابلة للحصر، فهي ضربان: 1- ثمرات العلوم النظرية التي تمكن من السلطان على الطبائع والأشياء، 2- وثمرات العلوم العملية التي تمكن من السلطان على الشرائع والناس. وتعود مسؤولية العجز السياسي فيها الى مسؤولية العجز الفكري ضعفين: 1- عدم نجاعة النظام التربوي الذي يكوّن الرجال القادرين على المعرفة المبدعة علوم الطبيعة وتتبعها قوة الأمة المادية ببعديها العسكري والاقتصادي والقدرات الرمزية للفعل المؤثر في الناس علوم الانسان وتتبعها قوة الأمة الروحية ببعديها الرمزي والفعلي 2- عدم الوعي بأن ذلك هو سر القوة الوحيد وان حصر المسألة في اخلاص الساسة او عدم اخلاصهم، على رغم أهميته، ليس الا من الملهيات عن العلل العميقة للعجز العربي. فالمهرب السهل المتمثل في حصر المسألة في النخب السياسية يؤول الى تحويل المعركة الى معركة هدفها الأساسي هو الصراع على الحكم بكل الوسائل. وقد عانينا هذا الداء العضال منذ الفتنة الكبرى، فقد باتت الوسائل أهم من الغايات ففقدت الغايات الحقيقية والوسائل الفعلية واستبدلت بالشبائه التي تبعد الأمة عن رسالتها وما تستلزمه من أدوات الفعل المادية والرمزية، أعني علوم الطبيعة او علوم العالم وعلوم الشريعة او علوم الانسان. وذلك كله يوطد اسباب العجز التي ترجع كلها من دون استثناء الى عدم التخلص من العقل العاجز واستبداله بالعقل القادر. ومن ثم فهروب المفكرين الى الحل السياسي السهل فقداناً للوعي بأصل الداء هو الجريمة النكراء التي أنسبها الى الفكر العربي، وبالذات الى المنظومة التربوية العربية. عربدة شارون وعنجهية بوش علتهما فشل المنظومة التربوية العربية بخاصة والاسلامية بعامة وليس ارادة الساسة او عدم ارادتهم الرد عليهما، اللهم الا اذا أردنا منهم السلوك المتهور الذي يؤدي الى عكس المطلوب كما حصل في الكثير من المعارك السابقة. ليست الجيوش الاسرائيلية هي التي هزمت الجيوش العربية بل المنظومة التربوية الاسرائيلية بخاصة والغربية بعامة هي التي هزمتنا، لكون منظومتنا التربوية فشلت في تحقيق تربية لإنسان قادر على ابداع ضربي الوسائل المشار اليهما وعوضهما انتاج ما يحلو للعاطلين والمثرثرين في الفضائيات من سخافات يهرعون اليها ليوطدوا التخلف باسم تيارات لا تغير شيئاً من واقع العجز، لكونها تحصر المعركة في تبادل التهم والجدل العقيم الذي لا يختلف كثيراً عن الهذيان. لذلك فإن المرء عليه الا يعجب اذا بلغ اليأس ببعض الشباب الى سلوك يكاد يؤول بالأمة الى ما آل اليه امر الخلافة العثمانية خلال توحيد العالم الغربي عليها حرباً على القرصنة التي انتجها الغرب ثم جعلها سرطان المسلمين، تماماً كما هو الشأن في قضية الارهاب، فهو سلاح استعملته اميركا وروسيا في معركتهما على اقتسام السلطة في العالم الثالث وأوروبا، ثم صدّرتاه الى المسلمين الذين وقعوا في الفخ تصوراً منهم انه يمكن ان يكون وسيلة لاسترداد الحقوق او لاستئناف الدور التاريخي، تماماً كما حصل في القرصنة. لا يمكن حضارة من مستوى الحضارة الاسلامية التي كان سقفها الأول رسالة كونية ان تتحول الى سلوك انتحاري لفعل وردود فعل فوضوية لا يختلف جوهرها عن حلول القرصنة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، على الأقل من حيث النتائج البعيدة: توحيد كل الأعداء. فالارهاب في القرنين العشرين والحادي والعشرين ليس أداة في خطة سياسية تحريرية بل هو سرطان ينخر كيان الأمة قبل ان يكون موجهاً الى العدو. لذلك فلا ينبغي ان نقارنه بمعارك التحرير الوطني التي أجمعت عليها الأمة في اطار خطة ذات اهداف سياسية وحضارية موجبة. فرقعة هنا وانتحار هناك لا يضعفان العدو بل يقويانه، فهما يقضيان على كثير من قدرات الأمة على التحرر وتحرير البشرية من الطاغوت ويلهيها لئلا تدرك ان سر القوة هو تغيير النظام التربوي حتى يصبح بوسعه تحقيق أداتي القوة المادية والروحية. واحد في المئة مما صرف على شراء خردة الجيوش الغربية وفضلاتها او تنظيم العمليات المزعومة جهادية، كان يمكن ان ينشر التربية في كل العالم الاسلامي فيعيد للغة القرآن دورها العالمي، وأن يكون معاهد علمية طبيعية وانسانية وجامعات تفوق جامعات اسرائيل وأميركا قدرة على الابداع، بدلاً من تحويل منظومة التربية العربية الى مجرد مؤسسة لانتاج العاطلين والثرثارين أو مؤسسة تابعة للأحزاب الجاهلة التي تنتج الطحالب في ميداني الابداع الرمزي والعلمي المصابين بالايدز في لحظتنا العربية الحالية. بذلك ملئ الكثير من صحفنا وتلفزيوناتنا ومنشوراتنا بالشعارات الجوفاء، فكانت الطريق المعبدة لعربدة شارون وعنجهية بوش. * كاتب تونسي.